بعد مغازلات متبادلة بين إسرائيل والسيسي، الذي تعتبره بعض الأوساط الإسرائيلية كنزاً أكثر استراتيجية من مبارك، ويفاخر هو بالسلام الدافئ مع إسرائيل، وفي زيارة هي الأولى من نوعها منذ عشر سنوات، استقبل عبد الفتاح السيسي في ١٣ من سبتمبر/أيلول الجاري، في شرم الشيخ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، وتباحثا حول سُبل وجهود إعادة إحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، إضافة إلى مستجدات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية. ليست الزيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول إسرائيلي كبير لمصر، لكنها الزيارة الأولى لرئيس وزراء الكيان لمصر منذ ثورة "25 يناير"، فما الجديد الذي طرأ لتتحول الزيارات من السرية للعلنية؟ وفي أي اتجاه تسير العلاقات المصرية-الإسرائيلية؟
وفاة نفوذ الربيع العربي
كانت للسيسي لقاءات سرية متعددة مع المسؤولين الإسرائيليين منذ ترتيبات الثالث من يوليو/تموز ٢٠١٣، وتوصف علاقاته بالكيان باعتبارها الأقوى في تاريخ العلاقات بين البلدين، فهناك تنسيق أمني واستخباراتي وعسكري مكثف بدعاوى الحرب على الإرهاب ومواجهة التنظيمات التكفيرية في سيناء، ويتقاسم الطرفان عداء شديداً لتيارات الإسلام السياسي برمّتها وكراهية شديدة للربيع العربي وتطوراته. ففي العام ٢٠١٧ تحدثت القنوات العالمية عن لقاء سري جمع السيسي وملك الأردن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في العقبة الأردنية في ٢٠١٧، وفي العام ٢٠١٨ أفادت تقارير إعلامية بأن نتنياهو زار مصر سراً لحضور اجتماع غير رسمي مع السيسي؛ للتوصل لاتفاق طويل الأمد لوقف إطلاق النار في غزة وتمكين السلطة الفلسطينية من استعادة سيطرتها على القطاع.
التقى السيسي ونتنياهو وفقاً لتقارير أيضاً أكثر من مرة على هامش اجتماعات الجمعية العامة، للأمم المتحدة في نيويورك، عدة مرات، من ضمنها مرتان في أقل من عام ما بين سبتمبر/أيلول ٢٠١٧ وسبتمبر/أيلول ٢٠١٨، بالإضافة للزيارة السرية السابقة له في القاهرة أي أنهما التقيا ثلاث مرات خلال عام.
وبشّرت الصحافة الإسرائيلية بلقاء علني كان مرتقباً بين السيسي ونتنياهو مطلع ٢٠٢١، لكن تم تأجيله بسبب الاعتداءات الإسرائيلية على المصلين في القدس واندلاع عملية "سيف القدس" التي وضعت النظامين في حرج بالغ داخلياً وإقليمياً، هذا بالإضافة للقاءات والاتصالات المتكررة العلنية والسرية بين وزراء خارجية الطرفين، لكن معظم هذه الزيارات على مستوى الرؤساء كانت على هوامش لقاءات دولية وخارج الأراضي المصرية أو لظروف طارئة هامة.
بينما يحاول نفتالي بينيت، الذي قدم حديثاً إلى رئاسة الوزراء في إسرائيل، بعد صراع سياسي محتدم مع نتنياهو وتحالفه السياسي الذي مكث في رئاسة وزراء إسرائيل لمدة هي الأطول في تاريخ الكيان، تثبيت دعائم حكمه وإيجاد حل لتخليص إسرائيل من عار عملية "سيف القدس" التي أبقت أغلب المدن الإسرائيلية وسكان إسرائيل في المخابئ والملاجئ لأيام، وعرضت أهم المنشآت الإسرائيلية للتوقف عن العمل والشلل التام لأسابيع بما في ذلك المطارات ومنصات تسييل الغاز في البحر المتوسط، وكان إنهاء مستقبل نتنياهو السياسي نتيجة حتمية لفشله في مواجهتها.
في ذات الوقت، يبحث السيسي عن دور كاد يضيع في خضم موجة التطبيع الجديدة، غير المحسوبة أو المنسقة مع مصر، ويبحث كذلك عن مصالح مشتركة تتضمن بالضرورة توقف التطور التقني لأسلحة المقاومة التي أحرجت كافة الأنظمة العربية. كذلك إيجاد مخرج للضغوط الفلسطينية الداخلية الداعية لتغيير قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة النظر في التنسيق الأمني مع الاحتلال، من أجل منع إقالة عباس أو تأجيل تغييره حتى بقيادات تحاول فرضها الأنظمة الخليجية، ومحاولة فرض تسوية جيدة لقضية الأسرى من الطرفين والتي يبدو أن فصائل المقاومة الفلسطينية تمتلك فيها أوراقاً قوية لم تطلع عليها الطرف المصري بالكامل، والذي يولي أهمية كبرى لدوره في صفقات سابقة لتبادل الأسرى عُدت عادلة للطرفين.
بالنسبة لإسرائيل، فإن هذه الزيارة في توقيتها الحالي شديدة الأهمية بعد 10 أعوام من علاقة مضطربة منذ اقتحام مقر السفارة في القاهرة، وإجبار النظام على تحسين بعض شروط ملحقات كامب ديفيد ولو عملياً دون تعديل الاتفاق نفسه، وذلك بزيادة أعداد قوات الجيش في سيناء وتدعيم معداته في مواجهة الإرهاب. تلك الزيارة بهذا المستوى تعد إعلان وفاة نفوذ ثورات الربيع العربي على العلاقات الإسرائيلية مع الأنظمة في المنطقة العربية، بل والإعلان عن تحالفات أقوى تضمن استقرار العلاقات في المستقبل، بحسب تصريحات بينيت، الذي قال في التعليق على الزيارة: "لقد أنشأنا أساساً لعلاقة عميقة في المستقبل".
تأتي الزيارة أيضاً بعد 10 أيام فقط من استقبال السيسي نظيريه الفلسطيني والأردني لبحث تطور الأوضاع في القدس.
أي أن الزيارة مثّلت فرصة لإعادة تأكيد دور مصر الإقليمي، بينما كانت بالنسبة لرئيس وزراء إسرائيل، فرصة لإظهار نفسه كرجل دولة بعد شهور فقط من توليه منصبه، ومحاولته الوفاء بالتزاماته في ملف الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، والتي لن يستطيع تنفيذها دون وساطة مصرية.
ضوء أخضر أمريكي
بعد وضوح الرغبة الأمريكية في الانسحاب من المنطقة والتركيز أكثر على الخطر القادم من الشرق وتحديداً من الصين، فإن إسرائيل تستشعر خطر أن تُترك وحيدة في الشرق الأوسط، وتحاول أن توسع من دائرة التطبيع قدر الإمكان، وكان هذا واضحاً في الاتفاقات المكثفة للتطبيع مع بلدان الخليج العربي بالإضافة للسودان والمغرب، بل ومحاولة إدخال إسرائيل كشرطي وحارس للمنطقة في مواجهة إيران، وعلى طريقة تعزيز تحالف سُني مضافاً إليه إسرائيل في مواجهة إيران، ولا يعرف المرء ما إذا كانت إسرائيل سُنية إلا من زاوية سُنة التطبيع التي يستنّها حكام المنطقة.
تواردت تحذيرات الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية من تبعات الانسحاب الأمريكي من المنطقة سواء في العراق أو أفغانستان، باعتباره يصبّ في صالح تمدد إيران والقوى الموالية لها؛ حيث إنها كانت ترى الانسحاب والتطلع بلا مساومة من جانب الولايات المتحدة إلى اتصال مع إيران حول العودة للاتفاق النووي أو إمكانية إبرام اتفاق جديد، يجعل إسرائيل أمام مفترق مصيري. كلا هذين الحدثين الدراماتيكيين يؤثران على اتصالاتها الدولية مع الجهات القوية في الشرق الأوسط.
وتخشى إسرائيل كذلك من أن تتحول مصر إلى معسكر ممانع لتدخلاتها جراء الغضب من تهميشها واستبعادها من مشروعات التطبيع الجديدة رغم كون مصر أول المرحبين رسمياً بهذه الاتفاقات التطبيعية.
في المقابل، فإن تخوف مصر من أن تُستبعد من الترتيبات الجديدة في المنطقة وتفقد دورها كوسيط مباشر في عمليات التطبيع دفعها من جديد لمحاولة استعادة دورها والبحث عن دور في تسوية القضية الفلسطينية، التي انحدرت تحت القيادة المصرية المتدهورة للمنطقة من كونها صراعاً عربياً إسرائيلياً برؤية عربية للسلام ومحاولات لفرض مسار تفاوضي جماعي تكون المبادرة العربية أساسه، إلى مجرد نزاع فلسطيني إسرائيلي منزوع الهوية باعتباره صراع حدود فقط، رغم أن الداخل الفلسطيني والدواخل العربية في معركة سيف القدس وسابقاتها من سطور تاريخ المقاومة ترفض بقوة هذه التسويات الفاشلة. من هنا تحاول الإدارة المصرية وحتى السلطة الأردنية تجاوز حالة السخط العربي والعالمي والتي تحولت لتضامن غير مسبوق مع الفلسطينيين في أحداث حي الشيخ جراح ومعركة سيف القدس بالتوصل لأية تهدئة طويلة المدى تعطي للفلسطينيين فرصة للإعمار وتعطي للاحتلال فرصة لترميم منظوماته الدفاعية التي ثبت فشلها بنسبة كبيرة، وتحرم الفواعل من دون الدول في المنطقة من فرصة المزايدة على الأنظمة السياسية العربية التطبيعية.
وفي هذا الإطار، فإن تعميق عمليات التطبيع تأتي متسارعة منذ العام ٢٠١٤؛ حيث شهدت العلاقات ما وصف حينها بأنه سلام دافئ وتنسيق أمني غير مسبوق، وصولاً للانتقال من تصدير الغاز لإسرائيل إلى استيراده منها لإعادة تسييله وتصديره إلى أوروبا، بموجب اتفاق لمدة ١٥عاماً بقيمة ١٥ مليار دولار عبر شركات تابعة للأجهزة السيادية المصرية.
في الزيارة تم الاتفاق على أن تطلق شركة مصر للطيران ٤ رحلات مباشرة أسبوعياً من القاهرة إلى تل أبيب الشهر المقبل، بعد سنوات من إخفاء الرحلات – التي نصت عليها معاهدة السلام الإسرائيلية عام 1979 مع مصر- وهذا يعد كسراً جديداً لحالة السرية في العلاقات وتجاوزاً لحالة الحرج من المعارضة الشعبية للتطبيع التي لم يعد لديها سوى الفضاء الاجتماعي الافتراضي للتعبير عن السخط على هذه الاتفاقات.
أهمية التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي الفلسطيني
أثبتت تطورات عملية سيف القدس أهمية الدور المصري بالنسبة لإسرائيل، سواء في وقف الحرب أو تجميد طموحات الفلسطينيين والشعوب العربية والحركات الداعمة والمتضامنة عالمياً عند حدود معينة، فلم تؤل مفاوضات ما بعد هذه الحرب لأي تحسن في حياة الفلسطينيين، بل إلى دعاية استغلها النظام المصري في مقابل تدهور كبير في أوضاع سكان القطاع يدرك الجميع استحالة استمراره للأبد.
كذلك فإن تجاوب حركة حماس مع الحراك المصري المكثف في الحرب الأخيرة ببراجماتية شديدة وزيارات كبار المسؤولين الأمنيين المصريين للقطاع واللقاء بقيادات الفصائل الفلسطينية كل ذلك دعم الصورة التي تريدها مصر لإقناع إسرائيل والولايات المتحدة بأهميتها كوسيط للسلام، وهو بالطبع حقق للفلسطينيين خروجاً بأقل الخسائر المادية في ظل أوضاع معيشية سيئة لا يستطيع الفلسطينيون معها تحمل حرب ممتدة أكثر من ذلك.
بحسب تايمز أوف إسرائيل عززت إسرائيل ومصر علاقاتهما الدبلوماسية في السنوات الأخيرة، بحيث تشترك الحكومتان في مصالح أمنية وثيقة في قطاع غزة- فمصر السيسي، مثل إسرائيل، ترى أن قادة حماس في القطاع يشكلون تهديداً خطيراً- وكذلك في سيناء وشرق البحر المتوسط، رغم تعاطيها مع هذه القيادات بحذر شديد، كما أن الحسابات الإقليمية انقلبت رأساً على عقب خلال العام الماضي بسبب تطور آخر هو اتفاقيات أبراهام التطبيعية؛ حيث إن موافقة أربع دول عربية على مستويات مختلفة من العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بموجب الاتفاقات، أدت إلى إزالة بعض محرمات التطبيع والحرج من على عاتق النظام المصري.
أيضاً فإن هذا التنسيق يحاول تبريد حالة الغضب المتراكمة فلسطينياً ضد قيادات حركة فتح الحاليين من جناح عباس والأجهزة الأمنية ،ويحاول ضمان بقاء أية حلول في إطار الحفاظ على أوسلو ودور السلطة الوطنية الفلسطينية كحاكم للضفة والقطاع، وبالتالي تأجيل الانتخابات لضمان استقرار هذه السلطة في يد غير الإسلاميين والأجنحة الثورية في فضائل المقاومة رغم زيادة الرصيد الشعبي محلياً وإقليمياً لهذه الفصائل وتلك الأجنحة التي رفعت سقف التوقعات الفلسطينية والعربية، في وقت لا يزال سكان القطاع يعانون أزمات طاحنة جراء الحصار.
في التحليل الأخير نحن إزاء نظرة مصرية مأزومة لإمكاناتها ولدورها الذي سبق وأعلن وزير خارجيتها سامح شكري أنها لا تريد دوراً ريادياً، وهذه الرؤية المأزومة تصبّ في صالح تسيّد إسرائيل للمنطقة، بل ومحاولتها أن تكون وسيطاً مقبولاً من قبل حكامها في قضاياها الرئيسية، وأقصى ما يمكن أن يقدمه تعاون علني للطرفين هو اتفاق لاقتسام الفوائد من عملية إعادة إعمار قطاع غزة، التي ترغب أطراف أخرى كقطر وتركيا في لعب دور أكبر فيها، لتعود الحروب الخاطفة لإسرائيل بتدميره مرة أخرى، فرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي لا يؤمن بأي مسار سياسي مع الفلسطينيين ولا يؤيد حل الدولتين الذي تطالب به مصر والدول العربية من الأساس.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.