لم يكن ينقص عملية إجراء الانتخابات في ليبيا من أزمات سوى سحب البرلمان الثقة من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، مما سيزيد المشهد السياسي قتامة، ويفتح الوضع نحو صراع جديد.
فبعد سحب مجلس النواب الثقة من الحكومة، الثلاثاء 21 سبتمبر/أيلول 2021، بشكل مطعون في دستوريته حتى من العشرات من أعضائه، ردّ الدبيبة، مساء نفس اليوم، بجمع المئات من أنصاره بميدان الشهداء وسط العاصمة طرابلس، ودعا إلى إسقاط البرلمان.
وضرب الدبيبة موعداً لأنصاره، الجمعة المقبل، للتجمع في نفس المكان، بعد وصول المزيد من الحشود من مختلف المدن شرقاً وغرباً وجنوباً.
وشدد على أن "الشرعية للشعب"، وأن "البرلمان سيسقط"، و"لن يكون هناك برلمان ممثل للشعب بهذه الصورة".
وهذه التصريحات تعكس شيئاً واحداً، أن العلاقة بين حكومة الوحدة الوطنية ومجلس النواب برئاسة عقيلة صالح وصلت إلى نهايتها، وتم قطع شعرة معاوية بين الطرفين، وفتح باب المواجهة العدمية.
فالثلاثاء، أعلنت رئاسة مجلس النواب أن 89 نائباً صوَّتوا لصالح سحب الثقة من الحكومة من إجمالي 113 نائباً حضروا الجلسة، بينما وقّع 38 نائباً صوَّتوا ضد حجب الثقة بياناً أكدوا فيه أن الذين صوَّتوا بنعم لا يتجاوز عددهم 73 نائباً، وهو أقل من النصاب القانوني المطلوب.
وأوضحوا أن المادة 194 من النظام الداخلي للبرلمان تنص على أن سحب الثقة يكون بالأغلبية المطلقة أي 87 نائباً، وهو ما لم يحدث.
وشددوا على أن ما حدث في جلسة الثلاثاء لا يعبِّر عن إرادة مجلس النواب وسيقود البلاد إلى أزمة دستورية خاصة بعد تعطيل الدائرة الدستورية في المحكمة العليا.
ماذا يترتب على سحب الثقة؟
حجب البرلمان الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية لا يعني حلها، وإنما تحويلها إلى حكومة تصريف أعمال منقوصة الصلاحية، ولا يحق لها البت في الأمور الهامة والمصيرية أو توقيع اتفاقيات دولية أو إبرام صفقات تجارية أو استثمارية كبيرة، أو إعلان الحرب.
وسيقتصر حكومة الدبيبة، في حالة تم تثبيت سحب الثقة، على توزيع المرتبات على الموظفين، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وتقديم الدعم اللوجيستي للمفوضية العليا للانتخابات.
ويمكن أن تستمر حكومة تصريف الأعمال إلى غاية انتخاب برلمان جديد، في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل كما هو مقرر، ومنحه الثقة لحكومة جديدة، التي تتسلم السلطة منها.
والسيناريو الآخر أن يتم التوافق على شخصية أخرى لتشكيل حكومة توافقية جديدة، يعتمدها البرلمان بأغلبية موصوفة (120 نائباً)، إلا أن ذلك مستبعد بالنظر إلى صعوبة اجتماع هذا العدد من النواب في جلسة واحدة، ناهيك عن الاتفاق حول شخصية محددة، فضلاً عن تمسك العشرات من النواب بالدبيبة، ودعمه من المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، وعدد من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وحتى أنصار الأندية الرياضية، والأهم من ذلك دعم البعثة الأممية والمجتمع الدولي لشرعية الدبيبة.
أما السيناريو الأسوأ، والأقرب إلى الواقعية، أن يلجأ عقيلة صالح، وأنصاره في البرلمان، إلى اعتماد حكومة موازية في الشرق، بدون أن تحصل على تأييد أغلبية النواب.
ما يعيد البلاد إلى نقطة الصفر، ويؤدي إلى تشكيل حكومتين؛ واحدة في طرابلس والأخرى في بنغازي، على غرار ما كان عليه الأمر في الفترة ما بين 2014 و2021، من انقسام بين مختلف المؤسسات الدستورية والاستراتيجية من الحكومة إلى البرلمان والبنك المركزي ومؤسسة النفط.
كيف ستجري الانتخابات بعد سحب الثقة؟
نظرياً يمكن أن تجرى الانتخابات في موعدها حتى ولو تم الاعتراف بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، وتحولها إلى حكومة تصريف أعمال.
فإجراء الانتخابات لا يتطلب سوى إصدار مجلس النواب قانونَي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالتشاور مع المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، بالإضافة إلى إعداد القاعدة الدستورية سواء عبر ملتقى الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة، أو عبر اللجنة المشتركة بين مجلسي النواب والدولة (13+13).
لتأتي بعدها المرحلة التنفيذية، التي تشرف عليها المفوضية العليا للانتخابات بدعم لوجيستي من الحكومة، حيث أقفلت عملية تحديث قوائم الناخبين في الداخل والخارج، ولم يبقَ لها سوى تسلّم القاعدة الدستورية من مجلس النواب قوانين الانتخابات.
واقعياً، الأمور أكثر تعقيداً، فملتقى الحوار السياسي لم يحسم مسألة القاعدة السياسية منذ أشهر من النقاش، ومجلس النواب استبق الأمور وناقش مشروع قانون الانتخابات الرئاسية حتى قبل حسم طبيعة النظام (رئاسي أو برلماني).
والأخطر من ذلك أن رئاسة مجلس النواب أصدرت قانون انتخاب الرئيس قبل مصادقة الجلسة العامة للبرلمان عليه بالأغلبية الموصوفة (120 نائباً)، وسلمته إلى مفوضية الانتخابات والبعثة الأممية دون مشاركته مع المجلس الأعلى للدولة، كما ينص على ذلك الاتفاق السياسي.
واعترض 22 نائباً على طريقة إصدار هذا القانون، وكذلك المجلس الأعلى للدولة، وأحزاب سياسية، بينما اعترفت به ضمنياً مفوضية الانتخابات والبعثة الأممية والدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا).
أما مشروع قانون الانتخابات البرلمانية فلم يطرح للنقاش على مستوى مجلس النواب.
وفي خضم هذا النقاش الصعب حول إصدار قوانين الانتخابات والتوافق على قاعدة دستورية، جاء سحب الثقة من الحكومة ليفتح جبهة صراع جديدة.
فالدبيبة، الذي هادن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وقدّم له وللواء المتقاعد خليفة حفتر، تنازلات كثيرة وكبيرة، يجد نفسه مضطراً لخوض معركة مصيرية وحاسمة ضد مَن سماهم "المعرقلين".
فحكومة الوحدة الوطنية التي فازت، في 10 مارس/آذار الماضي، بثقة البرلمان وبشبه إجماع، حجب عنها الأخير ميزانية الدولة، في إطار عملية مستمرة لعرقلة عملها، من صالح وحفتر.
ودعوة الدبيبة أنصاره من جميع المدن الليبية للاحتشاد في ميدان الشهداء بطرابلس اختبار جدّيّ لشعبيته، ورغبة في الحصول على شرعية جديدة لا يستمدها من البرلمان بل من الشعب مباشرة.
وهذا ما قصده الدبيبة عندما خاطب أنصاره مساء الثلاثاء، قائلاً: "الشرعية لكم وللشعب، وأنتم من تقررون في هذه البلاد".
فعدم اعتراف رئاسة البرلمان بشرعية حكومة الوحدة يقابله عدم اعتراف الدبيبة بشرعية مجلس النواب، رغم استداركه بأن عدداً من النواب صوَّتوا ضد حجب الثقة عن حكومته.
ومن المرتقب أن يستعرض الدبيبة قوته الشعبية، ويضغط على "صالح" للاستقالة من رئاسة البرلمان، أو أن يشجع النواب الموالين له بقيادة حركة تصحيحية للإطاحة به، أو تشكيل مجلس نواب موازٍ في طرابلس، مثلما كان عليه الحال ما بين 2019 و2021.
ويضغط الدبيبة أيضاً عبر عمداء البلديات وبالأخص في الشرق، من أجل دفع مجلس النواب للتراجع عن سحب الثقة وتحرير ميزانية الدولة، حيث رفض 66 عميد بلدية هذا القرار.
بينما يسعى صالح لتشويه الدبيبة، حيث بحث مع رئيس ديوان المحاسبة بمدينة البيضاء (شرق)، عمر عبد ربه صالح، تقييم أداء حكومة الوحدة "وما تخلل هذه الفترة (منذ 20 مارس/آذار) من التجاوزات والمخالفات الجسيمة"، بحسب بيان للديوان.
وكان لافتاً أن الاجتماع جرى في مقر البرلمان بمدينة القبة (شرق) مسقط رأس عقيلة صالح، وليس في مدينة طبرق (شرق) التي هدد عميد بلديتها بمنع النواب من الاجتماع في مقرهم الرئيسي بالمدينة.
ولم يعترف بسحب الثقة لحد الآن سوى رئاسة البرلمان والنواب الموالين لها، وبطبيعة الحال قوات حفتر الداعمة لها، بينما رفضه المجلس الأعلى للدولة والبعثة الأممية والعشرات من رؤساء البلديات.
وفي ظل هذا الصدام بين مجلس والحكومة من جهة، والبرلمان ومجلس الدولة من جهة ثانية، خرج حفتر بقرار يعكس رغبته رسمياً للترشح للرئاسيات المقبلة.
حيث قرر حفتر التنحي من منصبه كقائد عام لميليشيات الشرق، لثلاثة أشهر، وتكليف قائد أركان ميليشياته بتولي مهامه خلال هذه الفترة، تبدأ من 23 سبتمبر/أيلول الجاري وتنتهي في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، تاريخ إجراء الانتخابات.
بينما يفترض أن يقرر القائد الأعلى للجيش ممثلاً في المجلس الرئاسي من يخلف حفتر على رأس هذه الميليشيات، التي يفترض أنها خاضعة للمجلس.
فحفتر لا يعترف بسلطة المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، وبالمقابل يسعى للفوز برئاسة البلاد دون أن يقدم أي تنازل لبقية الأطراف، أما إن خسر الرئاسة فسيعود إلى "منصبه" الخارج عن سيطرة مؤسسات الدولة، طبقاً لما نص عليه "قانون" انتخاب الرئيس المطعون في دستوريته.
فمع اقتراب موعد الانتخابات يحتد الصراع بين مختلف الأطراف والفاعلين الرئيسيين وعلى رأسهم حفتر وصالح والدبيبة وخالد المشري رئيس مجلس الدولة، والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، لتحديد قواعد اللعبة التي ستوضح مسبقاً إلى من ستؤولُ إليه رئاسة البلاد.