أصبحنا نصوِّر جميع الأحداث الحياتية تقريباً، من أصغر المناسبات لأكبرها، سواء كان ذلك عيد ميلاد طفلك في جلسة عائلية خفيفة، أو رحلة حياتك لزيارة دولة أوروبية لطالما تمنّيت رؤيتها.
وتمنحنا الهواتف الذكية بكاميراتها المتطورة الفرصة في التقاط الصور لكل لحظة نستشعر أنها تستحق التخليد، ومع ذلك كشفت أبحاث علمية في هذا الإطار أن التصوير من شأنه أن يُضعف قابلية أذهاننا على الاحتفاظ بذكرى الحدث أو المكان، وجعل تلك المناسبة أكثر عرضةً للنسيان.
تجارب لمعرفة أثر التصوير على قدرات الذاكرة
ودرست أستاذة علم النفس بجامعة فيرفيلد الأمريكية، ليندا هنكل، كيفية تأثير التقاط الصور على التجربة خلال الحدث، وقدرات الذاكرة وقابلية العقل في الاحتفاظ بذكرى ذهنية، في بحث علمي تم نشره بمجلة Psychological Science للأبحاث العلمية في العام 2013. وقامت بترتيب تجربة باستخدام مجموعة من الطلاب الجامعيين الذين انطلقوا في جولة إرشادية في متحف بيلارمين للفنون بالجامعة.
وفي التجربة، طُلب من الطلاب التقاط صور لبعض الأشياء التي شاهدوها في الجولة، والاكتفاء بمشاهدة بعض الأعمال الأخرى بتمعُّن ومن دون تصوير.
في اليوم التالي، تم إحضار الطلاب إلى المعمل لاختبار ذاكرتهم حول جميع الأشياء التي رأوها في الجولة الفنية بالمتحف. وكلما تذكروا قطعة من الأعمال المعروضة كانت تسألهم الباحثة حول تفاصيل بصرية محددة كانت في العمل.
وبحسب موقع Ideas Ted للأفكار الإبداعية، كانت النتائج واضحة بما لا يدع مجالاً للشك؛ الناس يتذكرون بالفعل عدداً أقل من تفاصيل الأعمال التي قاموا بتصويرها باستخدام الهواتف أو الكاميرات المتخصصة. كما اتضح أنهم لم يستطيعوا تذكر العديد من التفاصيل المرئية المحددة في الأعمال التي قاموا بتصويرها، مقارنة باللوحات التي شاهدوها فقط.
وتقول ليندا: "عندما تلتقط صورة لشيء ما فإنك تعتمد على الكاميرا لتتذكرها لك؛ أي أنك تقول حينها "حسناً، لست بحاجة إلى التفكير في هذا أكثر من ذلك، سأجعل الكاميرا تستكمل استيعاب التجربة".
وبمعنى آخر، إذا كنت تستخدم الكاميرا لالتقاط الحدث وتفاصيله فإن عقله لا يفعل ذلك الأمر بدوره، ويكتفي بالتصوير وحسب.
التقاط الصور يُضعف قدرات العقل في الاحتفاظ بذكرى ذهنية
وفي السياق ذاته، تقول إليزابيث لوفتوس، أستاذة العلوم النفسية في جامعة كاليفورنيا، إن التقاط الكثير من الصور يمكنه في الواقع أن يضر بقدرة الدماغ على الاحتفاظ بالذكريات.
وتشرح لوفتوس، وفقاً لموقع NPR المعرفي، أن الأمر يحدث بهذا الشكل نتيجة لأمرين، وهما إما لأننا نتخلى عن مسؤولية تذكُّر اللحظات والتدقيق في تفاصيلها عند التقاط الصور لها، أو بسبب كوننا مشتتين للغاية نتيجة عملية التقاط صورة جيدة ومتناسقة، لدرجة أننا نفوت اللحظة تماماً ونغيب عن الحضور فيها بشكلٍ واعٍ.
وتسمَّى عملية "تفريغ" ذاكرتنا لالتقاط الصور، بتأثير "إعاقة التقاط الصور". على سبيل المثال إذا قمت بتدوين رقم هاتف شخص ما فمن غير المرجح أن تتذكره بشكل مرتجل، لأن عقلك يخبرك بأنه لا داعي لذلك، فأنت بالفعل قد دوّنته في الورقة، صحيح؟. وهذا جيد بالطبع حتى تختفي أو تضيع من تلك الورقة، وتجد أنك قد فقدت الرقم للأبد.
الاعتماد على جوجل يُحدث تأثيراً مماثلاً بالنسبة للمعلومات
وفي دراسة علمية أُجريت عام 2011 حول "تأثير Google" ونشرتها مجلة Science للأبحاث العلمية، وجدت أن الإنسان يميل إلى عدم تذكُّر المعلومات أيضاً عندما يعلمون أنهم يمكنهم البحث عنها عبر الإنترنت لاحقاً أو استعادتها من جهاز تم حفظها عليه.
وتقول جوليا سواريز، أستاذة علم النفس المساعدة في جامعة ولاية ميسيسيبي، لموقع NPR: "الأمر بالضبط كما هو الحال مع المعلومات، عندما نلتقط الصور فإننا نخلي عقلنا من مسؤولية الاحتفاظ بذكرى ذهنية بسبب استخدام جهاز خارجي سيحتفظ بها بدلاً منها".
كيف يمكن تعزيز ذاكرتنا للاحتفاظ باللحظات المهمة إذن؟
من الصعب معرفة التوازن الأمثل للذاكرة العقلية بمساعدة ذاكرة التكنولوجيا. ولكن إذا أردنا التمسك بذكريات معينة، حينها سيتطلب الأمر بعض الجهد الذهني، وهذا يعني إيلاء اهتمام أكبر لما يحيط بنا.
ويلفت موقع VOX الأمريكي إلى أنه من الممكن استخدام كاميراتنا بعناية للتركيز على التفاصيل التي نريد حقاً أن نتذكرها، وهذا يعني ترك الكاميرا لبضع لحظات لتلاحظ كيف يبدو الجو، ورائحة الشوارع، وتفاصيل اللوحة التي تشاهدها، ومتابعة اللحظة الثمينة التي ترغب في الاحتفاظ بها، وتدوين مشاعرنا حول التواجد هناك بشكل حسّي في مدوّنة ورقية أو افتراضية، أو حتى بشكل عقلي فحسب.
الكاميرات لتعزيز الاحتفاظ بالذكريات الذهنية
ويمكن أن تساعد الهواتف الذكية في هذه العملية: يمكنها تخزين المعلومات والعمل كإشارات للذاكرة لمساعدتنا على استعادتها لاحقاً، لكن لا يمكننا ولا ينبغي لنا تفريغ كل اللحظات المهمة وتوكيلها للكاميرات فقط.
ولفت موقع Lifehacker إلى أن صنع الذاكرة المتعمدة يتطلب بعض الجهد والتدريب، مثلما لا تساعد إعادة القراءة الطالب في حفظ إجابات الاختبار؛ بل يكمُن الأمر في العمل الشاق المتمثل في البحث في ذاكرتنا وإعادة بناء واستيعاب جزء من المعلومات من نقطة الصفر، ما يسهل استرجاع المعلومات لاحقاً.
وبدلاً من التقاط صورة لكل شيء على الإطلاق، من الأفضل لك مراقبة ذلك بدون كاميرا في يدك، بالتأكيد يمكن التقاط صورة أو اثنتين للحدث المهم، ولكن بعد ذلك ضع الكاميرا بعيداً واستمتع بالاستغراق في اللحظة.