لعقدين أو ثلاثة، انتشر في أوساط الناشطين الإسلاميين، بل والباحثين المهتمين بالحركات السياسية الإسلامية تعبير "الاستثناء المغاربي"، وهو تعبير يشير بشكل عام إلى أن الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية في المغرب العربي (وتحديداً تونس والجزائر والمغرب) تتبنى أيديولوجيا سياسية ويقدمون نموذجاً إسلامياً أكثر تقدمية مقارنة بالمشارقة (والمقصود هنا التنظيمات السياسية الإسلامية في مصر وسوريا والأردن وربما العراق).
الاستثناء المغاربي
هذه الحالة الاستثنائية المفترضة كانت تشير عادة إلى صفات ثلاث اشتهرت بها الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية في المغرب العربي خلال العقود الأخيرة: أولاً، نضج إسهامهم الفكري وتمايزه عن المدرسة المشرقية، وفي هذا الإطار يشار مثلاً إلى كتابات الشيخ راشد الغنوشي عن الديمقراطية الإسلامية، وتبنيه في كتابه "الحريات العامة في الإسلام" لرؤية أكثر ليبرالية للشريعة الإسلامية، ولكتابات الشيخ أحمد الريسوني عن مقاصد الشريعة، والتي تقدم فهما أكثر تجريداً ومرونة من الفهم المحافظ والنصوصي الذي يقدمه عادة الإسلاميون في المشرق، الذين وصفهم الغنوشي في كتاباته بأنهم أكثر سلفية وتقليدية.
ثانياً، بأن لديهم صيغاً تنظيمية أكثر احترافية من تلك التي تتبناها التنظيمات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في المشرق، سواء بالتمييز بين المؤسسة الدعوية والحزب السياسي (كما في حالة حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح في المغرب)، أو بإنشاء أحزاب سياسية أكثر احترافية (مثل حركة النهضة في تونس أو الأحزاب السياسية الإسلامية في الجزائر)، وذلك مقارنة بالتنظيمات الهجينة التي يتداخل فيها الدَّعَوي والسياسي والخدمي والنقابي بشكل يربك الأداء السياسي ويضعف من احترافيته (كما في الحالة الإخوانية المصرية)، أو يخضع فيها الحزب السياسي للهيمنة التامة للحركة الدعوية (كما هو الحال في العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وحزب العمل الإسلامي بالأردن).
ثالثاً، أن الحركات والأحزاب الإسلامية في المغرب العربي تمتاز عامة بسلوك سياسي أكثر براغماتية في إدارة علاقتها مع الدولة ومع خصومها السياسيين والأيديولوجيين، كما في علاقة حركة مجتمع السلم بالدولة في الجزائر (خصوصاً أثناء العشرية السوداء) أو علاقة حزب العدالة والتنمية مع الملك والمخزن في الحالة المغربية، أو في انفتاح حركة النهضة في تونس على التواصل السياسي وبناء التحالفات مع أحزاب علمانية (وذلك حتى حين كانت قياداتها في المنفى قبل الثورة التونسية).
وقد شاعت الكثير من التبريرات والتفسيرات لحالة الاستثناء تلك، سواء بالخصوصية الحضارية للإقليم المغاربي، أو لقوة الميراث الفكري الذي خلفه الإسلاميون الإصلاحيون في حقبة ما قبل الإسلام السياسي، أو لبعد هذه المناطق عن التأثر بالمد الوهابي خلال سبعينيات القرن الماضي، والذي أدى إلى تحولات سلفية في الفكر الإخواني في دول المشرق. وغني عن الذكر طبعاً أن حالة الاستثناء تلك كان ينظر إليها من قبل قيادات التنظيمات السياسية الإسلامية في المشرق باعتبارها حالة من "النشوز الأيديولوجي"، مخالفة للتيار الرئيسي للحركات الإسلامية السياسية، لذلك لم تدمج أدبيات هذه الحركات ومنظريها في المناهج الرسمية للتنظيمات المشرقية، وكانت تجربتها تُنتقد من آن لآخر من قبل هذه التنظيمات.
في الهم شرقُ
بعد الثورات العربية، تأكدت فكرة الاستثناء تلك بعد الانهيار السريع والإخفاقات الكبيرة للأحزاب والحركات الإسلامية السياسية في دول المشرق، في حين نجحت الأحزاب الإسلامية في تونس والمغرب في الحفاظ على موقعها كشريك أساسي في السلطة خلال عشر سنوات. وفي الجزائر، ظلت هذه الأحزاب- على الرغم من انقساماتها- رقماً هاماً في المعادلة السياسية كذلك. لذلك، ولسنوات عدة، كانت التجارب المغاربية سواء في صيغها التنظيمية أو أيديولوجياتها المعتدلة أو براغماتيتها السياسية تقدم كرؤى للإصلاح والتطوير للحركات والأحزاب الإسلامية في المشرق.
وكنتيجة متوقعة، شكّل التراجع المتزايد في الأداء خلال السنوات القليلة الماضية، والذي تبعه الانهيار الكبير لتجربة حركة النهضة في السلطة بالانقلاب الدستوري للرئيس التونسي قيس سعيد، في يوليو/تموز الماضي، ثم الهزيمة المدوية لحزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية التي عقدت في الأيام الماضية ارتباكاً كبيراً داخل صفوف الإصلاحيين في الحركات السياسية الإسلامية، لأنه أثبت في النهاية فشل تجارب كان ينظر إليها على أنها تمثل حالة نجاح في الطيف الإسلامي السياسي، وفي المقابل قوبل ذلك بشيء من الارتياح في أوساط الإسلاميين المحافظة، باعتبار أن ما أقدمت عليه هذه الحركات يعد- من وجهة نظرها- تنازلاً أثبت في النهاية أنه غير مجدٍ، خصوصاً أن ذلك واكبه صعودٌ ثانٍ لحركة إسلامية محافظة وهي حركة طالبان في أفغانستان، وهو ما يقدم "حالة نجاح" من الطيف الراديكالي للحركات السياسية الإسلامية هذه المرة. وربما كان نجاح الأحزاب الإسلامية الجزائرية في انتخابات يونيو/حزيران الماضي من تعزيز موقعها السياسي ومضاعفة عدد مقاعدها في البرلمان هو استثناء لحالة التراجع العامة التي تشهدها الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية في الإقليم.
قد لا يبدو الآن "الاستثناء المغاربي" تعبيراً مقنعاً في ضوء التطورات الأخيرة، التي أثبتت أن كل الأحزاب والحركات الإسلامية "في الهم شرقُ"، وعلى الرغم من أن تمايز تجارب الحركات السياسية الإسلامية في المغرب العربي فكراً وأداء أمر لا يخطئه باحث أو مهتم، لكن بالمحصلة لم تكن هذه الأحزاب استثنائية بالدرجة التي كانت تظنها، فمستوى احترافية كوادرها السياسية، ومؤسساتها وديمقراطيتها الداخلية، ونضج برامجها الإصلاحية، وتصوراتها عن الشريعة وأدوارها السياسية والاجتماعية، كل ذلك شابه مِن القصور ما يقارب الوضع في دول المشرق العربي، علاوة على ذلك، فإنها ذهبت في مرونتها وبراغماتيتها إلى درجة ميكيافلية، ترى أن الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها هو المعيار الأساسي والهدف الأكبر للممارسة السياسية.
الدرس الأهم
إن الدرس الأهم من تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب ومن قبلِه حركة النهضة في تونس، أن الشعوب دعمت الأحزاب الإسلامية وأوصلتها إلى الحكم لكي تكون قوى للتغيير، ولكي تكون صوتها والمعبرة عنها، لكن حين خذلتها وأصبحت قوى مطبّعة مع الوضع الراهن وعبرت عن منطق السلطة وتحدثت بلسانها كان انتقام الشعوب منها شديداً، ربما كان انسحاب هذه الأحزاب من السلطة أولى حين أدركت محدودية قدرتها على الوفاء بتعهداتها في مواجهة ظروف الواقع بالغة الصعوبة، وحين صارت غير قادرة على مواجهة الضغوط التي تدفعها لتجاوز الخطوط الحمراء، لكنها عن سوء تقدير ظنت أن رصيدها لدى الجماهير يسمح، وأن تأمين موقعها في السلطة له الأولوية ولو على حساب مصداقيتها ومبادئها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.