كشفت نتائج الانتخابات العراقية عن عدة مؤشرات، منها تراجع الحشد الشعبي الموالي لإيران، وزيادة التيار الصدري حصته من المقاعد كأكبر كتلة، فهل تؤدي الانتخابات إلى التغيير الذي أراده الحراك الشعبي؟
وللانتخابات البرلمانية التي أُجريت في العراق، الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول، مؤشرات إيجابية كثيرة من حيث الشكل على الأقل، فهناك نجاح المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في إنجاز الاستحقاق الانتخابي المبكر في موعده، دون تأجيل آخر، إضافة إلى نجاح القوات الأمنية في حماية العملية الانتخابية ومنع وقوع حوادث أمنية مؤثرة.
ومن بين أكثر من 25 مليون عراقي يحق لهم التصويت، أدلى أكثر بقليل من 9 ملايين منهم بأصواتهم في أكثر من 55 ألف محطة انتخابية موزعة على 8273 مركزاً انتخابياً لاختيار 329 نائباً لمجلس النواب الجديد، من بين أكثر من 3200 مرشح في الانتخابات، يمثلون 83 دائرة انتخابية، موزعة على أساس جغرافي في عموم محافظات العراق وفق التمثيل السكاني.
ووفقاً لبيان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فإن نسبة التصويت الأولية (غير النهائية) لانتخابات مجلس النواب بلغت 41%، وهي الأقل من مثيلاتها في الدورات الانتخابية الأربع السابقة، التي بلغت في انتخابات عام 2018 نحو 44.50%.
التيار الصدري أبرز الرابحين
أعلنت المفوضية العليا للانتخابات النتائج عبر موقعها الإلكتروني تباعاً، منذ الإثنين 11 أكتوبر/تشرين الأول، وأظهرت تلك النتائج فوز كتلة "سائرون" التابعة لتيار مقتدى الصدر بالمركز الأول، وحصدت 73 مقعداً (نتائج أولية)، بزيادة مقدارها 19 مقعداً عما حققته الكتلة في انتخابات 2018.
وهذه النتيجة جعلت مقتدى الصدر، الذي كان قد بدأ التحضير للانتخابات مبكراً وأعلن متحدثون باسمه أنه يسعى للفوز وتولي منصب رئاسة الحكومة، يلقي "خطاب النصر" مساء الإثنين، الذي جاء أشبه بـ"برنامج عمل" للحكومة المقبلة.
فقد تحدث مقتدى الصدر بعيد الإعلان عن النتائج الأولية، مرحباً بكل السفارات الأجنبية في العراق، دون أن تتدخل بالشؤون العراقية، ومهدداً في الوقت ذاته "وإلّا سيكون هناك رد دبلوماسي أو شعبي".
وفي الشأن الداخلي، قال الصدر إنه منذ اللحظة "يجب حصر السلاح بيد الدولة ومنع استخدامه خارج هذا النطاق، وإن كان ممَّن يدعون المقاومة"، في إشارة مباشرة إلى ميليشيات الحشد الشعبي المسلحة والحليفة لإيران.
وتناول تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية الموقف بعد ظهور نتائج الانتخابات العراقية، واصفة مقتدى الصدر بأنه أصبح "صانع الملوك"، ومتوقعة أن يستغرق تشكيل الحكومة العراقية أسابيع، وربما شهوراً، في ظل المنافسة التي يخوضها التيار الصدري مع ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران.
وعن أسباب فوز التيار الصدري بالمرتبة الأولى في الانتخابات، التي شهدت أقل نسبة إقبال على الإطلاق منذ الانتخابات الأولى التي أعقبت الغزو الأمريكي للبلاد وكانت قبل 16 عاماً، قال محللون للصحيفة الأمريكية إن تنظيم التيار الصدري لحملة انتخابية متماسكة ومستمرة منذ أشهر، بداية من اختيار المرشحين وحشد الناخبين من أعضاء التيار، إضافة إلى تقديم وعود انتخابية تتعلق باستقلال القرار العراقي ومحاربة الفساد، جميعها عوامل ساهمت في تلك النتيجة.
وقال بدر الزيادي، عضو سابق في البرلمان عن كتلة "سائرون" الصدرية للصحيفة: "مقتدى الصدر سياسي عراقي وطني ومستقل، ولا يستمع أو يتأثر بالضغوط الأجنبية، إنه لا يستمع إلا للعراقيين".
والمؤكد أن توسيع التيار الصدري لكتلته البرلمانية هذه المرة يعطيه فرصة أكبر ليكون له دور مسيطر في تشكيل الحكومة، وربما أيضاً الحصول على منصب رئيس الوزراء، لكن ذلك ينطوي على مخاطر تتمثل في الغضب الشعبي العارم من الفساد، وتدهور الخدمات الأساسية في البلاد، وهي العوامل التي أدت لاندلاع الحراك الشعبي، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وأطاحت بحكومة عادل عبد المهدي، وأتت بالانتخابات الحالية بصورة مبكرة.
فحتى الآن ورغم حصول التيار الصدري على المرتبة الأولى أيضاً في انتخابات 2018، فإنه لم يشارك بصورة كبيرة في الحكومة، ويمكن القول إنه يمارس دور المعارضة، ولم يتدخل مقتدى الصدر قبل ذلك في السياسات اليومية والتعامل مع قضايا الفساد وتردّي الخدمات من موقع المسؤولية، بحسب مراقبين.
لهيب هيغل، المحلل العراقي البارز في مجموعة الأزمات الدولية، قال لوول ستريت جورنال: "في نهاية المطاف هناك سؤال يتعلق بمدى رغبتهم (التيار الصدري) في تحمل مسؤولية الحكومة بشكل كامل، وما يرتبط بذلك من مخاطر قائمة بالفعل".
الحشد الشعبي وتراجع كبير جداً
في المرتبة الثانية بين القوائم الانتخابية جاء تحالف "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان بـ43 مقعداً (بحسب مصادر التحالف نفسه)، أو 41 فقط (بحسب مصادر مستقلة). النتائج التي نشرها موقع المفوضية العليا للانتخابات لا تظهر الكتل أو التحالفات، بل تنشر أسماء الفائزين كأفراد.
وبحسب النتائج نفسها، حصل ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي على 37 مقعداً، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني بـ32 مقعداً، في حين حصد تحالف الفتح بزعامة هادي العامري على 14 مقعداً. وهذه نتائج أولية، حيث يُنتظر أن تعلن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات النتائج النهاية بعد الانتهاء من مراجعة الطعون المقدمة من القوائم الانتخابية في غضون عشرة أيام.
وتظهر هذه النتائج التراجع الهائل فيما حصده تحالف "الفتح" من مقاعد، إذ كان التحالف، وهو الكتلة السياسية التي تمثل الحشد الشعبي الموالي لإيران، قد حصد 47 مقعداً في الدورة الانتخابية السابقة عام 2018.
واليوم الثلاثاء 12 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن تحالف "الفتح" رفضه النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية المبكرة، وقال هادي العامري، زعيم التحالف، في بيان مقتضب: "لا نقبل بهذه النتائج المفبركة مهما كان الثمن وسندافع عن أصوات مرشحينا وناخبينا بكل قوة"، دون مزيد من التفاصيل.
وكان "الإطار التنسيقي"، الذي يضم قوى سياسية وفصائل من "الحشد الشعبي"، أبرزها "تحالف الفتح"، قد أعلن في بيان له بوقت متأخر مساء الإثنين، عدم قبوله بنتائج الانتخابات والطعن عليها. وفي وقت سابق الثلاثاء، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فتح باب تقديم الطعون على النتائج الأولية، حسب وكالة الأنباء الرسمية.
وشارك آلاف المراقبين المحليين و1250 مراقباً دولياً في متابعة الانتخابات، وأكثر من 500 صحفي من دول العالم، وأجمعت منظمات محلية ودولية معنية بالانتخابات على ضعف المشاركة في الانتخابات، وتسجيل عدد من الخروقات المتعلقة بتعطل عشرات أجهزة الاقتراع، إلى جانب انتهاكات أخرى مثل التأثير على الناخبين والتجمعات الانتخابية والدعاية الانتخابية للمرشحين، في خرق واضح للصمت الانتخابي، وإن بقيت هذه الانتهاكات على نطاق غير واسع.
هل حقق "الحراك" أياً من مطالبه؟
عندما ثار العراقيون، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، كانت للمحتجين مطالب محددة تتمثل في التخلص من الطبقة السياسية التي تتحكم في البلاد منذ الغزو العراقي عام 2003، وتسببت في تدهور غير مسبوق في الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء ومياه الشرب وانتشار البطالة، رغم كون العراق دولة غنية بالنفط والموارد الأخرى.
ونجح الحراك، رغم الثمن الباهظ المتمثل في مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين، في تحقيق بعض المكاسب، أهمها استقالة حكومة عادل عبد المهدي والدعوة لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، كان من المقرر إجراؤها، في يونيو/حزيران الماضي، لكنها تأجلت حتى أقيمت الأحد 5 أكتوبر/تشرين الأول.
لكن رغم أن إجراء الانتخابات المبكرة كان مطلباً للحراك، فإن نسبة الإقبال المتدنية بصورة غير مسبوقة سببها الأساسي هو حالة "اليأس"، التي انتابت قطاعاً واسعاً من العراقيين، الذين لا يتوقعون أن تخرج الانتخابات بنتائج تزيح بعض أو كل نفوذ الأحزاب التقليدية التي فشلت في إحداث أي تحسن في أداء الحكومة، أو على مستوى تقديم الخدمات الأساسية أو مكافحة الفساد.
وجاءت النتائج الأولية لتعكس تلك المخاوف بالفعل، إذ حصل المستقلون والأحزاب المنبثقة عن الحركة الاحتجاجية على نحو 15 مقعداً فقط، في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق.
كما انعكس ذلك الواقع على منصات التواصل الاجتماعي، حيث أشاع عراقيون مشاعر واضحة عبرت عن خيبة أملهم بنتائج الانتخابات، كونها أفرزت قوى تقليدية لم تنجح سابقاً في تحسين المستوى المعيشي لعموم العراقيين.
وخلصت تقارير غربية إلى أنّ نتائج الانتخابات "لن تقود إلى تغيير على مستوى البلاد أو الشرق الأوسط"، باستثناء نفوذ أكبر لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في حين عكس الإقبال المتدني على الانتخابات واقع "حجم الغضب الشعبي من النظام المسؤول عن مقتل وإصابة آلاف المتظاهرين والناشطين، والأطراف السياسية الفاسدة"، بحسب تحليل للأناضول.
ومن المتوقع أن تشهد مرحلة ما بعد الانتخابات تشكيل حكومة ضعيفة غير قادرة على مواجهة المجموعات الشيعية المسلحة، التي يتوقع أن يزداد نفوذها وهيمنتها بشكل أكبر في مؤسسات الدولة، والملف الأمني والاقتصادي والسياسي أيضاً.
ويخشى العراقيون من احتمالات لجوء تلك المجموعات إلى فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، وإعادة استنساخ تجربة استيلاء جماعة أنصار الله اليمنية على العاصمة صنعاء، في حال وجدت هذه المجموعات تهديداً جدياً لمصالحها، أو انتقاصاً من مكاسبها أو محاولات لنزع أسلحتها بشكل أو بآخر.
وتعبيراً عن تلك الحالة من الإحباط، قال حسين صباح (20 عاماً) لرويترز، في مدينة البصرة بجنوب العراق "للأمانة لم أصوّت"، مضيفاً أن الأمر لا يستحق عناء التصويت. وأضاف أن الانتخابات لن تعود عليه أو على غيره بفائدة، مشيراً إلى الخريجين الذين لا يجدون وظائف. وقال إن السياسيين جاءوا إلى الشباب قبل الانتخابات، لكن لا أحد يعلم ماذا سيفعلون بعدها.
وكان مطلب الحراك الأساسي يتمثل في تغيير جميع القواعد التي ركزت الكثير من السلطة، منذ الغزو الأمريكي، في أيدي الأحزاب الطائفية، وقدم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بالفعل قانوناً جديداً للانتخابات، وُصف بأنه يساعد المرشحين المستقلين والمحليين، وتم تصغير الدوائر الانتخابية وإلغاء منح مقاعد لقوائم المرشحين التي ترعاها الأحزاب. لكن في نهاية المطاف أظهر الإحجام القياسي عن التصويت ونتائج الانتخابات أن فرص حدوث تغيير حقيقي أراده "الحراك الشعبي" لا تبدو قائمة في المستقبل المنظور، بحسب محللين محليين وأجانب.