أمير المشرق الشجاع؛ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، أحد أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي، رغم أن اسمه قد لا يكون معروفاً بكثرة لغير المتخصصين بالتاريخ، لكن هذه الشخصية التاريخية جمعت في تشكيلها صفات متناقضة أكسبتها وزنها في التاريخ.
إذ جمع يزيد بين الشجاعة والشهامة والكرم، والدهاء والبذخ والتباهي معاً، كما أن له حسباً ونسباً ونفوذاً جعلته بارزاً في عصره، خصوصاً أنه من بني المهلب الذين ساهموا في الفتوحات الإسلامية منذ زمن الخلفاء الراشدين، وساهموا أيضاً في ترسيخ الحكم الأموي في مناطق مختلفة من الدولة الإسلامية.
ولعل ما أكسبه شهرةً تاريخيةً أيضاً، هو صراعه مع الحجاج بن يوسف الثقفي -اللذين جمعهما النسب- على النفوذ، وخِلافُه مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وثورته على بني أمية.
وبعيداً عن معاركه وحياته الثرية الشيقة التي عاشها، هناك رواية تقول إن "حلوى المهلبية" المشهورة في بعض الدول العربية سمِّيت نسبةً إلى يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، الذي أمر خدمه بصنع طبقٍ مميَّزٍ من الحلوى يخلّد اسمه في التاريخ.
من يكون يزيد بن المهلب بن أبي صفرة؟
أبوخالد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وُلد زمن معاوية بن أبي سفيان سنة 672 -673 م بين 23 أخاً وأخت وفقاً لما ورد في كتاب "الأنساب" لسلمة بن مسلم العوتبي الصحاري.
نسب يزيد وعائلته المحاربة جعله ذا مكانةٍ مرموقة، فوالده المهلَّب وجده أبو صفرة، اللذان شاركا في الفتوحات الإسلامية بصفةٍ قيادية، وحملات المسلمين في الجبهة الشرقية: بلاد فارس وخراسان وما حولها، وكذلك حروب الخوارج.
ولا بد من الإشارة إلى أن نسل يزيد يعود إلى قبائل الأزد اليمنية التي هاجرت إلى عُمان بعد انهيار سد مأرب، وأحد أجداده هو ملك اليمن عمرو بن عامر "مزيقياء" الذي جاء خبره في القرآن الكريم في أحداث سد مأرب في اليمن.
وقد قال عنهم المؤرخ الدمشقي أبوالعباس شمس الدين ابن خلكان في كتاب "الأعيان": "أجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب، كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة، وكان لهم في الشجاعة أيضاً مواقف مشهورة".
هذا الكرم والسخاء اشتهر به يزيد بصفةٍ خاصة، وقد ذكر المؤرخ الدمشقي شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" أن له أخباراً بالسخاء والشجاعة، ومنها أنه عندما أمر الحجاج بن يوسف الثقفي بحبسه "قصده الأخطل ومدحه، فأعطاه مئة ألف، فَعَجِبَ الحجاج من جوده في تلك الحال، وعفا عنه، ثم اعتقله، وأخيراً هرب من حبسه".
خراسان وخلافات رجال الدولة
اشترك يزيد في حروب والده المهلب ضد الخوارج الأزارقة -من أشهر فرق الخوارج الذين خرجوا من البصرة باتجاه الأهواز- وفيما وراء النهر، بعد أن ولَّى عبدالملك بن مروان المهلب والياً على خراسان سنة 78 هجرية (697-698 م) مكافأة له على انتصاراته وإبادة الخوارج وتفريق جمعهم.
معارك يزيد ووالده وانتصارهما على الأزارقة، جعلتهم إحدى أهم ركائز القُوَى داخل الدولة الأموية، بعدما حسم المهلب أمر ولائه لخلفاء بني أمية، كما زاد الحجاج، الذي كان مقرباً من عبدالملك بن مروان، من قربه لهم بعد زواجه من هند بنت المهلب.
لأن الحجاج كان حريصاً على التقرب من بني المهلب بهدف تحجيم دورهم، واستيعابهم وجعلهم تابعين له، وهنا كانت بداية الخلافات بين الحجاج ويزيد.
تولى يزيد ولاية خراسان بعد وفاة والده عام 82 هجرية (701- 702 م) بتوصيةٍ من أبيه وبمباركةٍ من الخليفة عبدالملك، لكنّ الحجاج لم يكن يحب أن يعلو نجم يزيد ويتولى مكانه، فبقي يحثُّ الخليفة على عزله، في الوقت الذي كان فيه يزيد يكثر من غزواته وفتوحاته حول خراسان.
تكلل إلحاح الحجاج بعزل يزيد بن المهلب من ولاية خراسان عام 85 هجرياً (704-705 م) وولى مكانه قتيبة بن مسلم الباهلي، بدعوة من الحجاج بأنه لم يكن معنياً بأمر الدولة، وكان يفكر باستقلاله عن الدولة الأموية.
وكان الحجاج قد دعا يزيد للعراق بنِيَّة حبسه، وهذا ما فعله يزيد على الرغم من معرفته بما ينوي الحجاج، وذلك من مبدأ الطاعة لولي الأمر وحفاظاً على تقاليد والده، ليقوم الحجاج بحبسه مع أغلب أهله، لكسر شوكتهم وإذلالهم وتعذيبهم بجانب أخذ الأموال منهم.
ثم في عام 90 هجرية (708-709م) ذكر المؤرخ الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، أن يزيد استطاع بحيلةٍ من حِيَلِه الهرب من السجن مع إخوته، والتوجه إلى فلسطين للحاق بسليمان بن عبدالملك، مستجيرين به من الحجاج المقرَّب جداً من الخليفة الجديد الوليد بن عبدالملك. فشفع له عند أخيه الوليد بن عبدالملك، فأمَّنه وكفَّ عنه.
ابن المهلب بديلاً للحجاج بن يوسف
توفي الحجاج والخليفة الوليد بن عبدالملك في فترةٍ متقاربة، ثم أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبدالملك، الذي ولَّى يزيد بن المهلب العراق ثمّ خراسان، فعاد إليها، وافتتح جرجان وطبرستان، فكتب إلى سليمان بن عبدالملك: "إني قد فتحت طبرستان وجرجان، ولم يفتحهما أحدٌ من الأكاسرة ولا أحد ممن كان بعدهم غيري، وإني باعث إليك بقطران عليها الأموال والهدايا يكون أولها عندك وآخرها عندي".
وكان يزيد من المقربين جداً لسليمان بن عبدالملك، مثله في ذلك مثل الحجاج في زمن الوليد وأبيه عبدالملك، حتى أن ابن خلكان قال: "كان يزيد يجلس على سرير سليمان بن عبدالملك في مغيبه. فإذا حضر سليمان جلس يزيد عن يمينه، فإذا نهض عاد إلى مكانه. وإليه كان أمر جميع الناس لما علم فيه الكفاية والسياسة، وملكه أعِنَّة الخيل، لمعرفته بشجاعته وبأسه ومحبة العرب له".
بقي يزيد على هذا الوضع إلى أن مات سليمان بن عبدالملك، واستخلف بعده ابن عمه عمر بن عبدالعزيز، الذي كانت له رؤيةٌ مختلفة عمَّن سبقوه، ألا وهي أن الحجاج وابن المهلب وجهان لعملة واحدة في الفساد والظلم، وصفهما "بالجبابرة"، وكان يرى أن سخاء يزيد بن المهلب وكرمه المبالغ به لم يكن من أمواله الخاصة، بل كان من "بيت المال" وهو ملكٌ الدولة، وبالمقابل كان الحجاج والمهلب يكنان العداء لعمر.
عداء يزيد بن المهلب مع عمر بن عبدالعزيز
عزل عمر يزيد عام 99 هجرية (717-718 م) وولَّى مكانه عدي بن أرطأة، فأخذ يزيد وأوثقه، وبعث به إلى عمر، فلما وصل، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى الخليفة السابق سليمان بن عبدالملك، فأنكرها، فقال عمر: "ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدِّ ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها"، فحبسه بحلب وفقاً لما جاء في كتاب "التاريخ" للطبري.
ولما مرض عمر بن عبدالعزيز في سنة 101 هجرية (719-720م) ، خاف يزيد بن المهلب من وفاة عمر الذي سيتولى بعده حتماً وليّ عهده يزيد بن عبدالملك بن مروان، الذي كان مصاهراً للحجاج، وكان مقرباً أيضاً منه ومن بيته وأتباعه من بعده، لذلك فكر في الهرب مرة أخرى.
سبب خوف ابن المهلب هو أنه قد عذَّب آل أبي عقيل، وهم من أتباع الحجاج، أثناء ولايته العراق، وأنه كان قد علم بوعد يزيد الأموي لزوجته بأنه سينتقم لها ولأهلها من غريمهم يزيد بن المهلب.
كان عمر ينوي الإفراج عن يزيد، حتى لا يبطش به ولي عهده، ولأنه كان لا يحب سياسة الحبس من أصلها، ولكنَّ يزيد استطاع الهرب قبل ذلك وبعث لعمر رسالة تقول: "إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبدالملك، فقال عمر: اللهم إن كان يريد بهذه الأمة شراً فاكفهم شره واردد كيده في نحره".
ثورة يزيد بن المهلب على بني أمية التي قتلته
بعد تولي يزيد بن عبدالملك الخلافة، كان على رأس أولوياته مطاردة ابن المهلب الذي فر لأقاربه في البصرة، ، خصوصاً أنه استولى على البصرة كاملاً وحبس عاملها عدي بن أرطأة وأعلن التمرد على الخليفة الأموي.
بدأ ابن المهلب بحشد جيوشه الذين بلغ عددهم فوق الـ100 ألف من خراسان والعراق مع أخيه عبدالملك بن المهلب، ثم إن يزيد بن عبدالملك جهز لقتاله أخاه مسلمة بن عبدالملك وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبدالملك، ومعهما جيش يضم ثمانين ألفاً من أهل الشام والجزيرة.
وسار الجيشان حتى نزلا العَقْر (عقر بابل بين واسط وبغداد بالقرب من كربلاء) عام 102 هجرية (720-721 م)، ثم أقبل مسلمة بن عبدالملك حتى نزل على يزيد بن المهلب فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد أهل البصرة على أهل الشام فكشفوهم، ثم إن أهل الشام كروا عليهم فكشفوهم، وفقاً لما ذكره الطبري.
دارت معارك لمدة 8 أيام، حتى أمر مسلمة بحرق الجسور التي كان عقدها يزيد بن المهلب، فأحرقت، والتقى الجمعان ونشبت الحرب من جديد، فلما رأى الناس الدخان خافوا واعتقدوا أنهم هزموا لا محالة، الأمر الذي أغضب ابن المهلب ورفض على نفسه الفرار.
لما رأى يزيد انهزام أصحابه نزل عن فرسه وكسر جفن سيفه واستقبل، وجاءه من أخبره أن أخاه حبيب قد قُتل، فقال: لا خير في العيش بعد حبيب، قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة، فوالله ما ازددت لها إلا بغضًا، امضوا قدماً. قال أصحابه: فعلمنا أن الرجل قد استقتل.
ثم أقبل يزيد على مسلمة لا يريد غيره، حتى إذا دنا منه، دعا مسلمة بفرسه ليركبه، فعطفت عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه، فقال القحل بن عياش الكلبي لما نظر إلى يزيد: يا أهل الشام هذا والله يزيد، لأقتلنه أو ليقتلني، إن دونه ناساً، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه فقال له ناس من أصحابه: نحن نكمل معك، فحملوا بأجمعهم.
بعدها شوهد يزيد قتيلاً، وجاء القحل وهو في رمقه الأخير، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، وأنه هو قاتله وأن يزيد قتله. وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته فقال: لا. وقيل: بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، ولم ينزل يأخذ رأسه أنفة. فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه أخوه محمد وجماعة من أصحابه.
هذا الأحداث الأخيرة كانت بمثابة كسر شوكة بني المهلب ونهاية دورهم الذي لعبوه منذ زمن طويل، ولم يعد لهم الكثير من الذكر في التاريخ بعد مقتل يزيد وإخوته.