صعَّدت إسرائيل ودول غربية موقفها بشكل غير مسبوق ضد إيران، في تهديدات موحدة حملت تلميحاً بإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري لوقف البرنامج النووي الإيراني.
وتوقفت المحادثات في فيينا لإحياء الاتفاق منذ يونيو/حزيران 2021، عندما انتخب القاضي المحافظ إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران، وتولى منصبه في أغسطس/آب.
تضم المحادثات إيران والأطراف المتبقية في الاتفاق -الصين وروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا- لكن الولايات المتحدة كانت تشارك بشكل مباشر.
واقتربت محادثات فيينا في آخر جولاتها من الوصول لاتفاق حول ملف إيران النووي لدرجة أنه قيل إن بعض المفاوضين، تركوا بدلاتهم في فيينا على أمل العودة قريباً.
وكانت هناك بعض النقاط العالقة أبرزها مسألة هل ترفع العقوبات الأمريكية أولاً، أم تعود إيران لالتزاماتها النووية، ولكن العائق الأكبر بدا طلب إيران تقديم الولايات المتحدة لضمانات بشأن ضرورة عدم خروجها من الاتفاق النووي مجدداً، كما هناك طلبات أمريكية بشأن برنامج إيران الصاروخي، وحتمية التفاوض حول اتفاقية أخرى مع قرب انتهاء أجل الاتفاق النووي الحالي.
وتشير إيران إلى أنها قد تعود إلى المحادثات النووية الشهر المقبل، حيث تقول خارجيتها إن المحادثات في فيينا مع القوى العالمية قد تبدأ مرة أخرى في الأسبوع الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 2021 في ظل مخاوف من تحقيقها تقدماً في برنامجها النووي، حيث وصفها المسؤولون الإسرائيليون بأنها دولة عتبة نووية.
محاولة من إيران لتقوية موقفها
ويبدو أن إيران تحاول تقوية موقفها في المفاوضات وتحقيق مكاسب فنية في برنامجها النووي، وفي هذا الإطار، طالب رئيس البرلمان الإيراني مؤخراً، برفع العقوبات الأمريكية "كخطوة أولى" لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015.
وقال المسؤول النووي الإيراني محمد إسلامي إن إيران تواصل تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% وقد قامت بتخزين أكثر من 120 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب.
قوبلت هذه المواقف الإيرانية بتحركات إسرائيلية لافتة، فعلى عكس رئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتنياهو الذي عارض الاتفاق النووي برمته ودخل في صراع مع إدارة أوباما ثم بادين بسبب هذا الاتفاق، فإن الثلاثي الحاكم في إسرائيل حالياً رئيس الوزراء نفتالي بينيت، ووزير الخارجية يائير لابيد، ووزير الدفاع بيني غانتس، سلك مقاربة مختلفة، أعلن أن تل أبيب لن تدخل في خلاف مع الإدارة الأمريكية بسبب الملف النووي الإيراني، بشرط أن يكون لدى إدارة بايدن خطة بديلة في حال تعثر المفاوضات النووية.
خطة الموت بألف طعنة
وخلال لقاء بينيت مع بايدن في أغسطس/آب 2021، عرض خطة إسرائيلية تسمى "الموت بألف طعنة"، وهي تستهدف إيران من خلال أساليب مماثلة لما جرى مع الاتحاد السوفييتي، وقيل إن ميزتها أنها تجنّب الجميع وقوع حدثٍ دراماتيكي منفرد يُشعل صراعاً أكبر في منطقة الخليج.
وقال المسؤولون الإسرائيليون إن الاستراتيجية التي قدمها بينيت إلى بايدن تتضمن مواجهة إيران؛ من خلال مجموعة من الإجراءات الصغيرة عبر عدة جبهات -عسكرية ودبلوماسية- بدلاً من توجيه ضربة واحدة دراماتيكية.
وعلاوةً على ذلك، فقد حصل بينيت على تصريحٍ علني من بايدن بأنّه جاهزٌ لاستكشاف "خيارات أخرى" في حال فشلت الدبلوماسية أن تضمن عدم حيازة إيران لأسلحةٍ نووية. وهذه هي "الخطة ب" التي كان بينيت وحكومته يدعون لها علناً، وقد حصل على مراده فيها.
تهديد إسرائيلي بالحرب بدعم غربي
ويبدو أن هذا بدأ يتحقق لبينيت بل قد يبدو أن إسرائيل تلوح بدعم غربي بما هو أكثر من خطة موت بألف طعنة، إذ قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيريه الإسرائيلي يائير لابيد، والإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد: "سنبحث جميع الخيارات لمواجهة التحديات التي تمثلها إيران".
وقال لابيد: "إذا لم يصدق الإيرانيون أن العام جاد في إيقافهم، فسيسرعون إلى صنع قنبلة. إسرائيل تحتفظ بحق التصرف في أي لحظة وبأي طريقة".
وسبق أن قصفت إسرائيل مواقع نووية في العراق وسوريا.
وبينما شدَّد المسؤولون الأمريكيون على أن واشنطن لا تزال تفضل العودة للامتثال للاتفاق الذي انسحبت منه الولايات المتحدة عام 2018 خلال إدارة رئيسها السابق دونالد ترامب، والذي بدأت إيران انتهاك قيوده النووية بعد ذلك بعام تقريبا، ولكنهم بدأوا على ما يبدو هم والأوروبيون في تبني النهج الإسرائيلي في التلويح بخيارات بديلة.
ورغم أنه يفترض أن الخيارات البديلة قد تشمل تعزيز العقوبات، إلا أن الواقع أن إيران تخضع لدرجة عالية جداً من العقوبات الأمريكية، عقوبات جعلتها تجد صعوبة أحياناً في الحصول على لقاحات كورونا، كما أن تأثير العقوبات طويل الأمد، وأيضاً العمليات العسكرية المحدودة تأثيرها غير كبير.
وهذا يعني أن التلويحات الغربية والإسرائيلية الأخيرة، قد يقصد بها عمل عسكري كبير يوقف تقدم البرنامج النووي الإيراني، نحن هنا أمام سيناريوهات قد تتخطى خطة الموت بألف طعنة التي طرحها بينيت على بايدن.
وفي الأسابيع الأخيرة، تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس مرتين عن استعداد إسرائيل لضرب إيران عسكرياً لمنعها من التقدم لبرنامج نووي.
ويبدو أن التلويحات الإسرائيلية هذه المرة تتم بالتنسيق مع الأمريكيين، وليس كما كان يحدث في عهد نتنياهو.
وقال غانتس مؤخراً في إيجاز لسفراء ومبعوثين أجانب: "لا أستبعد إمكانية أن تتخذ إسرائيل إجراءات في المستقبل لمنع إيران نووية". وكما لو أنه يضيف إلى المزاج التحذيري، زعم رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي أن "التقدم في البرنامج النووي الإيراني دفع الجيش الإسرائيلي إلى تسريع خططه العملياتية" لشن هجوم على البلاد وأن "ميزانية الدفاع… التي تمت الموافقة عليها مؤخرًا… تهدف إلى معالجة هذا".
وقد تفاخر بأن فريقاً متخصصاً قد تم تجميعه لتعزيز الاستعداد لضربة على المنشآت النووية الإيرانية إذا أمرت القيادة السياسية الإسرائيلية بمثل هذه الضربة. من جهته، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إن بلاده مستعدة "للعمل بمفردها" ضد إيران إذا شعرت بالحاجة إلى القيام بذلك. صرح بذلك بعد هجوم على ناقلة تديرها إسرائيل قبالة سواحل عمَّان، حملت تل أبيب وحلفاؤها إيران المسؤولية عنه.
نفذت إسرائيل في الماضي عمليات محدودة نسبياً ضد إيران -مثل الغارات على حلفاء إيران في سوريا والتخريب النووي- وقد تستمر في القيام بذلك في المستقبل. ولكن إلى أي مدى تبدو تل أبيب قادرة على توجيه ضربة إلى إيران بسبب التقدم في البرنامج النووي الإيراني.
ترى مجلة Foreign Policy الأمريكية أن القيود السياسية والعسكرية على صانعي القرار الإسرائيليين إلى أن مثل هذه المواجهة العسكرية غير مرجحة إلى حد كبير بدون موافقة أمريكية.
فالحديث عن ضربة وشيكة للجيش الإسرائيلي في عمق الأراضي الإيرانية يعني التغاضي عن معيار راسخ منذ عقود يحكم العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل: لا يمكن لإسرائيل ببساطة تجاهل رغبات ومخاوف راعيها الرئيسي.
هل تستطيع إسرائيل شن غارات واسعة على البرنامج النووي الإيراني؟
من الناحية العسكرية، هناك تفوق عسكري واضح من قِبَل إسرائيل في مجال الطيران، إذ تمتلك إسرائيل طائرات إف 15 وإف 16 وإف 35 الشبحية وهي كلها تستطيع على الأرجح اختراق أقوى نظام دفاع جوي لدى إيران وهو نظام إس 300 الروسي الذي تغلبت عليه إسرائيل بالفعل مراراً في سوريا.
ورغم بعد المسافة، فإن إسرائيل تستطيع ضرب أهداف إيرانية عبر تزويد طائراتها بالوقود جواً، ولكن هذا يحتاج إلى المرور في المجالين الجوي إما العراقي أو السعودي.
المجال الأول فعلياً، يسهل اختراقه بالنسبة لإسرائيل في ظل ضعف قوات الدفاع الجوي والقوات الجوية العراقية، ولكن الأمر يحتاج مواففة أمريكية واضحة، لأن المجال الجوي العراقي ما زال الأمريكيون أصحاب اليد العليا فيه.
أما احتمال استخدام إسرائيل للمجال الجوي السعودي، فإن هذا قد يدفع إيران للانتقام من السعودية، عبر استهداف منشآت النفط التي أثبتت هشاشتها أمام الهجمات الإيرانية مثلما حدث في هجوم منشأة أرامكو عام 2019.
كما أن المفاوضات بين السعودية وإيران حققت تقدماً غير متوقع تسبب في خيبة أمل في تل أبيب، ومن الصعب تصوُّر أن الرياض تفسد هذا التقدم الذي قد يخرجها من المستنقع اليمني من أجل مغامرة إسرائيلية غير مأمونة العواقب.
كما أنه حتى لو تمت هذه الغارة، فإن من الصعب معرفة مدى فاعليتها في ظل بُعد المسافة، وتركيز الإيرانيين منذ سنوات على تحصين منشآتهم النووية وانتشارها في العديد من الأماكن.
في المقابل، هناك ما ستثيره هذه الغارة لإسرائيل من مشاكل منها احتمال تعرضها لهجمات صاروخية إيرانية، ورغم أنها أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية قد تستطيع التصدي لها، ولكن هذا الخيار يظل خطيراً بالنسبة لإسرائيل، خاصة في حديقتها الخلفية.
حيث تحيط بإسرائيل سلسلة من الميليشيات الموالية لإيران في سوريا ولبنان، وهي ميليشيات تعمل من بلد خارجي غير إيران، وبالتالي فإن طهران لديها جرأة في استخدامها ضد إسرائيل، لأن الرد لن يصيب العمق الإيراني، بل سيصيب لبنان وسوريا الذين لا تهتم القيادة الإيرانية بمصيرهما كثيراً.
قد يبدو الحل الأقل تكلفة بالنسبة للإسرائيليين غارات محدودة يمكن التنصل منها ولكن دقيقة وتستهدف تأخير البرنامج النووي الإيراني أو عمليات تخريبية سواء تفجيرية أو سيبرانية، وهو النهج الإسرائيلي القائم بالفعل، ولكن هذا الحل لن يوقف البرنامج النووي الإيراني، ولكن قد يؤخره بالأخص لو أن العملية استهدفت أهدافاً عالية القيمة والأهمية.
احتمالات تنفيذ أمريكا لعمل عسكري
ولكن التلويح بعمل عسكري يكون أكثر جدوى إذا جاء من أمريكا، وليس من إسرائيل، وهو ما بدا ضمناً في تصريحات بلينكن الأخيرة.
لدى أمريكا القدرة على تنفيذ عمليات قصف واسعة ضد إيران سواء من قواعدها بالخليج، أو حاملات الطائرات أو القاذفات من قواعدها في المحيط الهندي والبحر المتوسط.
لا تستطيع إيران وقف هذه الغارات ولا تستطيع حتى إلحاق أذى يذكر بالسفن الأمريكية في الخليج، وطائراتها المحلقة في السماء.
ولكن في المقابل، تستطيع الرد على حلفاء أمريكا في الخليج، علماً بأن العالم يمر بأزمة طاقة غير مسبوقة ومن شأن أي توتر في الخليج أن يصعد بأسعار النفط والغاز بالأخص، لمستويات مخربة للاقتصادات الغربية التي تخشى أن تتجمد هذا الشتاء جراء نقص الغاز.
كما أن أي عمل عسكري أمريكي واسع النطاق، من شأنه تدمير الصفقة النووية برمتها، وسوف تتحول المعركة الأمريكية مع النظام الإيراني إلى معركة صفرية إما يقضي عليه الأمريكيون ويحاولون تنصيب بديل، وبالتالي قد يعلقون في الوحول الإيرانية التي قد تكون أسوأ من العراقية والأفغانية أو يصمد النظام الإيراني أمام الضربات العسكرية ويستطيع أن يدعي أنه منتصر.
وبالنظر إلى أن التقدم الذي تحقق في الجولات الأخيرة في المفاوضات، وبالنظر إلى أن إيران لم تتحول إلى دولة نووية، ومع وضع في الاعتبار أن الحديث عن وصولها للعتبة النووية يحمل قدراً من المبالغة الإسرائيلية والغربية، فإن هذا يجعل كل تلك المواجهة العسكرية المباشرة خياراً شديد الكلفة لكل الأطراف، ودون وجود مبرر حقيقي.
وفي الوقت ذاته، فإن ستمرار الوضع الحالي أيضاً مضر لكل الأطراف، إذ تواصل إيران التقدم في برنامجها النووي، ولكن تتعرض لنزيف اقتصادي مستمر جراء العقوبات الأمريكية.
يعني ذلك أن ما يفعله الطرفان هو تقوية لأوراقهما التفاوضية، ففي مقابل تعزيز إيران هذه الأوراق بالتقدم في عملية تخصيب اليورانيوم، فإن الغرب وإسرائيل يريدان إدخال خيار العمل العسكري كورقة ضغط.
هذا لا يعني استبعاد حدوث عمل عسكري، لكنه في الأغلب عمل عسكري على الطريقة الإيرانية، عمل عسكري سيكون في الأغلب إسرائيلياً وغير مدوّ وشبه خفي، يؤدي إلى ضرر محدود، ولكنه مؤثر للبرنامج النووي الإيراني، يعقبه رد إيراني محدود لحفظ ماء الوجه ينطلق على الأرجح من البلدان العربية الخاضعة لنفوذها.
كل ذلك يبقى في إطار إدارة الصراع بطريقة منضبطة من الطرفين، لتعزيز أوراقهما التفاوضية.
إذ تريد إيران ضمانات بعدم خروج أمريكا من الاتفاق مجدداً، وإبعاد الملفات الإقليمية وبرنامجها الصاروخي من الاتفاق، عكس ما يريد الغرب.
ولكن المشكلة أن محاولة الطرفين تعزيز أوراقهما التفاوضية، عبر التلويح بالعمل العسكري، قد يؤدي إلى انفجار غير متوقع للموقف.
فرغم أن الإيرانيين والأمريكيين سبق أن تغلبوا على أزمات خطيرة مثل مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني التي مرت دون تصعيد خطير في المنطقة فإن دخول إسرائيل في اللعبة ورغبتها في توريط أمريكا في حرب مفتوحة مع إيران بصرف النظر عن تداعيات ذلك على الخليج وأسعار الطاقة، قد يخرج الحرب شبه الساخنة بين أمريكا وإيران عن قواعدها التقليدية.