داعش غاضبة منها والقاعدة تهنئها بانتصارها، هكذا تبدو العلاقة المركبة بين طالبان وداعش والقاعدة، فكيف ستتعامل الحركة الأفغانية مع الحركتين المتطرفتين بعدما وعدت الأمريكيين بعدم توفير ملاذ للإرهاب.
وأثارت سيطرة حركة طالبان السريعة على أفغانستان المخاوف من أنّ البلاد قد تتحوّل من جديد إلى ملاذٍ آمن للمتشددين الإسلاميين، العازمين على تنفيذ عمليات الإرهاب الدولي. وربما تكون هذه المخاوف منطقيةً في ضوء تاريخ طالبان الذي تضمن إيواء هذا النوع من الجماعات المتشددة.
لكن أكبر جماعتين في المنافسة على النفوذ داخل البلاد، تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تواجهان عقبات كبيرة في طريق مساعيهما لاستغلال أفغانستان كمنصةٍ لتعزيز قوتهما وشن موجةٍ جديدة من الهجمات، حسب تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
فهذه الجماعات منقسمةٌ فيما بينها حول دور أفغانستان التي تُسيطر عليها طالبان في مشهد الجهاد العالمي، وفقاً للمجلة الأمريكية.
فبالنسبة للقاعدة، يُعتبر انتصار طالبان نصراً مؤزراً ووفاءً من الله بوعده النصر للمؤمنين على الكافرين. أما بالنسبة لداعش، فإنّه ليس نصراً على الإطلاق، بل مجرد دليلٍ آخر على استعداد طالبان للتعاون مع الأمريكيين.
القاعدة تحاول أن تتجمَّل وداعش تتوغّل في التطرف
منذ صعود داعش عام 2013 وإعلان دولة الخلافة العام التالي داخل الأراضي التي سيطر عليها التنظيم في العراق وسوريا؛ سعت القاعدة إلى الظهور بمظهر الجماعة الأكثر اعتدالاً وبراغماتية. كما عمّقت القاعدة علاقاتها القوية بالفعل مع طالبان.
فتحت قيادة خليفة أسامة بن لادن، أيمن الظواهري، أكّدت القاعدة مراراً على ولائها لطالبان. حيث جدّد الظواهري البيعة نيابةً عن القاعدة بأكملها لزعيمي طالبان التاليين: الملا أختر محمد منصور عام 2015 والملا هبة الله آخوند زادة عام 2016، واصفاً إمارة أفغانستان الإسلامية في كل مرة بأنّها "أول إمارةٍ شرعية" منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1924.
ويبدو أن كل ذلك يتناقض تماماً مع نص اتفاق فبراير/شباط 2020 بين الولايات المتحدة وطالبان، والذي تعهّدت فيه الأخيرة بوقف دعمها للقاعدة والدخول في محادثات سلام مع الحكومة الأفغانية.
القاعدة لم تغضب من اتفاقية طالبان مع الأمريكيين، وطالبان تتهمها بالضلال المبين
لكن يبدو أن قيادة القاعدة لم تُضايقها الاتفاقية. ففي مارس/آذار عام 2020، نشرت القاعدة بياناً لتهنئة طالبان على الانسحاب الأمريكي المقرر.
واحتفى البيان باتفاق الدوحة الموقع بوساطةٍ قطرية، وذلك باعتباره "نصراً تاريخياً عظيماً"، كما دعا المسلمين في شتى أنحاء العالم إلى الاقتداء بالمثل الذي ضربته حركة طالبان في التزامها بالجهاد.
وبينما كانت القاعدة تُعزز علاقتها مع طالبان، اتهمت داعش طالبان بالضلال عن الطريق المستقيم. ففي رواية داعش، كان حيد طالبان عن الدين واضحاً بشكلٍ خاص عقب وفاة الملا عمر عام 2013. فبعده تجاهلت طالبان تطبيق الشريعة الإسلامية، وصارت أكثر قومية، وأكثر تسامحاً مع الأقليات الشيعية في البلاد، كما سعت إلى تكوين علاقات مع الدول الكافرة. كذلك حمل داعش المسؤولية لطالبان التي رفضت مساعي تنظيم الدولة لإعادة تأسيس خلافته، حيث قاومت الحركة بشدة جهود داعش عام 2015 لإقامة ما يعرف بولاية خراسان في أفغانستان.
وفي أعقاب إعلان اتفاق عام 2020 بين واشنطن وطالبان، وصف داعش الاتفاق بأنّه دليلٌ آخر على ابتعاد طالبان عما وصفه بـ"الطريق المستقيم". حيث أدانت نشرة داعش الرسمية طالبان لأنّها اتّخذت من الأمريكيين "حليفاً جديداً"، كما أوضح المتحدث باسم داعش أنّ الاتفاق أضفى طابعاً رسمياً على ما كان واضحاً بالفعل منذ فترة- وهو تآمر الولايات المتحدة مع طالبان ضد داعش. وعلى حد تعبيره، كانت الاتفاقية مجرد "غطاءٍ للتحالف القائم بالفعل بين ميليشيا طالبان المرتدة وبين الغزاة".
طالبان طلبت من القاعدة تعليق أنشطتها
عقب الاحتفاء بصفقة طالبان مع الولايات المتحدة، امتنع تنظيم القاعدة عن التعليق على الوضع في أفغانستان لمدة عامٍ ونصف. ووفقاً لوكالة استخبارات الدفاع، فقد طلبت حركة طالبان من تنظيم القاعدة "تعليق أنشطته والتعتيم على العلاقة القديمة بين الجماعتين حتى تُنهي قوات الولايات المتحدة والحلفاء انسحابها بالكامل". ومن الواضح أنّ القاعدة شعرت بالحرية الكافية للتعليق علناً مرةً أخرى بمجرد خروج آخر جنديٍ أمريكيٍ من كابول يوم 31 أغسطس/آب، حيث أصدرت بعدها بساعات بياناً لتهنئة طالبان والأمة الإسلامية بهذا "النصر التاريخي".
ونصّ البيان على أن هذا الانتصار في أفغانستان أثبت أن طريق الجهاد- لا الاستسلام ولا الانحناء ولا التخلّي- هو الطريق الذي خاتمته النصر والتمكين على الدول الكافرة. كما أردف أنّ الهزيمة الأمريكية أنهت "عصر الغطرسة الأمريكية والأوروبية، وأطماعهم في الاحتلال العسكري للبلدان المسلمة". فضلاً عن أنّ هذا الانتصار الإسلامي "سيُفسح الطريق بعون الله وقوته لشعوبنا المسلمة للتحرر من حكم الطواغيت، وتحرير فلسطين من براثن الصهاينة".
وداعش ترى انتصار طالبان تمثيلية مع الأمريكيين
ولكن بالنسبة لتنظيم داعش، فقد كان يسخر من فكرة تحقيق طالبان لأي "نصرٍ" في أفغانستان. وما حدث في وجهة نظر داعش أنّ الولايات المتحدة سلّمت السلطة لطالبان، التي صارت من وكلاء الولايات المتحدة فعلياً.
وفي أعقاب سيطرة طالبان على كابول يوم 15 أغسطس/آب، استهانت نشرة داعش بالنجاح العسكري الصادم لطالبان، حسب وصف المجلة الأمريكية، ووصفته بأنّه "نتيجةٌ طبيعية" لما اتفقت عليه أمريكا وطالبان في الدوحة قبل عامٍ واحد.
ورأى تنظيم داعش أنّ الأمر لا يعدو كونه "انتقالاً سلمياً للسلطة من حاكمٍ وثنيٍ لآخر؛ حيث استبدلنا حاكماً وثنياً حليقاً بآخر له لحية طويلة". وأردفت النشرة أنّ طالبان وعدت بعدم السماح بوقوع هجوم مثل الذي حدث في الـ11 من سبتمبر/أيلول مرةً أخرى، ولهذا السبب "أعادت أمريكا طالبان إلى السلطة وسلّمت كابول بدون إطلاق رصاصةٍ واحدة".
ومؤخراً، قال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، إنه من "الممكن" أن تسعى الولايات المتحدة للتنسيق مع طالبان بشأن ضربات مكافحة الإرهاب في أفغانستان ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، على الرغم من أن وزير الدفاع لويد أوستن لايزال متشككاً، حسب صحيفة The Guardian.
ولقد أصبح مدى وطبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة وطالبان، بعد أن انتهت الحرب الآن، إحدى القضايا الرئيسية التي يجب حلها.
ولكن لماذا تبدو القاعدة راضية عن طالبان، وبينما يؤشر غضب داعش إلى أن طالبان قد تغيرت فعلاً، فكيف يمكن أن تكون قد تغيرت إذا كانت القاعدة راضية عنها، وألا يجب أن يقلق هذا الرضا الذي يأتي من التنظيم الذي هاجم برجي التجارة العالميين الغرب.
بين القاعدة وأمريكا.. ماذا تريد طالبان؟
ترى المجلة الأمريكية أن الواقع يقع على الأرجح في المنتصف بين الجانبين. إذ ترغب طالبان في الفوز بالحسنيين: الحفاظ على علاقتها مع القاعدة، إلى جانب الحصول على الاعتراف الدولي بالحركة كحاكمٍ شرعي لأفغانستان.
ورغم أنّ العديد من المتحدثين باسم طالبان أنكروا وجود أي علاقة مع القاعدة- لدرجة أنّ أحدهم أنكر بيعة القاعدة لطالبان-، لكن الحركة إجمالاً رفضت بكل عناد التنصل من القاعدة مهما كان الثمن باهظاً، حسب مجلة Foreign Affairs.
ويُمكن أن يُعزى ذلك العناد إلى العديد من العوامل، بدءاً بحقيقة أنّ القاعدة وطالبان قد حاربا معاً ضد الولايات المتحدة طيلة 20 عاماً، فضلاً عن روابط الدم التي صارت تجمعهم. ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة، فإنّ علاقة القاعدة بطالبان مبنيةٌ على "روابط الزواج الشخصية وعلاقات النضال المشترك، التي ترسّخت في العلاقات بين الجيل الثاني في المعسكرين". علاوةً على المنطق البراغماتي الذي يُبرّر عدم إنهاء العلاقة، حيث إنّ إدانة القاعدة تعني المخاطرة بتنفير الأعضاء والفصائل الأكثر تشدداً في طالبان، ومن بينهم وزير الداخلية الجديد سراج الدين حقاني وشبكته المتحالفة مع القاعدة.
ورغم استمرارية العلاقة، تظل هناك رغبة قوية لدى طالبان في كبح جماح القاعدة. وفي ظل سعي طالبان للحصول على الاعتراف الدولي والقبول العالمي، ستكون من الحماقة أن تسمح الحركة للقاعدة بشن هماتٍ على الغرب أو حتى داخل الدول المسلمة.
إذ تنطوي محاولة طالبان الثانية لحكم أفغانستان على الموازنة بين الالتزام بمبادئها المتشددة وبين تقديم التنازلات البراغماتية لتأمين حكمها- وبهذا قد تتبع علاقة طالبان بالقاعدة نفس الآلية.
هل تستغل القاعدة ذلك الوضع لمهاجمة الغرب؟ "إنها تتفكك"
لا يزال أمام القاعدة طريقٌ طويل لإعادة بناء منظمتها المتهالكة، بغض النظر عن حجم دعم طالبان.
وتبدأ المشكلة على قمة الهرم، بعد القضاء على القوام الأساسي لقيادة القاعدة خلال السنوات الأخيرة. ففي أغسطس/آب عام 2020 أُردِيَ أبو محمد المصري، الرجل الثاني في التنظيم، بالرصاص في شوارع طهران. وبعد شهرين قُتِلَ حسام عبد الرؤوف، القيادي البارز في التنظيم، داخل أفغانستان. كذلك انتقل العديد من قادة التنظيم البارزين إلى سوريا بحثاً عن ملاذٍ آمن، لكنهم قُتِلوا في هجمات الطائرات المسيرة الأمريكية، مما دفع أحد المنظرين الجهاديين إلى وصف شمال سوريا بـ"ساحة اصطياد الجهاديين المخضرمين".
ومما يزيد تعقيد مشكلة القاعدة أنّ الظواهري، زعيم التنظيم الذي بلغ السبعينات من عمره، صار يُعتبر مريضاً على نطاقٍ واسع. وربما دحض الكتاب ومقطع الفيديو المنشور مؤخراً لزعيم القاعدة كافة التقارير السابقة عن وفاته العام الماضي، لكن ليس من الواضح الآن كم من الوقت سيبقى الظواهري على قيد الحياة.
وخليفة الظواهري المحتمل هو سيف العدل (61 عاماً)، الذي يعيش في إيران منذ قرابة العقدين. ويبدو أنّ الحكومة الإيرانية تُبقيه مع عددٍ من زعماء القاعدة داخل البلاد كضمانة- مع السماح لهم بشيءٍ من حرية الحركة ولكنهم ممنوعون من مغادرة البلاد. وتُمثّل إقامتهم في إيران مشكلةً كبيرة للقاعدة، حيث إن قادة وجنود التنظيم يعتبرون إيران الشيعية عدواً دينياً وسياسياً، لا مُضيفاً مناسباً لزعمائه.
الأولوية للصراعات المحلية
بينما تكمن المشكلة الأخرى بالنسبة للقاعدة في افتقار القيادة للسيطرة على فروعها، حسب المجلة الأمريكية.
إذ تعمل القاعدة اليوم باعتبارها شبكةً لا مركزية بالكامل تقريباً. ولا تُسيطر القيادة المركزية للتنظيم بشكلٍ مباشر على فروعها من شمال إفريقيا وحتى جنوب آسيا. ويرى بعض المحللين في استقلالية فروع القاعدة مصدر قوة، لكن غياب القيادة المركزية يُعرض القاعدة لخطر الانقسام وربما التفكك بالكامل.
ويأتي في قلب هذه المشكلة اختلاف الاستراتيجيات بين القيادة المركزية وبين فروعها. فرغم استمرار التزام القيادة المركزية- نظرياً على الأقل- بمنح الأولوية لمعركتها ضد "العدو البعيد" المتمثل في أمريكا وحلفائها؛ لكن أهداف ومخططات فروع القاعدة تُركز على الغايات المحلية في الأساس. لذا فتلك الفروع لا تبذل قصارى جهدها في تخطيط العمليات الإرهابية ضد الغرب.
طالبان وداعش المعادلة قد تتغير في غياب القوة الجوية الأمريكية
ومن المفارقة هنا أنّ عدو طالبان اللدود، ولاية خراسان التابعة لداعش، هو الأقرب إلى الاستفادة من حكم طالبان. وربما خسر داعش بعد أن عانى خسائر كبرى وفقد كل الأراضي التي كانت خاضعةً لسيطرته، لكن ولاية خراسان لديها استراتيجةٌ محددة بشكلٍ جيد لاستغلال الواقع الجديد على الأرض. إذ يمكنها تصوير نفسها في صورة البديل الجهادي الأكثر تشدداً من طالبان، مع التأكيد على ميل طالبان المزعوم حالياً تجاه الاعتدال ونزعتها إلى التسوية. ولا شكّ أنّ الهجوم على الولايات المتحدة في مطار كابول أواخر أغسطس/آب لم يكن مجرد محاولةٍ من داعش لقتل الأمريكيين وحسب، بل كان محاولةً من ولاية خراسان لتُثبت لأنصار طالبان المتشددين أن جماعتهم صارت ليّنة الجانب.
كما سيستفيد داعش أيضاً من خروج الولايات المتحدة، لأنّ القوة الجوية الأمريكية كان دورها محورياً في انتصار طالبان على ولاية خراسان في أفغانستان.
المذهب الحنفي يقيد نفوذ داعش
ورغم أنّ داعش سيستفيد من تراجع الضغط العسكري في أفغانستان، لكن التنظيم لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة في البلاد. ويرجع ذلك جزئياً إلى ارتباطه بالمنهج السلفي الذي يُمثّل أنصاره أقليةً داخل أفغانستان، حيث يُهيمن المذهب الحنفي والماتريدية على عقيدة البلاد. وغالبية الأراضي التي سيطر عليها داعش في السابق كانت تشهد شعبيةً للسلفية على غير المعتاد. وربما يكون تنظيم داعش قادراً على الفوز بقلوب بعض أنصار طالبان الأكثر تشدداً، لكنه سيعاني كثيراً لتمديد قاعدة شعبيته إلى ما هو أبعد من ذلك.
وتُواجه جماعات داعش والقاعدة تحديات في محاولة إعادة تأسيس نفسها داخل أفغانستان. وربما تخلق عودة طالبان الفرصة الأكبر أمام القاعدة لإعادة ترتيب صفوفها وتنظيمها بعد أكثر من عقدٍ كامل، لكن القاعدة ليست في وضعٍ مثالي لاستغلال الفرصة.
بينما سيسعى داعش للعب دور المخرب، لكنه سيعاني لحصد الدعم الشعبي أو مضاهاة موارد وقوة طالبان البشرية. وفي الوقت ذاته، ستواصل الولايات المتحدة محاولاتها لإضعاف الجماعتين من خلال هجمات الطائرات المسيّرة المتواصلة- وبدعمٍ من طالبان في حالة داعش.
وهذا لا يقلل من خطر هذه الجماعات الجهادية على أفغانستان، وجيرانها، والعالم أجمع. بل يجب على الولايات المتحدة وحلفائها أن يظلوا يقظين واستباقيين خشية عودة تلك الجماعات إلى الواجهة بقوة. ونحن في انتظار رؤية مدى نجاح أولئك الجهاديين في استغلال أفغانستان. فنجاحهم ليس أمراً محتوماً على الإطلاق.