صكّ الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو مصطلح "رأس المال الرمزي" لكشف الدور الذي تلعبه السلع والبضائع في التعبير عن هوية ومكانة الفرد ضمن المجتمع. في هذا الإطار النظري، يمكن اعتبار القهوة سلعة للترفيه أو سلعة تؤدي دوراً ما في الحياة الاجتماعية.
تحسست القهوة طريقها إلى مصر في أواخر القرن الـ16 كممارسة خاصة بمجالس الذكر الصوفي، إذ تمنح الذاكر مزاجاً رائقاً وعقلاً حاضراً، فتطيل مدة ذكر الله ليلاً، ما جعل بعض الناس يقولون "القهوة شراب أهل الله". يسجل الرحالة مصطفى علي في زيارته للقاهرة عام 1599، أن الناس اعتقدوا بأن شرب القهوة يضيف حياة جديدة إلى حياة المصلين.
وبعيداً عن الجدل الديني الذي دار حول حرمانية القهوة في ذلك الزمان، يمكننا تفسير -ولو جزئياً- سهولة توغل القهوة في المجتمع المصري بارتباطها بالممارسات الدينية عند دخولها. وعلى الرغم من تشكيك الفيلسوف الفرنسي إريك جوفري في فرضية دخول القهوة القاهرة ودمشق عبر الصوفية، مؤكداً وجود أسباب موضعية أخرى مرتبطة بالمجتمعات الشرقية.
القهوة في البيوت والخنادق
شاع وجود المقاهي أو "بيوت القهوة" -كما كانت تسمى آنذاك- في الشوارع والميادين عند منتصف القرن الـ17، حيث بلغ عددها 643 مقهى في القاهرة وحدها. ووفقاً لأستاذة الدراسات العربية نيللي حنا وصل العدد إلى 1200 في نهايات القرن الـ17. بذلك رسخت المقاهي وجودها في حياة المصريين واكتسبت نسقاً رمزياً خاصاً في الفضاء العائلي زهاء ذات القرن. إذ أصبح احتساء القهوة عادة أساسية في بيوت النخبة المصرية، كما تشير أستاذة الدراسات العربية نيللي حنا.
دلت وثيقة زواج تعود إلى سنة 1642 على أهمية وضرورة وجود القهوة في بيوت الوجهاء؛ حيث تضمن "جهاز العروسة" 180 فنجاناً و12 ركوة قهوة. وداخل مؤسسات السلطة العسكرية خضع بروتوكول الضيافة إلى ترتيبات دقيقة تحدد معالم وقواعد تقديم القهوة التي أصبحت مشروباً مهماً في الحياة العسكرية المصرية. وحرص بكوات المماليك على تخزين كمية كبيرة من البن في بيوتهم، حيث تخبرنا مصادر التاريخ المعاصر بدهشة عن كميات البن المخزنة في بيوت الأمراء والمماليك ممن تعرضوا للهزيمة أو النهب. كما مثلت تركات الأمراء المسجلة في المحاكم دليلاً على الأهمية التي انطوت عليها القهوة في حياة النخبة المصرية القديمة والتي سعت إلى تخزينه بكميات كبيرة نظراً لأهميته وكثرة استهلاكه في الحياة اليومية.
يذكر الجبرتي في يومياته بأنه بعد وفاة الشيخ السادات وضع محمد علي يده على أصول ثروته وكشفت مخابئه عن كمية كبيرة من البن والصابون وشموع العسل مخزنة في مكان سري.
مسرحية شرب القهوة
كانت الممارسات المتعلقة بشراب القهوة دليلاً على نمط الحياة المميز للنخبة المصرية، لاحظ المؤرخ إدوارد لين أن شرب القهوة في النهار كان دليلاً على وفرة المال والحال الميسور، فوحدهم الأغنياء لا يعملون بالنهار. أما العامة فلا طاقة لهم بذلك، نهارهم مرتبط بالعمل الدؤوب والكدح المستمر.
يكمن اختلاف آخر بين أغنياء القاهرة وفقرائها فيما سطره الرحالة ريتشارد بيرتون: "عوام الفقراء لا يكترثون عقب تناولهم وجباتهم الأساسية سوى بشرب الماء، على حين أن الأغنياء بالقاهرة عادةً ما يحرصون على شرب قدح من القهوة أو كوب شربات مع تدخين الغليون". وهو ما يبرز أهمية الممارسات اليومية والظواهر التي تدور حول كوب القهوة ولا تدخل في طبيعة المشروب ذاته.
يمكن للجميع شرب القهوة لكن تفعيل الحدود والتمايز بين الطبقات هو العامل الحاسم في الوجاهة الاجتماعية.
تطلب تقديم القهوة بشكل راقي وجود عدد كبير من الخدم ليكتمل الجانب المسرحي للصورة التي يريد الأمير أو المملوك تقديمها عن نفسه. كان الإكثار من الخدم يعلن عن علو مكانة صاحب البيت في خضم تباري النخبة على النفوذ والسلطة.
وحسبما يذكر المؤرخ إسماعيل الخشاب في كتابه "حوادث الزمان ووقائع الديوان"، أهم علامة وضحت للناس تواضع أحوال المماليك خلال زمن الاحتلال الفرنسي أن أعظم أمرائهم صار يخدم فرسه بنفسه. في وقت سابق للاحتلال الفرنسي، تعفف الأمراء عن القيام بأبسط الأعمال.
يظهر الفرق بين طقوس شرب القهوة في بيوت الأمراء عنها في حياة العامة، أهمية الترتيبات المتعلقة بالمشروب لخلق انطباع دائم عن مكانة الفرد.
سجَّل القنصل الفرنسي جان كوبان المشهد الطقوسي قائلاً: "استقبلنا الأغا بديوان مفروش بسجادة رائعة الجمال. وبعد حفاوة الاستقبال، أمرهم بإحضار القهوة والشربات. جاء أربعة من الخدم يرتدون الدولمان مصنوعاً من قماش الكتان الأبيض الرقيق، وأحزمة من الستان الأحمر الموشى بالذهب، وعلى رؤوسهم طواقي من القطيفة المخملية، تدور حولها عمامة صغيرة من قماش القطن الرقيق، ويرتدون الكلسون الطويل ذا اللون الأرغواني الواصل حتى الأقدام، انتعلوا حذاءً مدبب الطرف مصنوعاً من الجلد الأصفر، وعلى حين قدم الاثنان الآخران مشروباً من القهوة في فناجين من البورسلين مع جلوسهم على ركبهم".
عرف كل من الخدم دوره بدون السماح بهامش بسيط يخل بالطقوس المسرحية، يستقبل الضيف على السلم، ويضع له الفوطة بعد توضيح مكان مجلسه حسب قيمته الاجتماعية بالنسبة لباقي الحضور، توضع فوطة على قدمه، ثم تقدم له القهوة باليد اليمنى.
بعدما ينتهي من مشروبه، يصب ماء الورد على يده، وتستبدل الفوطة بأخرى غيرها، ثم يقدم له الشربات. وفي كل مرحلة يختلف الخادم الذي يقوم بالدور. وبالطبع يعبق المكان برائحة البخور الذي ينفخ في وجه الضيف باليد اليمنى، لكن هذا الفعل يمكن أن يقوم به صاحب البيت دلالةً على تقديره للضيف.
ويبرز الاختلاف فيما سجله الطبيب بيرتون عن زيارته إلى شيخ فقيه زمن محمد علي كان بيرتون يتردد على دكانه في المساء؛ فكان يعد بنفسه القهوة ويحليها بأقماع السكر. في حين كان الأمراء يسخرون من وضع السكر في القهوة ويستبدلونه بماء الورد ويضاف إليها شيء من العنبر. وهو ما لم يتوفر بالنسبة للطبقات الأفقر نظراً لارتفاع ثمن ماء الورد والعنبر. لقد غابت الطقوس المرتبطة بالقهوة عن المصريّ البسيط، الذي يتناول المشروب في بيوت القهوة أو أمام بيته ودكانه.
لم يتواجد في المقاهي أثاثات باذخة أو لافتة كما يسجل المراقب الفرنسي دي شابرول "ليس ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية، فقط ثمة دكك خشبية تشكل نوعاً من المقاعد الدائرية بطول جدار المبنى، وبعض الحصر من سعف النخيل، بالإضافة إلى بنك خشبي عادي بالغ البساطة". وهو عكس بيوت الأمراء؛ فكلما ابتعدت القهوة عن القصور تلاشى الاهتمام بالتفاصيل حتى نصل إلى طابعها العملي البسيط والمتحرر من سطوة الالتزام بالقواعد التي شكلت أيديولوجيا استهلاكية عند النخبة المصرية.
ويبرز ذلك في حرص محمد علي على الاحترام الكامل لفكرة الطقوس وآدابها للحفاظ على رسم صورة الحاكم وذويه. فعندما قدم بعض الخدم القهوة إلى ضيوفه باليد اليسرى وليس اليمنى كما هو متعارف عليه في التقليد المتبع، أصدر قراراً بنفيهم إلى الحجاز مدى الحياة بسبب عدم اكتراثهم بالضيوف. وحسبما تشير سهام الدبابي في دراسة بعنوان "الطعام والشراب في التراث العربي". ارتبط تقديم المشروبات والأطعمة باليد اليسرى عند العرب بالقحط وسوء الطالع ودلّ على العجز والنقص. بينما رمزت اليد اليمنى إلى الخصب والسعد والبركة.
تلك الحادثة توضح كيف أن محمد علي على الرغم من تفكيكه للتشكيلات الاجتماعية السابقة على عهده، لم يكن يتهاون مع الصورة التي يريد تقديمها عن نفسه.
مثلت نوعية الملابس وطريقة تقديم القهوة والأدوات المستخدمة في ذلك دليلاً على الظروف المادية لصاحب البيت.
أشار الطبيب الفرنسي الذي أمضى جل عمره في مصر، أنطوان كلوت، إلى أن النخبة اهتمت بترصيع الفناجين بالأحجار الكريمة، في حين استخدم الأناس العاديون الفخار أو النحاس لتقديمها.
كما كتبت المستشرقة صوفيا لين عن زيارتها لوالي القاهرة حبيب أفندي عام 1835: "قدمت القهوة فوق صوان من الفضة، وكانت كالمعتاد من أقداح صغيرة من الصيني وضعت في حوامل على شكل كؤوس البيض، لكن لم تكن كمثيلاتها في البيوت العادية لكنها رصعت بفصوص الألماس الأنيقة والقيمة جداً، أكثر من كونها جميلة فقط".
القهوة في زمن محمد علي
سبب تراجع نفوذ النخبة المصرية المكونة من المماليك وكبار الأعيان وعلماء الدين والذين فقدوا أدوارهم خلال زمن محمد علي، سبب ذلك تغييراً في الطقوس اليومية المعتادة. تم ذلك كنتيجة للتغييرات الهيكلية التي أدخلها محمد علي على الإدارة المركزية وسياسات ترشيد النظام الاقتصادي المسرف في الاستهلاك. ولم يكن هذا ليحدث سوى بالقضاء على التشكيلات الاجتماعية السابقة، وإقصاء النخبة القديمة.
يشير الفيلسوف بيير بورديو إلى أن "رأس المال الثقافي" هو ساحة الصراع بين القوى الاجتماعية المتعددة، التي تهدف إلى السيطرة على الثقافة العامة في المجتمع بما يسمح بظهور نخبة جديدة ذات أصول وجذور اجتماعية مختلفة عن سابقتها، تصدر من خلالها معتقدات وعادات وقيم سلوكية جديدة للمجتمع.
وهو ما حدث زمن محمد علي بخلق نخبة جديدة تسمى "الذوات المعتبرين" من أتراك والأرنؤود والشركس والأكراد والأرمن والشوام. جمع بينهم تمسكهم باللغة التركية كلغة مميزة للنخبة مع دخول تيار خافت على استحياء من المصريين الذين أتيح لهم التعلم في عهده وعملوا في المؤسسات الحكومية.
وهذا كفل استبدال ثقافة المماليك التي كرهت بساطة الأسلوب ورأت في الاستهلاك والأجواء المرتبطة به تحقيق لمكانتها الاجتماعية ووجودها المتعلق بالإنفاق الشرفي معبرة عن هوية تفصلها عن دونها.
نرى أسف محمد إبراهيم بك الكبير على حاله السابق الذي عاش في رفاهية دون حساب أو مراجعة، عندما رفض محمد علي السماح للمماليك باستعادة مكانتهم. وتشير حادثة التخلص من الموظف الكبير بديوان المالية، أحمد أفندي، إلى تركيز السلطة الحاكمة على تغيير التركيبات الاجتماعية السابقة. فقد فصل وفرضت عليه غرامة مالية كبيرة للبذخ واستعراض الثراء.
يشير المستكشف الإيطالي جيوفاني باتيستا بلزوني إلى خوف الموظفين في إدارة محمد علي من "إظهار أقل مظاهر الثراء والغنى.. ومعيشتهم في بيوتهم اتسمت غالباً بالبساطة". ما أثار دهشته حين زار حاكم أسوان، وجده يجلس على حصيرة في ظل شجرة نخيل، يشرب القهوة مع رفاقه بصورة عادية. وحين صعدوا للمركب، قدم لهم بلزوني القهوة بطريقة عادية ولم يجد منهم من يبدي امتعاضه في توزيعها دون تمييز".
ختاماً تدفعنا قراءة التاريخ بهذا الشكل بعيداً عن التاريخ المرتبط بالسير الذاتية للحكام وملوك الحرب والقادة، كما لا يتعلق الأمر بالتاريخ المدرسي الذي يضع مجموعة من الأرقام والدروس النتائج المستفادة من المرحلة بتركيزه على الخطابات والسرديات الكبرى دون أن نرى التقاطعات وأشكال الانفصال والتغير في قلب الحياة اليومية وداخل الممارسات والسلوكيات التي شكلت حياة الإنسان العادي.
يصبح التاريخ أكثر أهمية عندما يرتبط بصوت الهامش، وإن كان غائباً لأنه لم يجد من يتحدث عنه، ولم يتحدث هو عن نفسه. يمكننا فهم ما مر به وعاصره عبر سماع صوته في خطاب وممارسات النخبة الحاكمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.