لا تترك أذرع الاحتلال التهويدية جانباً من المدينة المحتلة من دون خططٍ تستهدف هويتها، وتسعى إلى تهويدها، ولا تترك هذه الأذرع شبراً من المدينة من دون استهداف، إن كان عبر المشاريع الاستيطانية والاستيلاء على منازل المقدسيين، أو من خلال زرع المعالم اليهودية الدخيلة من كنسٍ ومشاريع تهويدية قريبة من المسجد الأقصى، وصولاً إلى الاعتداء المباشر على المقدسات في المدينة، ومحاولات السيطرة على المسجد الأقصى.
ويُعد فرض الرواية اليهودية "المكذوبة" على المدينة المحتلة واحداً من أبرز الأهداف الكبرى التي تسعى إليها سلطات الاحتلال، وهو أداتها الأساسية لتحقيق المزيد من السيطرة على المدينة، فلا تكتفي سلطات الاحتلال بهدم المعالم التاريخية في المدينة، بل تعمل على استبدالها بمعالم أخرى لا تمت لتاريخ وواقع المدينة بصلة.
وفي سياق فرض روايتها الصهيونية، تعمل سلطات الاحتلال على تغيير الأسماء العربية والإسلامية لشوارع القدس المحتلة وأزقّتها، واستبدال هذه الأسماء بأخرى يهودية، يعود بعضها لحاخامات يهود مستوطنين، وبعضها الآخر لأسماء جنود شاركوا في احتلال القدس، وبعضها يتصل مباشرة بالرواية التوراتية وأسطورة "المعبد"، في إسقاط مباشر لرؤية دينية على واقع القدس وتاريخها.
وبحسب متخصصين في شؤون القدس، لا تقف المسميات التوراتية عند عناوين الشوارع واليافطات التي تدل الزائرين إليها فقط، بل تفرض سلطات الاحتلال المسميات اليهودية في الوثائق الرسمية المختلفة، على غرار بطاقات الهوية الزرقاء، ومختلف الفواتير من مياه وكهرباء وهواتف وضرائب، وتصل إلى الخرائط التي تُطبع في الكتب المدرسية أو تلك التي يستخدمها السياح، وصولاً إلى برامج الملاحة عبر الأقمار الصناعية عبر تقنيات الـGPS.
ويصل عدد الأماكن التي غيرت سلطات الاحتلال أسماءها منذ تأسيس الدولة الصهيونية قبل 73 عاماً إلى نحو 80 ألف مُسمّى في مختلف المناطق الفلسطينية المحتلة، بحسب رئيس مؤسسة بيت الذَّاكرة للتراث في مدينة الناصرة البروفيسور مصطفى كبها، وتشمل الأماكن التي غيّر الاحتلال أسماءها مدناً وأودية وجبالاً وسهولاً وشوارع ومبانيَ وحواريَ وجاداتٍ وغيرها.
من المسؤول عن تهويد الأسماء، وكيف تتم؟
يُشير العديد من المصادر الصحفية إلى وجود لجنة خاصة في بلدية الاحتلال في القدس المحتلة، تُعنى بتغيير أسماء شوارع المدينة المحتلة وأزقتها، وتُدعى "لجنة الأسماء"، ويشبه عمل اللجنة تلك التابعة لمكتب رئاسة الوزراء الإسرائيلية التي تُدعى لجنة "التسميات الحكومية".
وبناء على تشابه عمل اللجنتين البلدية والحكومية، سنورد أبرز مهام اللجنة الحكومية التي تُعد نسخة أعلى شأناً وأكثر تأثيراً؛ إذ يمتد تأثيرها إلى مختلف المناطق الفلسطينية المحتلة، وبحسب مركز مدار تحدد لجنة المسميات أسماء المستوطنات الإسرائيلية والمواقع الجغرافية والشوارع ومفترقات الطرق، إضافةً إلى أسماء المعابر الحدودية، ومواقع التنزه العامة في المناطق المحتلة.
وبحسب البروفيسور مصطفى كبها، تعتمد هذه اللجان في عملها على تغيير الأسماء الفلسطينية 3 أساليب أساسية: الأسلوب الأول عبر تغيير الأسماء العربية بشكل كامل، بأخرى تحمل طابعاً دينياً تعود إلى أسطورة "المعبد" أو لشخصياتٍ صهيونية. والأسلوب الثاني يقضي بترجمة الأسماء العربية إلى العبرية، ما يلغي استعمالها العربي مع مرور الزمن، أما الأسلوب الثالث فيتمثل بالإبقاء على نفس الأحرف العربية ولكن بالحرف العبري، ونطقها بشكل يؤدي إلى معنى آخر يختلف عن اسمها العربي الأصيل.
8 أهداف يسعى الاحتلال إلى تحقيقها
لا يُمكن بحالٍ من الأحوال عزل تغيير أسماء الشوارع عن خطط الاحتلال التهويدية الأخرى؛ إذ تقع كما أسلفنا في قلب محاولات الاحتلال السيطرة على المدينة المحتلة وفي القلب منها المسجد الأقصى، ويمكننا تقديم أبرز 8 أهداف كامنة خلف تغيير سلطات الاحتلال الأسماء العربية والإسلامية في القدس المحتلة، وهي:
• إسقاط مباشر للرؤية الدينية اليهودية على واقع القدس وتاريخها.
• ترسيخ الروايات التوراتية والتلمودية في محيط البلدة القديمة عامة، ومحيط المسجد الأقصى على وجه الخصوص، عبر أسماء مشتقة من أسطورة "المعبد"، أو لأماكن ورد ذكرها في التوراة وشروحاته.
• تزوير هوية المدينة العربية والإسلامية، ومحاولة تزييف طابعها الثقافي والحضاري.
• استهداف المقدسات الإسلامية والمسيحية.
• إيهام من يزور المدينة المحتلة من سياح وزائرين بوجود تاريخٍ يهودي أصيل في المدينة المحتلة، وما يتصل بهذا الطابع من معالم وآثار.
• كيّ وعي السكان المقدسيين؛ إذ يراهن الاحتلال بأن الأجيال القادمة من سكان المدينة الأصليين، سيستخدمون الأسماء العبرية الدخيلة، وبأن فرض هذه الأسماء في المعاملات الرسمية سيُجبر المقدسيين على اعتياد الأسماء اليهودية.
• محاولة سلطات الاحتلال فك ارتباط المقدسي بمدينته وارتباطه بمعالمها وأحيائها، ما ينعكس ضعفاً في هوية المكان التاريخية والحضارية، التي تنبني في جزء كبيرٍ منها على ارتباط السكان بهذه المعالم والأوابد الحضارية.
• تحويل القدس إلى مدينة طاردة لسكانها الأصليين؛ إذ يحاول الاحتلال من مجمل الأهداف السابقة تحويل القدس إلى مدينة طاردة لسكانها، فلا يعودون قادرين على العيش بين جنباتها، نتيجة حالة الاغتراب التي يشعر بها الفلسطيني في القدس، وإحاطته بأسماء ورموز ومعالم دخيلة، إلى جانب ما يعانيه من حصار اقتصادي واجتماعي واعتداءات مباشرة.
فك الارتباط بالمكان، شواهد التزييف
تصل أعداد الأماكن والشوارع المقدسية التي غيّرت سلطات الاحتلال أسماءها، بحسب متخصصين مقدسيين، إلى نحو 22 ألف مكان وشارع ومعلم في شطري المدينة، لذلك من الصعب الإحاطة الكاملة بهذه المعالم في هذه المادة، خاصة أن قرارات "لجنة الأسماء" في بلدية الاحتلال لا تتوقف، وكان آخرها ما صدر في 4/9/2021، إذ أطلقت بلدية الاحتلال حملة لتهويد أسماء عددٍ من شوارع البلدة القديمة، فقد غيرت اسم طريق الوادي التاريخي إلى اسم تهويدي هو "ميدان هجفورا"، وللطريق أهمية تاريخية كبيرة، إذ يمر بمحاذاة السور الغربي للمسجد الأقصى، وفي النقاط الآتية، نورد أبرز شواهد التزييف التي جرت في المدينة المحتلة:
– تغيير اسم طريق باب الأسباط إلى شارع "موطه"، نسبة إلى اسم الشهرة لشخصٍ يدعى "مردخاي غور"، الذي اقتحم البلدة القديمة من جهة باب الأسباط بالدبابات إبان احتلالها عام 1967، وكان أحد أعضاء "الكنيست" في ذلك الوقت، إضافةً إلى كونه ضابطاً في جيش الاحتلال.
– تغيير اسم طريق رأس العمود إلى "معاليه هزيتيم"، وأقيمت في هذه المنطقة بؤرة استيطانية تحمل الاسم نفسه.
– تزييف اسم شارع القصور الأموية جنوبي سور مدينة القدس، بالاسم العبري "شير لمعالوت".
– تغيير اسم شارع باب الزاهرة شمالي البلدة القديمة بالاسم العبري "أمير دروري"، وهو مؤسس سلطة الآثار الإسرائيلية.
– تبديل اسم الشارع الممتد من باب الخليل إلى باب العمود، إلى "طريق المظليين"، نسبة إلى المظليين الذين شاركوا في احتلال القدس عام 1967، واقتحموا المسجد الأقصى على أثر احتلال المدينة مباشرة.
– تزوير اسم جبل الزيتون إلى "هار همشحاة"، وهو الاسم التوراتي للجبل الذي يطل على المسجد الأقصى.
– إطلاق أسماء حاخامات على شوارع في قرية سلوان جنوب المسجد الأقصى، وشملت 5 أزقة وشوارع صغيرة في حي بطن الهوى في سلوان. وصودق على إطلاق الأسماء الآتية: "عزرات نداحيم" و"هراف مدموني"، و"هراف أفراهام ألنداف"، و"هراف يحيى يتسحاك هليفي"، و"هراف شالوم ألشيخ هليفي".
أخيراً، لا يمكن للاحتلال مهما يمتلك من أدوات أن ينتصر على الذاكرة الفلسطينية، التي ما زالت ومنذ احتلال المدينة عام 1967 محافظة على الأسماء العربية والإسلامية، وبقيت الذاكرة الجمعية المقدسية تستخدم المسميات العربية والإسلامية في المدينة، ما يشكل عقبة كأداء أمام الاحتلال ومخططاته، وعلى الرغم من هذا التمسك لا يُمكن أن يُترك الاحتلال من دون أي محاسبة لما يقوم به من جرائم في المدينة، التي تُعد بالقوانين والأعراف الدولية مدينة محتلة، خاصة أن النزف الحضاري في القدس لا يطال الفلسطينيين فقط، بل يصل إلى العرب والمسلمين والإنسانية جمعاء.
المراجع:
– مركز مدار، موسوعة المصطلحات، لجنة التسميات الحكومية في إسرائيل. https://bit.ly/3l9eOgN
– الجزيرة نت، 21/9/2015. https://bit.ly/3D37r0d
– العربي الجديد، 12/11/2016. https://bit.ly/3FcXPBQ
– فلسطين ألترا، 19/4/2017. https://bit.ly/3olkPsB
– وكالة الأنباء الأردنية، 8/6/2021. https://bit.ly/2ZOi490
– موقع مدينة القدس، 8/9/2021. https://bit.ly/3mmKsGT
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.