تواجه الولايات المتحدة مأزقاً يحذر خبراء الاقتصاد من تداعياته على العالم أجمع، يتمثل في احتمال كبير بأن تتخلف واشنطن عن سداد ديونها خلال أكتوبر/تشرين الأول المقبل، فهل يعني ذلك أن أمريكا على وشك الإفلاس؟
وقبل الدخول إلى تفاصيل الأزمة الحالية التي تدور فصولها في أروقة الكونغرس وتتعلق برفع الحد الأقصى للدين أو السقف المسموح للإدارة الفيدرالية بالوصول إليه فيما يخص الاستدانة بأنواعها، من المهم التذكير بأنها ليست المرة الأولى التي تصل فيها الأمور لهذه الدرجة، لكنها تبدو الأخطر.
فقبل عشر سنوات بالتحديد، كانت الولايات المتحدة قاب قوسين أو أدنى من التخلّف عن سداد ديونها، وهو ما أدى إلى تخفيض التصنيف الائتماني لواشنطن للمرة الأولى على الإطلاق، وبالتالي فإن تكرار هذا الأمر يمثل تهديداً خطيراً لأهم الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الأمريكي، أو اقتصاد الدول بشكل عام، وهو الثقة في قدرة الدولة على سداد ديونها.
"الحكومة لن يكون لديها أموال قريباً"
وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين وجهت تحذيراً لأعضاء الكونغرس مساء الثلاثاء 28 سبتمبر/أيلول قالت فيه إن الحكومة الفيدرالية على الأرجح لن يكون لديها "أي نقد أو قدرة على اتخاذ إجراءات غير عادية" بحلول الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، ما لم يرفع الكونغرس سقف الدين العام، بحسب تقرير لشبكة CNN.
ويرفع هذا التقييم من جانب جانيت من خطر تخلف الولايات المتحدة عن سداد مستحقات دائنيها خلال أسابيع قليلة لو لم تتخذ القرارات أو الإجراءات المطلوبة. وهذا التخلف عن سداد مستحقات الديون أمر كارثي سيصيب الأسواق والاقتصاد بالشلل ويؤخر المدفوعات المستحقة لملايين الأمريكيين.
وتفاصيل الموقف الحالي تتركز في موقف الديمقراطيين والجمهوريين من مسألة رفع سقف الاستدانة، إذ إن الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن وحلفائها في الكونغرس الذين يمتلكون الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ يريدون رفع السقف لتتمكن الحكومة من اقتراض مزيد من الأموال لمواجهة الأعباء الحالية، بينما يرفض الجمهوريون ذلك الحل تماماً.
ويتكرر السجال الدائر حالياً بين الحزبين بصورة سنوية تقريباً، وبنفس المواقف. بمعنى أن الديمقراطيين يريدون رفع سقف الدين بينما يرفض الجمهوريون ذلك ويريدون تقليص الإنفاق الحكومي كحل بديل، وفي النهاية يصل الطرفان إلى تسوية ما تسمح برفع السقف بنسبة أقل مما أراده الديمقراطيون مقابل تخفيض الإنفاق بنسبة أقل مما أراده الجمهوريون.
لماذا إذن تبدو الأمور أكثر خطورة هذه المرة؟
قبل عشر سنوات وعندما احتدم الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين حول رفع سقف استدانة الإدارة الأمريكية، كانت النتيجة قيام وكالة تصنيف ائتماني كبرى هي "ستاندرد آند بوروز" بتخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة للمرة الأولى.
كان ذلك عام 2011، أثناء إدارة باراك أوباما الرئيس الأسبق وكان بايدن نائبه وقتها، وخفضت "ستاندرد آند بورز" وهي إحدى أكبر شركات التصنيف الائتماني في العالم علامة التصنيف الائتماني للولايات المتحدة في سلم تقييمها من درجة تصنيف (AAA) الى (AA+).
وأثار ذلك التقييم وقتها جدلاً هائلاً ووجهت الإدارة الأمريكية انتقادات عنيفة للوكالة، إذ إن التخفيض يؤدي على الأرجح الى تناقص في ثقة المستثمرين بالاقتصاد الامريكي، الذي كان يعاني وقتها من أثقال الدين الكبير ونسبة بطالة وصلت إلى 9.1%.
وكان أحد أسباب ذلك التخفيض في التصنيف أيضاً حالة الشلل التي تعرضت لها الحكومة الفيدرالية بسبب السجال الدائر في الكونغرس وهي الحالة التي استمرت عدة أشهر.
ووقتها دافع زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونل، وهو أيضاً لا يزال زعيم الجمهوريين في المجلس حتى اليوم، في تصريح لصحيفة "واشنطن بوست" عن سقف الاستدانة، واصفاً إياه بأنه "رهينة تستحق الفدية"، لكن ها هي الرهينة تقع في الأسر مجدداً بعد عشر سنوات.
وتختلف الظروف الآن بشكل كبير عما كانت عليه قبل عشر سنوات من جميع النواحي تقريباً، فالولايات المتحدة تعاني بشدة من جراء جائحة كورونا ووضعها الاقتصادي يتراجع حتى وإن ظلت الاقتصاد الأكبر عالمياً، وهو ما يجعل للخلاف الدائر تداعيات أخطر من المعتاد نظراً إلى أنه في حال تعذّر رفع سقف الدين ستتخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها في تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما قد يؤدي إلى بداية انهيار دائم في اقتصادها وتقويض إحدى دعامات النظام المالي العالمي.
وفي هذا الشأن، قال براين ريدل الذي كان حينها كبير المستشارين الاقتصاديين للسيناتور الجمهوري روب بورتمان، لإذاعة مونت كارلو الدولية إن "قادة الحزب (الجمهوري) بغالبيتهم يعتبرون المواجهة التي وقعت في العام 2011 حول رفع سقف الاستدانة نجاحاً مكّنهم من إجبار (الرئيس أوباما) على توقيع قانون لكبح الإنفاق هو الأكثر حصراً للنفقات منذ عقود من دون أن نصل فعلياً إلى التخلف عن السداد".
وكان الاتفاق الذي تم التوصل إليه يرمي إلى خفض إنفاق الحكومة لسنوات، لكنه لم يدم؛ إذ ارتفعت في السنوات اللاحقة المديونية الأمريكية وازداد عجز الميزانية بسبب إنفاق الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة.
ويحذّر آخرون ممن خاضوا المواجهة في عام 2011 من أن سياسة حافة الهاوية لها تداعياتها حتى وإن كان خطر التخلّف عن السداد غير قائم؛ إذ قال شاي أكاباس، مدير السياسة الاقتصادية في مركز بايبارتيزان بوليسي، لمونت كارلو إن "من الصعوبة بمكان قياس التداعيات المحتملة على بلادنا وقوتها الاقتصادية لكن من المرجّح أنها (التداعيات) تحصل في العمق، وأن مصداقيتنا تتآكل".
كم تبلغ ديون أمريكا؟ ومن يمتلك تلك الديون؟
الولايات المتحدة إذن دولة مدينة تثقلها الديون الضخمة؟ الحقيقة أن أمريكا هي أكبر دولة مدينة في العالم، إذ يبلغ الدين العام على الحكومة الأمريكية نحو 28.5 تريليون دولار (في أغسطس/آب 2021)، بزيادة نحو 1.7 تريليون دولار عن العام الماضي، وبزيادة أكثر من 4 تريليونات عن عام 2019. وبلغت نسبة العجز في الموازنة الأمريكية 133.6% في مارس/آذار الماضي (المقصود بالعجز هو نسبة الدين إلى إجمالي الناتج القومي في عام).
أما بالنسبة لمن هم الدائنون الذين تقترض منهم الولايات المتحدة، يأتي على رأس القائمة شركات وهيئات أمريكية كشركات التأمين وصناديق الاستثمار المحلي وغيرها وتبلغ نسبة ما يمتلكه هؤلاء من الدين الأمريكي نحو 72% تقريباً، بينما تمتلك دول أجنبية باقي تلك الديون.
وتقترض الحكومة الأمريكية من خلال إصدار سندات بالدولار الأمريكي تطرحها في الأسواق بفائدة يحددها البنك المركزي، ويشتري تلك السندات أفراد وهيئات أمريكية ودول أجنبية أيضاً، ويأتي على رأس تلك الدول الأجنبية اليابان والصين، وبحسب بيانات العام الماضي، كانت طوكيو تمتلك 1.2 تريليون دولار من الديون الأمريكية تليها بكين بـ1.1 تريليون دولار أمريكي.
أما الأسباب التي تدفع الأفراد والهيئات والحكومات الأجنبية لشراء سندات أمريكية فأولها وجود فائض مالي لديهم يريدون استثماره بشكل مضمون، وبالتالي فإن سندات الخزانة الأمريكية هي أكثر مجال مضمون للاستثمار نظراً للثقة المطلقة في أن واشنطن ستسدد ديونها في الموعد المحدد.
متى تسدد أمريكا ديونها؟
لا يوجد أي مؤشر على أن ذلك قد يحدث من الأساس، فالدول على الأرجح لا تسدد ديونها بل تديرها، بمعنى أنه إذا حان موعد سداد أقساط أو فوائد لتلك الديون وواجهت الدولة أزمة في تدبير المبلغ المطلوب في موعده، تلجأ إلى الاقتراض مرة أخرى لسداد المستحق وهكذا.
وفي هذا لا تختلف الولايات المتحدة عن غيرها من الدول، ولكونها القوة الاقتصادية الأكبر عالمياً يسعى الجميع لإقراضها عندما تحتاج لأن ذلك استثمار مضمون. كما تلجأ واشنطن إلى طبع دولارات عند الحاجة، وقد فعلت ذلك مرات عديدة من قبل سواء في الأزمة المالية عام 2008 أو عام 2011 أيضاً، وإن كان ذلك الإجراء يؤدي إلى التضخم لكن تأثيره السلبي يكون أكبر على غير الأمريكيين في العادة.
وبحسب تحليل لمعهد Brookings الأمريكي، تواجه الخزانة الأمريكية بالفعل أزمة في سداد مستحقات الديون منذ الشهر الماضي، لكن الوزارة اتخذت "إجراءات استثنائية" مكنتها من الوفاء بالتزامات الحكومة الفيدرالية حتى الآن وصولاً إلى يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، اليوم الذي حددته وزيرة الخزانة جانيت يلي بالفعل.
وبالتالي، فإن عدم توصل الكونغرس إلى اتفاق ما قبل ذلك اليوم، وهو احتمال يبدو غير مرجح، ستجد واشنطن نفسها في ورطة حقيقية فيما يخص الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين، وهو ما يمثل سابقة خطيرة ستكون لها تداعيات مستدامة على الاقتصاد الأمريكي وبالتبعية اقتصاد العالم أجمع، الذي لا يزال الدولار يمثل ركناً أساسياً فيه.
وأخطر تداعيات تخلف واشنطن عن سداد ديونها في موعدها المستحق هو أن ثقة المستثمرين (أفراداً وهيئات وحكومات) المطلقة في السندات الأمريكية سوف تهتز، وهو ما يعني أن تتجه الولايات المتحدة من الآن فصاعداً لبيع تلك السندات ومن ثم يبدأ طريق الانهيار الاقتصادي، الذي يتوقف مداه الزمني على عوامل كثيرة لن يكون لواشنطن السيطرة على أغلبها.
وعلى الرغم من أن وورن باين، الذي كان كبير المستشارين الاقتصاديين للجنة البرلمانية للتشريعات الضريبية عام 2011، يرى أنه لم تكن هناك "أي نية للسماح بحصول تخلّف عن السداد في عام 2011. وأعتقد أنه بالنظر إلى التصريحات العلنية للأعضاء حالياً، تجد أنه لا نية الآن للسماح بحصول تخلّف عن السداد"، يبقى السؤال المطروح هو: كيف يمكن تجنّب التخلّف عن السداد؟ بحسب إذاعة مونت كارلو الدولية.
وقال مارك غولدوين، الذي كان عضواً في "لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة" أثناء أزمة 2011، إن الجمهوريين لم يُبدوا إلى الآن رغبة في التوصل لاتفاق على الرغم من قرب انتهاء المهل، مشدداً على أن آجال الدين لا تحتمل المراوغة، إذ إن "مجرّد الاقتراب منها مكلف".