بين الفقد وألمه، تتجسد المشاعر والأحزان، وتتحول بمرور الوقت إلى وحش يجثم فوق الصدور، ويحاول ذلك الوحش التهام كل ما تمتلكه من روح، وبينما يسعى لسد جوعه بواسطة روحك يدمر كل ما تمتلكه من مشاعر بشرية وإنسانية، ويحطم في طريقه ذاك كل أمل وسعادة في قلبك، ويمسح بذيله البشع كل ألوان العالم من حولك، فلا ترى غير الظلام ولا تجد سوى اليأس.
وهكذا كان الاكتئاب وحشاً بلا رحمة، يترصد لضحيته مستغلاً آلام الفقد والمعاناة والحزن، كي يزداد حجماً وقوة، ويزيدك أنت ضعفاً ونحولاً، وبمرور الوقت ومع استسلامك له، سيتغذى على كوابيسك ليصبح مسخاً لا يقهر.
وهذا بالضبط ما حدث مع أميليا، الأم الوحيدة في فيلم The Babadook، الفيلم الذي منحني رؤية رائعة حول الاكتئاب وما يمثله لضحيته.
في البداية، يسرد لنا الفيلم قصة أميليا، الأم الوحيدة التي تقوم برعاية طفلها وسط منزل كئيب بعد وفاة زوجها في حادثة عنيفة وبشعة، تحاول أميليا مصارعة ألم الفقد وحزنه، ولكنها تجد نفسها ضعيفة أمامه، تعيش اليوم بيومه، تحاول التكيف مع وحدتها، تحاول الصمود أمام الآلام بينما تظن أن الزمن سيتكفل بجرحها.
ولكن الأم المسكينة لم تنتبه لذلك الشر الذي دخل منزلها، شر يتحدث لطفلها فقط، وحش خفي يخبرها الولد عنه ولكنها لا تصدقه، تصرخ به، تغضب منه، تلومه على أشياء لم يفعلها، وسرعان ما تكتشف أن طفلها كان صادقاً، الوحش داخل المنزل بالفعل، الوحش داخلها بالفعل.
من جماليات هذا الفيلم أنه استطاع رسم علاقة عاطفية فريدة بين الطفل وأمه، علاقة تأخذ المشاهد بين شباكها، فتتركه في النهاية معلقاً بين الخيوط، حائراً بين آلام الأم ومعاناتها وتكذيبها للطفل المزعج، وبين الطفل المسكين الذي يرى شيئاً مرعباً خارقاً للعقل ولا يجد من يصدقه.
يمكنني القول أيضاً إن الفيلم استطاع تقديم رؤية حقيقية شديدة الدقة لما يمكن أن يكون عليه الاكتئاب، متمثلاً في وحش كذلك، يمتلك فماً واسعاً متعطشاً للأرواح، وأصابع طويلة ممتدة للتلاعب بمشاعر ضحاياه.
حين تشاهد الفيلم، معرضاً نفسك لما يسمى التجربة الشخصية معه، متابعاً للأحداث بينما يلاحق بعضها بعضاً، ستجد نفسك عارياً، فحالة الفقد التي جعلت أميليا عرضة لذلك الوحش المسمى الاكتئاب في عالمنا والبابادوك في عالم الفيلم، قد لا يختلف كثيراً عن تلك المآسي التي قد تتعرض لها يومياً، مما يجعلك أميليا ويجعل أميليا أنت.
إنسان مرهق تحاصرك آلام المآسي، صدرك عار، وباب منزلك مفتوح، يغطيك البرد وتشعر بلسعاته، وقبل أن تدرك أي شيء يتملكك شعور بأنفاس الوحش خلف رأسك.
هكذا يسرد لنا الفيلم قصته المرعبة، فالأم أميليا وطفلها يمثلاننا نحن، كل من عانى من مأساة في حياته، والمنزل الكئيب يمثل محيطنا الذي سرعان ما يتحول لقبر عديم الحياة بسبب مشاعرنا السلبية، أما البابادوك، ذلك الوحش المرعب الذي يتسلل لغرفنا ليلاً، والذي يدخل أجسادنا بينما نحن نيام، ويتحكم بنا ويتحرك أسفل جلودنا، ذلك الوحش ليس سوى الاكتئاب.
لذا في نهاية الفيلم، لا تستطيع أميليا أن تحيا وتسعد وتفرح وتأمل، إلا بعد توقفها عن مصارعة ذلك الوحش ومحاولة قتله، فقط حينما تتقبله كجزء منها، فقط حينما نتقبل آلامنا ومشاعرنا السلبية كحقيقة مطلقة لا يمكن محوها من داخل كينونتنا الإنسانية، حينها فقط سندرك قيمة ومعنى الحياة، ونقدر كل لحظة نعيش عبرها، وتتحول كل دقيقة بين براثن اليأس، إلى دقائق بيد الأمل.
في النهاية، يمكن وصف الفيلم بسيمفونية مرعبة حول صراع الإنسان مع الاكتئاب واليأس، سيمفونية تمنحنا في نهايتها قبساً من ضوء في آخر النفق، أملاً في عالم يعرف كيف يواجه وحوشه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.