عرفت الانتخابات المغربية الأخيرة التي جرت يوم 8 سبتمبر/أيلول 2021 متابعة إعلامية وثقافية ومجتمعية تجاوزت البعدين المحلي والإقليمي لتصل إلى العالمية، حيث ما زلنا نشهد تحليلات من شتى المنابع الفكرية والثقافية لنتيجتها النهائية التي عرف فيها حزب العدالة والتنمية هزيمة كبيرة وصفها أتباعه بـ"الكابوس"، إذ انتقل من الصدارة بـ125 مقعداً برلمانياً إلى 13 مقعداً فقط، في تراجع غير مسبوق للحزب "الإسلامي".
المثير في هذه النقاشات أنها لا تركز على تحليل فوز الأحزاب الحالية بقدر ما تركز على خسارة الحزب الذي كان يقود الحكومة السابقة، فقد يبدو الأمر بديهياً بالنظر إلى طبيعة حزب العدالة والتنمية وموقعه مقارنة ببقية الأحزاب الحالية، كيف لا وهو الحزب الذي شغل الرأي العام في الداخل والخارج منذ ظهوره كقوة سياسية في الساحة المغربية، ناهيك عن الصخب والجدل اللذين أثارهما، حين تصدر الانتخابات وقاد الحكومة لولايتين متتابعتين؛ إلا أن هذا الواقع، وما أفرزه في الانتخابات الأخيرة من معطيات ونتائج، قد ظل غير مفهوم بالنسبة لقطاعات واسعة من داخل الحزب وخارجه، وهو ما يتطلب الأخذ بعين الاعتبار جملة من المحددات إن أردنا الاقتراب من الصورة في شموليتها.
فهذه المحددات محاولة لفهم الانتخابات المغربية وفق أساس منهجي يراعي السياقات الداخلية والخارجية، وتأخذ بعين الاعتبار طبيعة الشأن السياسي في المغرب، حتى لا يتم الوقوع في تحليل إسقاطي يأخذ فهماً معيناً تّم في سياقات مغايرة وظرفيات مختلفة ويسقطه على السياق المغربي:
أولاً، وجبت الاستفاقة من هول الصدمة التي خلفتها نتائج انتخابات الثامن من سبتمبر/أيلول، سواء لدى التيار "الإسلامي"، الذي لم يتوقع هذا السقوط المدوي، أو لدى بقية الأحزاب الأخرى، والتي عرف بعضها تقدماً غير مسبوق في الانتخابات الحالية، لأن الحالة النفسية الناجمة عن هذه الصدمة تشكل كتلة من الضباب تكاد تحجب رؤية اليد إذا أُخرجت، وتحول دون رؤية الألوان بحصرها في الأبيض والأسود.
والغرض من هذا الاعتبار هو لفت الانتباه إلى العواقب السلبية للتفكير المتسرع، ذلك أن أي جهد في فهم ما حصل وتقييم حصيلته لا يعدو أن يكون مجرد رد فعل، سلباً كان أم إيجاباً، بحيث سيتراوح هذا الجهد بين التفسير المؤامراتي وجلد الذات أو التصويت العقابي أو غيرها من التفسيرات.
ثانياً، يعتبر حزب العدالة والتنمية، كغيره من الأحزاب، ابن بيئته، وليس طارئاً أو أجنبياً عليها، بحيث يتشرب ثقافتها ويتأثر بها، إيجاباً وسلباً. وعليه فلا يستقيم أي حديث عنه كأنه فوق الواقع أو تحته، بمعنى أنه لا يمكن فهم طبيعته وتطوره وصيرورته إلا إذا ربطناه بالسياق الذي ولد ونشأ فيه، دون أن يعني هذا فصله عن السياق العربي والإسلامي.
والغرض من إثارة هذا الاعتبار هو الانفكاك عن وجهتي النظر اللتين تهيمنان على قراءات التيارات ذات التوجه الإسلامي؛ إحداهما: وهي التي يتبناها خصوم هذه التيارات، والتي تنفي أي صلة بالسياق الذي تتحرك فيه (السياق المغربي)، وتربط نسبها بالخارج (السياق العربي الإسلامي). ووجهة النظر الأخرى، وهي التي يتبناها أنصار هذه التيارات، والتي تستميت في الدفاع عن انتمائها إلى السياق المغربي مع استبعاد أي صلة بالخارج.
ارتباطاً بالاعتبار الثاني الذي يبرز أهمية السياق، فإن المشهد السياسي عموماً في علاقة جدلية مع هذا الأخير، حيث يتأثر به ويؤثر فيه، فكل طرف هو مرآة للطرف الآخر، وعليه فقد يكون من الصعب أن نتوقع مثلاً مشهداً سياسياً متطوراً في سياق واقع متدهور أو منحط، والعكس صحيح (وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً). وهذا يعني فيما يعنيه أن المستوى العام للعمل السياسي والأفق الفكري للفاعلين في المشهد السياسي (أحزاباً ونخباً) متقارب جداً، والاختلاف إن وُجد ما هو إلا في الدرجة وليس في النوع.
إن القصد من هذا الاعتبار هو التنبيه إلى خطورة المقاربة التبسيطية التي تنظر إلى المشهد السياسي مفصولاً عن سياق الواقع العام، بشكل تقرأ فيه الخارطة السياسية بمعزل عن الجغرافية الثقافية والسياسية والاجتماعية. وقد يوحي هذا الكلام أن العلاقة ميكانيكية، إذ ما الجدوى، والحالة هذه، من وجود أحزاب سياسية وتيارات فكرية (وهو ما يمثل النخب) تطمح إلى تغيير واقع السياق؟ إلا أنه وبخلاف هذا الفهم، ترمي هذه الفكرة إلى تسديد النظر وتعميقه نحو علاقة النخب بالسياق، إذ هي بطبيعتها (أي العلاقة) مركبة وشائكة. فبحكم الوعي التاريخي للنخب وأفقها التحرري، فإن المفروض فيها هو أن تعتبر السياق أرضية للوقوف عليها والانطلاق منها، وليس سقفاً تستظل به.
إذا كان المغرب يتميز بخصوصيات تاريخية وثقافية، فإنه ينفرد أيضاً بخصوصية سياسية تتمثل في طبيعة النظام السياسي الذي حكم المغرب دون انقطاع. وتتجلى هذه الخصوصية في مجموعة من الخصائص، أتوقف عند اثنتين منها لارتباطهما بالموضوع:
أما الأولى، فتتمثل في عراقة النظام السياسي التي تمتد لقرون. بحيث لا تكمن هذه الخصيصة في الامتداد الزمني فقط، وإنما أيضاً فيما تتيحه هذه المساحة الزمنية من مراكمة الخبرة والتجربة والحنكة سواء في تدبير الشؤون العامة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، أو في تدبير الشؤون الاستراتيجية والعلاقات الدولية.
والثانية، فتتجلى في إيجاد صيغة توافقية بين "التقليدانية" و"العصرانية"، الأمر الذي لم يتحقق في غير المغرب من البلدان العربية الإسلامية التي كانت فيها هذه العلاقة تكتسي غالباً طابع الصراع والصدام. بل يمكن القول إن هذه العلاقة في صيغتها المتوترة قد تفسر أسباب الصراع وعدم الاستقرار في كثير من البلدان العربية الإسلامية.
والغرض من هذا الاعتبار هو الدعوة إلى التريث وعدم إصدار أحكام متسرعة فيما يخص المشهد السياسي والاجتماعي المغربي، فالعلوم السياسية تقف، في كثير من الأحيان، عاجزة أمام هذا النموذج، إن لم نقل إن هذا الأخير يتحداها، كما كان يحلو لعالم الأنتروبولوجيا والسياسة الفرنسي برونو إتيان Bruno Étienne أن يردد في محاضراته. وعليه فهو دعوة إلى الاجتهاد لإبداع مقاربات منهاجية وقاموس من المصطلحات يتناسب وطبيعة هذا النظام السياسي. وهو من جهة أخرى دعوة إلى الوعي بهذه المعطيات، خاصة الوعي التاريخي منها بالنسبة للفاعلين السياسيين، وذلك بهدف عقلنة العمل السياسي وإضفاء المعنى عليه، وإيجاد التوازنات المجتمعية والاستراتيجية الضرورية من أجل إنضاج الشروط الموضوعية لتطوير المشهد السياسي.. وللحديث بقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.