يمثل قطاع العقارات في الصين أكثر من 30% من اقتصاد التنين، ويبدو أن "فقاعة" النمو قد انفجرت مع وجود ملايين المنازل الخالية، فماذا يعني ذلك لبكين ولاقتصاد العالم ككل؟
بداية من المهم التوقف عند مدى تأثير الاقتصاد الصيني، الذي يمثل ثاني أكبر اقتصادات العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، على جميع نواحي الحياة حول الكرة الأرضية، إذ إن الصين تمثل مصنع العالم وشريانه الرئيسي، وبالتالي فإن أي هزة اقتصادية في بكين يتردد صداها في أركان المعمورة، بحسب خبراء الاقتصاد.
وعلى الرغم من التعافي السريع للاقتصاد الصيني في ظل الأزمة الحالية التي انطلقت من مدينة ووهان أواخر عام 2019 عندما تفشى فيروس كورونا، فإن هذا التعافي بدأ يواجه أزمات متعددة كأزمة الطاقة وأزمة قطاع العقارات.
وتناولت شبكة CNN الأمريكية أزمة قطاع العقارات في الصين وتداعياتها في تقرير بعنوان "أزمة شركة إيفرغراند تسلِّط الضوء على ملايين المنازل الخالية في الصين"، رصد تفاصيل القصة وأرقامها الكاشفة.
كم تبلغ ديون شركات العقارات في الصين؟
وعلى مدى أسابيع، تصدَّرَت المجموعة العقارية الصينية المتعثِّرة إيفرغراند عناوين الصحف بينما ينتظر المستثمرون ليروا ما سيحدث لجبل الديون الهائل الذي تحمله على كاهلها. ومع انتشار الأزمة البطيئة، يشير مُحلِّلون إلى قضيةٍ أساسية أعمق: سوق العقارات في الصين يهدأ بعد سنواتٍ من فائض العرض.
ولا يزال تداعي إيفرغراند يحظى باهتمامٍ عالمي، لكن مشكلاتها جزءٌ من مشكلةٍ أكبر بكثير. وأخيراً، ركَّزَت السلطات الصينية على أزمة إيفرغراند، إذ قال بنك الشعب الصيني في بيان الجمعة 15 أكتوبر/تشرين الأول، إن الشركة أساءت إدارة أعمالها، لكن المخاطر على النظام المالي لا تزال "قابلة للسيطرة".
وقال زو لان، مدير إدارة السوق المالية في البنك المركزي الصيني، في مؤتمرٍ صحفي: "في السنوات الأخيرة، فشلت الشركة في إدارة أعمالها بشكلٍ جيِّد والعمل وفقاً لتغيُّرات السوق. في المقابل، تنوُّعَت وتوسَّعَت بشكلٍ أعمى، مِمَّا أدَّى إلى تدهورٍ خطيرٍ في مؤشِّراتها التشغيلية والمالية، ما ولَّد مخاطر في النهاية".
وكانت علاماتٌ تحذيريةٌ تومض لبعض الوقت، إذ قبل تداعي إيفرغراند، كان يُعتَقَد أن عشرات الملايين من الشقق شاغرة في جميع أنحاء البلاد. وفي السنوات الأخيرة، تفاقَمَت المشكلة.
يقدِّر مارك ويليامز، كبير الاقتصاديين المُختصين بآسيا في شركة Capital Economics البحثية، إن الصين لا يزال لديها حوالي 30 مليون عقار غير مبيعة، ويمكن لهذه العقارات أن تستوعب 80 مليون شخص. وهذا يقارب إجمالي سكَّان ألمانيا.
علاوة على ذلك، من المُحتَمَل أنه تم شراء حوالي 100 مليون عقار، لكنها لم تُستخدَم، وهذه العقارات وحدها يمكنها استيعاب ما يقرب من 260 مليون شخص، وفقاً لتقديرات الشركة البحثية. واجتذبت مثل هذه المشاريع الكثير من الأنظار لسنواتٍ من الزمن للتدقيق فيها، حتى أنه أُطلِقَ عليها "مدن الأشباح" في الصين.
وبصفتها المُطوِّر الأكثر ديوناً في الصين، أصبحت التزامات إيفرغراند تزيد قيمتها عن 300 مليار دولار. ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً يرصد جبال الديون التي تعاني منها الشركة، وكيف يمكن أن ينعكس ذلك على الاقتصاد الصيني، ومن ثم الاقتصاد العمالي بشكل عام.
كيف بدأت مشكلة "مدن الأشباح"؟
وهذه نظرة على بعضٍ من هذه المشاريع، وكيف نشأت المشكلة لأول مرة. فالعقارات والقطاعات ذات الصلة تشكل جزءاً كبيراً من اقتصاد الصين، إذ تمثِّل ما يصل إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب ويليامز، فإن الناتج الاقتصادي المرتبط بالبناء والأنشطة المتصلة به "أعلى بكثيرٍ منها في الاقتصادات الكبرى الأخرى".
على مدار عقودٍ من الزمن، ساعَدَ ذلك الصين في الحفاظ على نموٍ اقتصاديٍّ سريع. لكن لسنوات، تساءَلَ النقَّاد عمَّا إذا كان محرِّك النمو هذا يمثِّل قنبلةً موقوتة لثاني أكبر اقتصادٍ في العالم. ويرجع ذلك جزئياً إلى الديون الهائلة التي تحمَّلها العديد من المُطوِّرين لتمويل مشاريعهم.
ومع ذلك، أشارت كريستينا تشو، الخبيرة الاقتصادية في Moody's Analytics للأبحاث الاقتصادية، إلى أن "إيفرغراند ليست الوحيدة التي تكافح الديون". فخلال الأيام الماضية، كشف عددٌ كبيرٌ من المُطوِّرين الآخرين عن مشكلاتٍ في التدفُّق النقدي الخاصة بهم، وطالبوا المُقرِضين بمزيدٍ من الوقت لسدادها أو التحذير من حالات التخلُّف المُحتَمَلة عن سداد الديون.
وفي تقريرٍ حديث، كتبت تشو أن 12 شركة عقارية صينية تخلَّفَت عن سداد سنداتٍ بلغ مجموعها حوالي 19.2 مليار يوان (ما يقرب من 3 مليارات دولار) في النصف الأول من العام. وأضافت: "يمثِّل هذا ما يقرب من 20% من إجمالي حالات التخلُّف عن سداد سندات الشركات في الأشهر الستة الأولى من العام، وهي أعلى نسبة في جميع القطاعات" في الصين.
وكانت جائحة كورونا قد أدت إلى توقُّف النشاط مؤقتاً، لكن البناء عاد إلى الحياة في وقتٍ لاحقٍ مع إعادة فتح الأعمال في الصين، وشهد سوق العقارات في البلاد انتعاشاً لم يكن عمره طويلا. إذ تعثَّرَ السوق منذ ذلك الحين مرةً أخرى، وليس هناك ما يشير إلى احتمال حدوث انتعاشٍ آخر على المدى القصير.
فقد أشارت تشو إلى أنه خلال الأشهر القليلة الماضية، تراجَعَت "مقاييس نمو الأسعار، وبدأ بناء المساكن" بشكلٍ كبير. وأضافت أنه في أغسطس/آب، تراجعت مبيعات العقارات، قياساً بمساحة الأراضي المبيعة، بنسبة 18% مقارنةً بالوقت نفسه من العام الماضي.
وفي الشهر نفسه، ارتفعت أسعار المساكن الجديدة بنسبة 3.5% مقارنةً بالعام السابق، وهو أقل نموٍ منذ انتعاش سوق العقارات من تداعيات الجائحة في يونيو/حزيران 2020.
هل يمكن أن تخرج الأمور عن السيطرة؟
وكتب ويليامز في مذكرةٍ بحثية: "الطلب على العقارات السكنية في الصين يدخل حقبةً من التراجع المستمر". وقد أطلق على ذلك "جذر مشكلات إيفرغراند، ومشكلات المُطوِّرين ذوي المديونيات العالية".
ثم هناك مشكلة المشاريع غير المكتملة، حتى لو كان هناك طلبٌ بالفعل. تُباع غالبية العقارات الجديدة في الصين -حوالي 90% منها- قبل اكتمالها، ما يعني أن أيَّ انتكاسةٍ لبناة المساكن يمكن أن تؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ على المشترين، وفقاً لخبراءٍ اقتصاديين. وقال ويليامز: "يمنح هذا السلطات حافزاً قوياً لضمان استمرار المشاريع الجارية مع إعادة هيكلة المُطوِّرين الفاشلين".
ووفقاً لتحليلٍ حديثٍ أجراه بنك أمريكا، وهو مصرف استثماري متعدِّد الجنسيات، فقد باعت إيفرغراند 200 ألف وحدة سكنية لم تُسلَّم بعد للمشترين. وأدَّى ذلك إلى تفاقم المخاوف من أن مشتري المنازل قد يُتركون دون وحداتٍ سكنية.
وحوَّلَت الحكومة الصينية في الأسابيع الأخيرة تركيزها إلى الحدِّ من تداعيات الأزمة وحماية الناس العاديين. وفي بيانٍ صدر في أواخر الشهر الماضي، سبتمبر/أيلول، لم يشر على وجه التحديد إلى مجموعة إيفرغراند، تعهَّد بنك الشعب الصيني بـ"الحفاظ على تنمية سوق العقارات، وحماية الحقوق والمصالح المشروعة لمستهلكي الإسكان".
وقال زو لان، مسؤول البنك المركزي، إن إيفرغراند كانت ظاهرةً معزولة، وأضاف للصحفيين: "حافظ سوق العقارات المحلي على استقرار أسعار الأراضي والمساكن. وتعمل معظم الشركات العقارية بثباتٍ، ولديها مؤشراتٌ مالية جيِّدة. تعيش صناعة العقارات حالةً جيِّدةً بشكلٍ عام".
ليست كلُّ الشركات العقارية في حالةٍ يُرثَى لها، ففي حين أن بعض الأطراف تكافح الديون بما لا يدع مجالاً للشك، "ليس معظم المُطوِّرين على شفا التخلُّف عن سداد الديون"، وفقاً لجوليان إيفانز بريتشارد، كبير الاقتصاديين المختصين بالصين في Capital Economics.
وقال في مذكرةٍ للعملاء: "مع استثناءين، فإن معظم المُطوِّرين الرئيسيين في وضعٍ ماليٍّ أقوى بكثير من إيفرغراند، وينبغي أن يكونوا قادرين على تحمُّل ارتفاعٍ مؤقَّتٍ في تكاليف الاقتراض وسط مخاوف من تفشي عدوى التخلُّف عن السداد". وأضاف أن ذلك من شأنه أن يوفِّر بعض الطمأنينة، "في ظلِّ التوتُّرات الحالية في السوق"، على الأقل على المدى القصير. لكن بالنسبة للمدى الطويل، كتب إيفانز بريتشارد: "النجاح في التغلُّب على التدهور الهيكلي في الطلب على الإسكان خلال العقد المقبل سيكون أصعب".
ولأن المصائب لا تأتي فرادى كما يقال، تواجه الصين أيضاً تفاقماً في أزمة الطاقة بصورة غير مسبوقة؛ إذ تستعد المصانع الصينية وعملاؤها في جميع أنحاء العالم، لاضطرابات إمدادات الطاقة التي ستصبح جزءاً تقليدياً من الحياة، في ظل السعي الحثيث للرئيس شي جين بينغ، على دفع ثاني أكبر اقتصاد في العالم للتخلي عن الفحم، بحسب تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.
وبعد شهور من نقص في إمدادات الطاقة أدى إلى قطع الكهرباء عن المنازل في شمال شرقي الصين وحتى عن المصانع في جميع أنحاء البلاد، لا يزال الطلب على الطاقة يرتفع وسط مستوى قياسي من الطلب على الصادرات الصينية، لكن المشاكل بصدد أن تتفاقم مع الانخفاض المحتمل لدرجات الحرارة في الشتاء.