أثار تفكُّك وانهيار الجيش الأفغاني– الذي دربه وسلَّحه الجيش الأمريكي على مدى العقدين الماضيين- تساؤلات مرة أخرى حول فعالية برامج المشورة والمساعدة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، مع جيوش الدول الشريكة الأجنبية. وأنفقت الولايات المتحدة أكثر من 83 مليار دولار في محاولة لبناء القوة الأفغانية التي شاهدتها تنهار في غضون 11 يوماً فقط بعد هجوم حركة طالبان، الذي نجم عن الانسحاب العسكري الأمريكي من البلاد.
حول ذلك، تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إن إحدى المنظمات الحكومية الأمريكية التي كانت أكثر فعّالية من البنتاغون في تحسين بعض قدرات وإمكانات جيوش أجنبية صديقة، وبتكلفة أقل من حيث الأرواح والأموال، هي وكالة المخابرات المركزية CIA. وينطبق ذلك حتى عند مقارنة هذه التكاليف بالخسائر الكبيرة لوكالة المخابرات المركزية على مدى 20 عاماً في أفغانستان والعراق، وكذلك في لبنان وفيتنام.
ما أوجه الاختلاف بين وكالة المخابرات المركزية والجيش الأمريكي؟
تقول المجلة إن الاختلافات الرئيسية بين وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع تتمثل في الجانبين الثقافي والإجرائي. على عكس مؤسسة التعاون الأمني الهائلة والبيروقراطية وغير المرنة للبنتاغون، فإنَّ وكالة المخابرات المركزية ليس لديها مخطط واحد يناسب الجميع.
منذ أيام الجيل القديم لمكتب الخدمات الاستراتيجية، تمكنت وكالة المخابرات المركزية من الاتباع الصحيح لمبدأين أساسيين للتدريب السري ومهام الدعم؛ وهما: السياسة محلية، والناس يقاتلون من أجل أسرهم ومعتقداتهم وبقائهم. ويتفوق الواجب تجاه المجتمع- أو الالتزام الديني بالنسبة للكثيرين- على الأعلام وحلف اليمين على الدساتير الجديدة نسبياً للدول المصطنعة التي صادق عليها الغرباء البعيدون الذين لا يتمتع هؤلاء الجنود بالولاء الشخصي أو المجتمعي لهم. وبالتالي، لا يمكن أن يكون التدريب والدعم حلاً جاهزاً، بل يجب تصميمهما بما يلائم كل حالة.
وتضيف فورين بوليسي: "حتى أكثر التقديرات تحفظاً تشير إلى أنَّ واشنطن أنفقت مئات الملايين من الدولارات على القوات المسلحة اللبنانية في أوائل إلى منتصف الثمانينيات، وكذلك المليارات لبناء جيوش وطنية في العراق وأفغانستان منذ 11 سبتمبر/أيلول، دون نتيجة سوى رؤية هذه القوات تنهار في مواجهة ما اعتقد الأمريكيون أنهم أعداء لهم".
والحقيقة، بالطبع، أنَّ هذه الجيوش الوطنية كانت تتألف من جنود أُمروا بمواجهة قوى معارضة، في بعض الحالات من مجتمعاتهم المحلية، أو للتضحية بحياتهم في منافسات لا تعني لأنفسهم أو لعائلاتهم أو لعشائرهم. وغالباً ما كان يقودهم ضباط لم يشعروا بأي ولاء أو صلة لهم بصرف النظر عن الزي الموحد.
الإهمال الأمريكي لتنامي الفساد داخل هذه الجيوش
ومن النواحي السياسية والبيروقراطية واللوجستية، يميل المخطط العسكري الأمريكي إلى تشكيل قوة متكاملة يكون فيها المقاتلون موالين للحكومة المركزية والضباط الذين يخدمون في ظلهم، بغض النظر عن الانتماء الإثني أو الديني أو القبلي لرؤسائهم. وبالمثل، يتماشى ترتيب المعركة والاستراتيجية والتكتيكات مع نقاط القوة والمعايير الأمريكية، بدلاً من تصميمها وفقاً للواقع الثقافي أو التاريخي أو الجغرافي أو التعليمي أو الطبوغرافي المحلي.
وتشرع واشنطن بعد ذلك في تسليح هذه القوات بأسلحة معقدة للغاية ومُكلِّفة الاستخدام، وغالباً ما تكون غير مناسبة للتضاريس أو تكتيكات العدو (على سبيل المثال، مركبات برادلي القتالية للجيش اللبناني أو مروحيات إم دي 530 للجيش الأفغاني). علاوة على ذلك، لا توجد في كثير من الأحيان طريقة لقياس الفعالية أو مراقبة الفساد.
في عام 2016، أقر مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (سيغار) للكونغرس بأنه في كثير من الحالات "أُهدِر تمويل الولايات المتحدة المخصص لقوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، سواء بالإنفاق غير الفعّال على مساعٍ جديرة بالاهتمام أو تبديده على أنشطة لم تحقق أية فائدة واضحة".
ووفقاً لثقافتها الخاصة، تركز وكالة المخابرات المركزية على الناس والعلاقات. وفي حين أنَّ مؤسسة الدفاع الأمريكية مليئة بخبراء لا مثيل لهم في مجالاتهم المهنية، فإنَّ وكالة المخابرات المركزية تعين أشخاصاً لمثل هذه البرامج الذين يمزجون بين البراعة التقنية والاهتمام والمعرفة العميقة بالتاريخ والثقافة المحلية، مع استرشاد نهجهم بالاستخبارات. وعيب هذا النهج هو أنه لا يوجد عدد كافٍ من الموظفين ذوي المهارات اللغوية العربية وغيرها من اللغات الأجنبية لتوسيع نطاق البرنامج.
ومع ذلك، يعمل ضباط وكالة المخابرات المركزية عن قرب أكثر مع نظرائهم الأجانب، وغالباً ما يظلون في مثل هذه البرامج، ويتناوبون باستمرار مع الوحدات التي يدعمونها. وبدلاً من الانفصال في حصون بعيدة، تتعاون فرق وكالة المخابرات المركزية عادةً مع شركائهم دون جدران أو حواجز أخرى بينهم.
الفروقات بالتكاليف بين السي آي إيه والجيش الأمريكي
وفي حين أنه من الضروري إعادة التأكيد على أنَّ صغر حجم وكالة المخابرات المركزية وسلطات ومسؤوليات جمع المعلومات الاستخبارية الفريدة توفر لها مرونة أكبر بكثير من مؤسسة الدفاع الأمريكية في الإنفاق والسيطرة، إلا أنها تميل إلى أن تكون أكثر حرصاً وكفاءة عند تحريرها من الالتزام باللجوء للبائعين والمعدات الأمريكيين.
وعادةً ما يكون السلاح الأساسي المفضل لتلك الوحدات التي دعمتها وكالة المخابرات المركزية تاريخياً هو بندقية كلاشينكوف الأرخص والأسهل في الاستخدام، مع وجود أسلحة أثقل تشمل المدافع الرشاشة والمضادة للدروع من مخزونات روسية الصنع.
وتتمثل ميزة أخرى في أنَّ الأسلحة وذخائرها دائماً ما تكون شبه متوافقة مع تلك التي يستخدمها أعداؤهم، في حالة الحاجة إلى العثور على طلقات أو بدائل في ساحة المعركة. وحتى أصول الطيران والمدفعية الخفيفة المستمدة من النماذج الروسية فهي على الأرجح أرخص وأسهل في الصيانة.
وصحيح أنَّ الأدوات الأمريكية أفضل، لكن كما شوهد في أفغانستان، فهي عديمة الفائدة إذا لم يمكن تشغيلها أو استخدامها، أو إذا تُرِك الطيارون وأفراد الطاقم دون حماية من الاغتيال عندما يكونون خارج الزي العسكري.
ويعد تجهيز هذه الوحدات أرخص أكثر فأكثر عندما لا تكون مثقلة بالمتطلبات والمواد الأمريكية؛ مما يسهل الاحتفاظ بها جيدة التسليح وتزويدها بالإمدادات والعناية. وكما يوضح تقرير مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان، ومثلما عكست التغطية الصحفية لانهيار قوات الأمن والدفاع الأفغانية، كانت الوحدات الأفغانية تعاني من نقص في الذخيرة والطعام، مع عدم دفع رواتب الجنود في كثير من الأحيان لفترات طويلة من الزمن. وفي هذه الأثناء، كان بعض القادة وكبار الضباط يسرقون في كثير من الأحيان الأموال التي تهدف إلى دعم وحداتهم أو يسحبون رواتب لجنود وهميين اختلقوهم لتأمين تمويل إضافي.
مواجهة التهديدات
من جانبها، تراجع وكالة المخابرات المركزية وتُعدِّل المواد والتكتيكات المستخدمة بانتظام لمواجهة التهديدات التي تتعرض لها الوحدات التي تقدم لها المشورة والمساعدة والتدريب والتجهيز، مع المرونة للتحرك بسرعة للتكيُّف مع تغيرات ساحة المعركة. ويمكنها ابتكار وتحديد المعدات التي يمكن ارتجالها وشراؤها وإدخالها إلى الميدان من دون التقيُّد بالجداول الزمنية واسعة النطاق التي يفرضها الكونغرس في كثير من الأحيان وعملية العطاءات التي يواجهها الجيش الأمريكي.
وربما الأهم من ذلك، أنَّ المقاتلين الذين درَّبتهم وكالة المخابرات المركزية حصلوا على رواتب جيدة يمكن الاعتماد عليها، مقارنةً مع ما حصلت عليه قوات الأمن والدفاع، وبنفس القدر من الأهمية، مع ما يحصل عليه المقاتلون غير المنتظمين في صفوف طالبان.
إضافة إلى ذلك، زُوِّد المقاتلون المدعومون من وكالة المخابرات المركزية بغذاء ومأوى أفضل من نظرائهم في القوات الأمن والدفاع الأفغانية أو خصوم طالبان. وشكَّل المسعفون في ساحة المعركة والرعاية الطبية المستمرة للضحايا عنصرين أساسيين في برامج وكالة المخابرات المركزية التي ضمنت أنَّ هذه القدرات يمكن تعلمها وإدخالها في الميدان عبر حامليها.
إضافة إلى ذلك، الساعة الذهبية في الرعاية الطبية الحرجة لضحايا الإصابات التي تهدد الحياة في ساحة المعركة مطلوبة في التخطيط للعمليات، وليس فقط للقوات الأمريكية، بل أيضاً للقوات التي تدعمها وكالة المخابرات المركزية، وبُنيت مرافق للعناية بأولئك الذين خرجوا من الخدمة إثر إصابة خلال القتال أو التقاعد.
ومع ذلك فبرامج المخابرات المركزية الأمريكية ليست الحل السحري دوماً
لكن برغم كل ما سبق، لم يكن هناك ما هو أهم لنجاح وكالة المخابرات المركزية من تنظيم الوحدات على طول الحدود القبلية والعرقية والعشائرية. سواء أكان رجال قبائل همونغ هيل في فيتنام، أو القبائل في العراق وأفغانستان، فقد جاء المقاتلون من نفس المجتمعات مع التزام وميثاق شرف لكبار السن أو الأقارب الموجودين بالفعل في مثل هذه الوحدات الذين فحصوهم ومنحوهم ثقتهم.
ولطالما حذرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية صانعي السياسة من أنَّ تقييم طول صمود الرئيس الأفغاني أشرف غني بعد الانسحاب الأمريكي لا يمكن التكهن به، استناداً إلى تجربة نظام محمد نجيب الله المدعوم من الاتحاد السوفييتي في 1989-1992، أو فترة حكم طالبان في 1996-2001، في كلتا الحالتين، عُزِّزت قدرات وولاءات أمراء الحرب الإقليميين من خلال تفويض المال والسلطة.
إنَّ التزام الولايات المتحدة بإعادة إنشاء أفغانستان على أساس الخطوط الأمريكية مع وجود حكومة مركزية قوية وجيش وطني متكامل، وعدم استعداد غني للتخلي عن قدر من القوة أو السلطة حتى النهاية عندما فرَّ من البلاد، أدى إلى تعجيز الأقليات العرقية في البلاد واللاعبين الإقليميين.
وبالطبع، تكلفة نهج وكالة المخابرات المركزية هي أنها في كثير من الحالات موَّلت أمراء الحرب المفترسين والرجال الأقوياء الذين عملوا ضد مصالح حكومة كابول؛ مما أدى إلى تراجع الوحدة الوطنية وحتى انعدام الأمن. على سبيل المثال، عندما أطاحت قوات التحالف الشمالي بطالبان بعد 11 سبتمبر/أيلول بقليل، هاجمت ميليشياتهم قرى البشتون واغتصبت النساء والفتيات وأعدمت المدنيين وسرقت البضائع والأراضي.
في النهاية، فإنَّ نموذج وكالة المخابرات المركزية ليس حلاً سحرياً، كما أنه ليس مناسباً تماماً للبرامج الوطنية الواسعة التي يُكلَّف الجيش الأمريكي بإدارتها. وحتى وكالة المخابرات المركزية عانت من غطرسة بعض قادة الولايات المتحدة الذين أرادوا أن يكونوا جزءاً من العمل، والتعامل مع مشكلات تتجاوز بكثير تلك المتعلقة بالصلاحيات الفعلية للمنظمة.