أنا عاجز عن الكلام. إنه لأمر مدهش حقاً. يجب أن أقول إنني ممتن لعائلتي وأصدقائي. لم يكن ليحدث هذا لولا كل الأشخاص من حولي، وخاصة زملائي في النادي والمنتخب الوطني، بالإضافة للمدربين والأنصار. حتى من لم يؤمنوا بي، وانتقدوني، يجب أن أشكرهم أيضاً، فلقد منحوني المزيد من الشجاعة وحفزوني على العمل بجدية أكبر لإثبات أنهم على خطأ
جورجينيو لاعب منتخب إيطاليا ونادي تشيلسي
كان ذلك تصريح الدولي الإيطالي ذي الأصول البرازيلية "جورجينيو" لموقع الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، عقب تتويجه، الأسبوع الماضي، بجائزة أفضل لاعب في أوروبا للموسم الماضي (2020-2021)، متفوقاً على كل من البلجيكي كيفن دي بروين، نجم نادي مانشستر سيتي الإنجليزي، والفرنسي نغولو كانتي، زميله في خط وسط ميدان فريق تشيلسي الإنجليزي، بعد تصويت شارك فيه 55 صحفياً رياضياً أوروبياً و80 مديراً فنياً خاضوا المسابقات الأوروبية للأندية والمنتخبات في الموسم المنصرم.
وأفتح هنا قوساً لأشير إلى أنه وبخلاف السنوات الفارطة، فإنّ جائزة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا" لهذا العام 2021، لم تقتصر معاييرها على تألق اللاعبين في مسابقة دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، بل لأدائهم أيضاً في نهائيات بطولة أمم أوروبا لكرة القدم "يورو 2020" التي جرت في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين، ونال لقبها منتخب إيطاليا بقيادة "البروفيسور" جورجينيو.
وما يلفت الانتباه في تصريح جورجينيو هو امتنانه لكل من انتقده ولم يؤمن بقدراته خلال مشواره الرياضي، الذين منحوه، بفضل انتقاداتهم وحتى سخريتهم، دفعات معنوية كبيرة من أجل العمل أكثر فأكثر لبلوغ مبتغاه وتحقيق الإنجازات الجماعية والفردية وإسكاتهم نهائياً بتتويجه بجائزة أفضل لاعب في أوروبا، في انتظار التنافس، في نهاية السنة الجارية، على لقب الأفضل عالمياً الذي يمنحه الاتحاد الدولي لكرة القدم، وجائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم التي تقدمها سنوياً مجلة "فرانس فوتبول" الفرنسية.
ولم يكن جورجينيو لينال جائزة أفضل لاعب في القارة العجوز للموسم الماضي لو لم يتألق بشكلٍ مُبهر في دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، مع فريقه تشيلسي الإنجليزي، وفي بطولة أمم أوروبا رفقة منتخب إيطاليا. وهو المنتخب الذي من مفارقات الحياة ندم "البروفيسور" على تمثيله في مرحلة معينة من مشواره الرياضي وسعى لتمثيل منتخب بلده الأصلي البرازيل.. وهي القصة التي ستطلع عليها عزيزي القارئ من خلال استعراضي باختصار لمساره الاحترافي.
ولد خورخي لويز فريلو فيلهو، الملقب بـ"جورجينيو" يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 1991، بمدينة "إيمبيتوبا" بالساحل الجنوبي لولاية "سانتا كارينا" البرازيلية. وعلى غرار معظم أطفال البرازيل فقد بدأ جورجينيو لعب كرة القدم بالشوارع وبالشواطئ الرملية، وضمن فرق صغيرة بمسقط رأسه، وقد كان ذلك بمثابة تكوينه الطبيعي والفني في رياضته المفضلة، قبل أن يتدخل أحد وكلاء اللاعبين في حياته ويغير مشواره الرياضي نحو "الأفضل"، ولكن تلك الحياة الأفضل كانت ممزوجة بالكثير من الصعاب والألم وتزامنت مع فترة المراهقة ولم يكن الفتى جورج ليتجاوزها لولا المساندة والدعم الكبيران اللذان تلقاهما من والدته "ماريا تيريزا فريتاس" التي كانت هي أيضاً لاعبة كرة القدم في فرق من صنف الهواة.
غادر منزل العائلة نحو المجهول في سن الـ14
غادر جورجينيو منزله العائلي لما كان يبلغ من العمر 14 عاماً لينظم لمشروع أكاديمية لرياضة كرة القدم بمدينة "بريسكي" على بعد نحو 180 كلم من "أمبيتوبا".. وأتركك عزيزي القارئ تتعرف على بقية القصة، مثلما رواها هو شخصياً لصحيفة "ديلي ميل" البريطانية، ونشرتها يوم 16 أبريل/نيسان 2021.
"لقد بقيت هناك لمدة سنتين وكانت بمثابة الفترة الأكثر صعوبة.. لقد كان هنالك 50 فتى، نتدرب في الصباح وبعد الظهر ونذهب إلى المدرسة في المساء، لقد كان الأمر قاسياً لكني كنت أرى بعض اللاعبين يغادرون من هنالك نحو إيطاليا ولم أكن أريد تفويت تلك الفرصة. لم يكن المكان هو الأفضل، إذ كنا نتناول، في بعض الأحيان، نفس الأكل لمدة ثلاثة أيام، ولم يكن هنالك الماء الساخن للاستحمام في فصل الشتاء. وقد زارتني والدتي في أحد الأيام ولاحظت أنّ المكان فظيع ووسخ فطلبت مني في الحال العودة معها إلى المنزل".
وتابع: "قلت لأمي إذا أجبرتنني على الرحيل وألا أصبح لاعب كرة قدم فسوف ألومك إلى الأبد. فتركتني وغادرت بالدموع".
وحظي جورجينيو بفرصة الرحيل نحو إيطاليا، لما بلغ من العمر 16 عاماً، حيث انضم لفريق الناشئين لنادي هيلاس فيرونا، وبعد عام ونصف تم استدعاؤه للتدرب مع الفريق الأول حيث التقى مواطنه رافائيل بينهيرو، حارس مرمى الفريق.
خيانة وكيل أعماله
وروى جورجينيو حادثة لقائه مع بينهيرو، التي شكلت منعطفاً حاسماً في مشواره، فقال: "لاحظ رافائيل أني من البرازيل، فخاطبني (صباح الخير، ماذا تفعل هنا وما هي وضعيتك في الفريق؟).. فرويت له قصتي فأصيب بالدهشة وجنّ جنونه وقال لي إنه ليس من الجيد العيش بمفردي بعيداً عن العائلة بمنحة 20 يورو فقط في الأسبوع".
وقد ساعد بينهيرو مواطنه الشاب على تسوية وتحسين وضعيته في الفريق التي كانت بسبب خيانة وكيل أعماله السابق الذي يبدو أنه كان يستغل الفتى ويأخذ أمواله دون علمه، لكن جورجينيو أصيب بالصدمة وفقد ثقته بالمنظومة التي تسير بها رياضة كرة القدم وقرر التوقف عن ممارستها والعودة إلى البرازيل فاتصل بوالدته باكياً ليقول لها إنه لا يستطيع العيش وسط ذلك العالم المجحف.
لكن الوالدة ردت عليه قائلة: "لن تعود وفي حالة ما إذا عدت فأنت مُطالب بالبحث عن مكان آخر يؤويك لأنك لن تعود إلى منزلي.. أنت تتدرب الآن مع الفريق الأول وتريد التوقف.. لا لن أتركك تعود".
استمع جورجينيو لنصيحة والدته وصبر إلى غاية ظفره بعقده الاحترافي الأول مع هيلاس فيرونا في صيف 2010. وقصد منحه فرصة اللعب بانتظام، أعار النادي لاعبه الشاب لمدة موسمٍ واحدٍ (2010-2011) لنادي "سامبونيفاتشي" الذي كان ينشط في الدرجة الرابعة للدوري الإيطالي، ثم استعاده في الموسم الموالي ليصبح لاعباً أساسياً في الفريق الذي كان يتنافس في دوري الدرجة الثانية، حيث شارك في 33 مباراة، وسجل هدفين اثنين، ثم خاض 44 مباراة وسجل هدفين في موسم (2012- 2013)، مُساهماً في احتلال النادي المركز الثاني في ترتيب بطولة Serie B وكسب بطاقة الصعود إلى دوري الدرجة الأولى Serie A.
وانفجرت موهبة جورجينيو في موسمه الأول مع هيلاس فيرونا في دوري الأضواء، حيث اكتشفه الجمهور الرياضي الإيطالي الواسع عندما سجل 7 أهداف في 18 مباراة في نصف الموسم (2013-2014)، مثلما اكتشفته أيضاً العديد من الأندية الأوروبية الكبيرة التي وضعت اسمه ضمن أجندتها، قبل أن يخطفه نادي نابولي في الميركاتو الشتوي لذات الموسم، حيث تعاقد معه يوم 18 يناير/كانون الثاني 2014 لمدة 4 سنوات ونصف، في صفقة استفاد منها هيلاس فيرونا من 9.5 مليون يورو.
تألق لافت رفقة المدرب ساري
وكان مدرب فريق نابولي في ذلك الوقت، هو الإسباني رافا بينيتيز، الذي لم يكن يعتمد كثيراً على جورجينيو ضمن تشكيله الأساسي، إذ لعب النجم الإيطالي 15 مباراة فقط خلال النصف الثاني من موسم (2013-2014)، و23 مباراة في الموسم الموالي قبل أن تتغير الأمور نحو الأحسن عند تسلم ماوريسيو ساري مهام الإدارة الفنية لفريق عاصمة الجنوب، في صيف 2015، حيث شارك اللاعب في 35 مباراة في موسم ساري الأول، و27 في موسمه الثاني، و33 في موسم ساري الثالث. وعند انتقال المدرب الإيطالي ساري إلى تشيلسي الإنجليزي في يوليو/تموز 2018، أخذ معه لاعبه المفضل جورجينيو إلى النادي اللندني، وقد بلغت حينها الصفقة مبلغ 57 مليون يورو.
ولعب جورجينيو موسماً واحداً فقط تحت إمرة ساري بنادي تشيلسي، فتُوّج معه بلقب الدوري الأوروبي، كما بلغ الدور النهائي لمسابقة كأس الرابطة الإنجليزية المحترفة لكرة القدم، لكنه تعرض للكثير من الانتقادات من طرف جماهير "البلوز" ولصافرات الاستهجان أيضاً، فقد كان هو المستهدف الأول كلما تعثر الفريق، وتم تلقيبه بـ"الفتى المدلل" للمدرب ساري وبنائبه الأول فوق أرضية الميدان لتطبيق خططه التكتيكية المعقدة، المعتمدة بالأساس على الاستحواذ الكبير و"المفرط" على الكرة والضغط المستمر داخل منطقة الفريق المنافس، وهي الطريقة التي كان يراها العديد من الناقدين والمراقبين غير صالحة للتطبيق في الدوري الإنجليزي الممتاز.
أفول مع لامبارد.. والعودة إلى الحياة رفقة توخيل
وبعد رحيل ساري نحو يوفنتوس الإيطالي، في صيف 2019، وقدوم الإنجليزي فرانك لامبارد على رأس الجهاز الفني لتشيلسي، تغيرت الأمور بالنسبة لجورجينيو، ففقد "الحظوة" التي كان يملكها داخل الفريق، وفقد تدريجياً ثقة المدرب الجديد خاصة في النصف الأول من الموسم الماضي إلى غاية إقالة لامبارد في يناير/كانون الثاني الماضي، وتعيين بدلاً منه الألماني توماس توخيل.
واستعاد جورجينيو بريقه مع توخيل الذي كان من أشد المعجبين بالنجم الإيطالي، منذ أن كان مدرباً لفريق باريس سان جيرمان الفرنسي، وقد امتدحه في أحد تصريحاته الصحفية، ملخصاً القدرات الفنية والذهنية المميزة للاعبه قائلاً: "جورجينيو لاعب مهم للغاية، حيث يمكنه أن يتخيل مسبقاً ما سيحدث قبل تمريرة أو تمريرتين. كما يعرف جيداً كيف يساعد زملاءه، ومتى يغير اللعب من مكان لآخر ومتى لا يغيره. إنه يمتلك إحساساً رائعاً بإيقاع اللعب ويمكنه التحكم فيه بسهولة".
وقال عنه أيضاً: "إنه يعشق كرة القدم، ولا يتوقف أبداً عن نقل هذه الطاقة الكبيرة لزملائه ولا عن التفكير في الأمور الخططية والتكتيكية ويحب المشاركة، ويشعر باتصال حقيقي مع كل مباراة يلعبها، وهو الأمر الذي يجعله لاعباً مهماً للغاية وركيزة أساسية في خط الوسط، ليس فقط بالنسبة لنا، ولكن أيضاً بالنسبة لمنتخب إيطاليا".
وفعلاً فقد ساهم جورجينيو في تتويج نادي تشيلسي بلقب دوري أبطال أوروبا لكرة القدم للموسم المنصرم مثلما ساهم أيضاً في نيل منتخب إيطاليا لقب بطولة أمم أوروبا لكرة القدم "يورو 2020" في شهر يوليو/تموز الماضي.. وهو المنتخب الذي كما قلت في بداية المقال إنه ندم، في فترة من الفترات، على تمثيله بدل منتخب بلده الأصلي، فكيف ذلك؟
تحصل جورجينيو على الجنسية الإيطالية يوم الفاتح من أكتوبر/تشرين الأول 2012، بفضل جد جده من والده، والذي هاجر إلى البرازيل من منطقة "فينيتو" بشمال إيطاليا، وعاصمتها مدينة البندقية الشهيرة.
وبعد شهر واحد من تجنيسه، تلقى جورجينيو استدعاء من ديفيز مانجيا، مدرب المنتخب الإيطالي للشباب (أقل من 23 عاماً) للمشاركة في مباراة ودية أمام منتخب إسبانيا، لكنه بقي على كرسي الاحتياط خلال ذلك اللقاء الذي انهزمت فيه إيطاليا بنتيجة 3-1، ثم انتظر ثلاث سنوات ونصف السنة ليظهر بقميص المنتخب الإيطالي الأول، حيث شارك في مباراة ودية أمام إسبانيا يوم 24 مارس/آذار 2016، بمدينة أودينيزي (1-1) وذلك في عهد المدير الفني السابق لـ"السكوادرا أتزورا"، أنطونيو كونتي.
كونتي ضمه لمنتخب إيطاليا.. وفينتورا أخرجه من حساباته
لكن كونتي لم يضم جورجينيو في قائمة منتخب إيطاليا المشارك في نهائيات بطولة أمم أوروبا لكرة القدم "يورو 2016″، كما أنّ المدرب الذي خلفه، في شهر آب/أغسطس نفس السنة، جيان بييرو فينتورا، أخرجه من حساباته بشكلٍ علني بحجة أنّ طريقة لعبه لا تناسب خططه التكتيكية ولا أسلوب اللعب الإيطالي، وهو الأمر الذي جعل اللاعب، في خريف عام 2017، يندم على اختياره تمثيل منتخب إيطاليا ويفكر في إمكانية اللعب لفائدة منتخب بلده البرازيل.
وقد تحدث عن هذه القضية وكيل أعماله، جواو سانتوس، في تصريحات نقلها موقع "بي سووكر" العالمي يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2017: "اللعب للبرازيل؟.. نعم يمكنه ذلك، فهو لم يشارك في مباريات رسمية مع الإيطاليين، ومن المحتمل أن يوجه له منتخب البرازيل الدعوة وهو سيوافق على ذلك".
لكن مسؤولي اتحاد الكرة البرازيلي لم يتحركوا لضم ابن بلدهم، ثم ومع قدوم روبيرتو مانشيني لشغل مهمة تدريب منتخب إيطاليا خلفاً لفانتورا، في شهر مايو/أيار 2018، عاد الأمل لجورجينيو للعب في صفوف "السكوادرا أتزورا" فأصبح قطعة أساسية في المنتخب وساهم بشكلٍ لافتٍ في قيادته للتتويج بلقب يورو 2020″.
قصة تصلح لتكون فيلماً سينمائياً أليس كذلك؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.