كما كان متوقعاً قررت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، بعد أن خلص المجلس الأعلى للأمن إلى إعادة النظر في هذه العلاقات.
الجزائر في بيان وزارة خارجيتها حاولت أن تبقي على نافذة صغيرة تتعلق بالخدمات الإدارية للمواطنين المغاربة المقيمين بها، والمواطنين الجزائريين المقيمين بالمغرب، وذلك مع التأكيد بأن العمل القنصلي سيبقى مستمراً رغم قطع العلاقات الدبلوماسية.
الجزائر في سياق عرضها لمبررات هذا القرار لم تقدم أي معلومات أمنية أو عسكرية تتعلق بطبيعة الأعمال العدائية، التي اتهمت المغرب بالقيام بها، بل اكتفت بالحيثيات السابقة (اتهام المغرب بالضلوع في إشعال الحرائق في تيزي وزو وبجاية وعدد من الولايات الجزائرية، وبالتجسس على مسؤولين جزائريين باستعمال برنامج بيغاسوس، وأيضاً بإسناد حركتي الماك ورشاد، فضلاً عن اتهام الرباط بالتنسيق مع إسرائيل لزعزعة أمن واستقرار الجزائر).
رد المغرب كان هادئاً، فقد أخذت الرباط علماً بالقرار الأحادي الجانب الذي اتخذته الجزائر، مستغربة الحيثيات التي بني عليها القرار، إذ وصفتها الرباط بأنها زائفة وعبثية، ومتوجهة بالخطاب إلى الشعب الجزائري، وأن المغرب سيبقى شريكاً صادقاً ومخلصاً للشعب الجزائري.
ملخص الموقفين أن الجزائر اختارت التصعيد، بينما اختار المغرب الهدوء والحكمة وإبقاء اليد الممدودة لبناء علاقات مغاربية سليمة ومثمرة، دون التورط في رد فعل يزيد الوضع احتقاناً وتصعيداً.
من حيث التوقيت، ثمة تساؤلات تطرح بخصوص المدة الفاصلة بين بيان المجلس الأعلى للأمن الجزائري وبلاغ الخارجية الجزائرية القاضي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط، فهذه المدة القصيرة (أسبوع)، تطرح تساؤلات حول الحيثيات الجديدة التي كانت تنتظرها الجزائر، قبل نقل قرارها من مجرد طرح هذه العلاقات على طاولة النظر (حسب بلاغ المجلس الأعلى للأمن الجزائري) إلى قطع العلاقات الدبلوماسية (بلاغ وزارة الخارجية الجزائرية).
والواقع أنه ليس ثمة أي جديد يتعلق بالمعطيات الأمنية التي يمكن أن تكون التحريات الجزائرية قد أفضت إليها، بخصوص علاقة المغرب بما يجري في الجزائر. فهذه المعطيات كانت حاضرة قبيل الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن الجزائري، وكانت الجزائر في جوابها عن هذه التحديات تراهن على دينامية دبلوماسية واسعة في المنطقة (ليبيا، الوساطة في سد النهضة بين مصر وإثيوبيا…)، بعد أن اتهم الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الدبلوماسية الجزائرية بالتقهقر والتراجع أمام الدينامية النشطة التي عرفتها الدبلوماسية المغربية خلال السنوات الأخيرة، وقد بلغ بالرئيس الجزائري التقييم إلى درجة القول إن "قضية الصحراء اندفنت" بفعل تقهقر الدبلوماسية الجزائرية.
والحقيقة أن ثمة حدثاً مهماً حصل في الأسبوع ذاته، هو الخطاب الملكي لثورة الملك والشعب، الذي تضمن معطيات ربما كانت سبباً في الدفع بالقرار الجزائري إلى هذا المستوى.
أول هذه المعطيات هو الإشارة الضمنية التي فهمها حكام الجزائر من حديث ملك المغرب عن أن المغرب مستهدف، وعن الاعتبارات التي تجعله مستهدفاً (دولة عريقة في الزمن، ملكية مواطنة هي محل إجماع مكونات الشعب المغربي، الأمن والاستقرار الذي يعرفه المغرب في المنطقة)، وأن جوابه عن هذه الاستهدافات هو قوة جبهته الداخلية والتفاف مكونات الشعب حول الملكية والمواطنة.
هذا المضمون تم فهمه جزائرياً، بكونه انتقاداً مبطناً لصناع القرار السياسي الجزائري، وأنهم بدلاً من أن يواجهوا التحديات المشتركة التي تواجه المنطقة، والجبهة الداخلية، وتقوية اللحمة بين الحكم وبين الشعب، يتجهون إلى خلق فزاعة العدو الخارجي.
المضمون الثاني، الذي يمكن أن يكون له الأثر الأكبر في صياغة قرار قطع العلاقات الدبلوماسية، هو حديث الملك محمد السادس، عن علاقات دبلوماسية غير مسبوقة سيتم تدشينها مع إسبانيا.
قبل يوم واحد من الخطاب الملكي، نفت السلطات المغربية ما تداولته بعض وسائل الإعلام من كون المغرب سيوقف اتفاقية تمرير الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر الأراضي المغربية.
وبعد أقل من يومين من الخطاب الملكي نشرت وسائل إعلام إسبانية عن قرب إنهاء التوتر الدبلوماسي بين مدريد والرباط، والإعلان عن تدشين علاقات غير مسبوقة قائمة على رؤية جديدة، تستجيب للتعريف المغربي لمصالحه الحيوية، وجرى الحديث عن إمكانية اعتراف إسباني بمغربية الصحراء مقابل تفاهمات بخصوص وضع المدينتين المغربيتين المحتلتين (سبتة ومليلية).
من زاوية أخرى، يرى مراقبون أن الجزائر كانت تتطلع إلى تعقد وضعية المغرب مع إسبانيا وألمانيا، بل كانت تعتبر أن أي توتر بين المغرب والاتحاد الأوربي سيخدم مصلحتها وسيدفع دبلوماسيتها للتحرك أوروبيّاً من أجل الدفع بإعادة نظر الإدارة الأمريكية في قرار الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، لكن الذي حصل هو العكس، ففي اليوم الذي صدر به قرار قطع العلاقات الجزائرية مع المغرب، عبرت فرنسا بأن المغرب صديق عظيم وشريك قوي لباريس، كما عبر الاتحاد الأوربي قبل يومين من صدور القرار الجزائري عن تجاوز الرباط ومدريد الأزمة، معتبراً أن ذلك سيفتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية والاتحاد الأوروبي، بما يرسخ الشراكة الاستراتيجية مع المغرب.
واضح من خلال تحليل "تريث" السلطات الجزائرية في قطع العلاقات الدبلوماسية في المغرب أن كل المعطيات التي بنت عليها القرار كانت جاهزة لديها قبيل الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن، وأن مركز الثقل كان موضوعاً على التطورات التي كانت تعرفها المفاوضات المغربية الإسبانية، وأن مصالحها الاستخباراتية لم تستطع أن تصل إلى شيء بخصوص طبيعة هذه المفاوضات ومداها، ولعل هذا ما يفسر حديث ملك المغرب في خطابه لثورة الملك والشعب، على إشرافه على هذه المفاوضات بشكل مباشر، أي أنها تمت في كامل السرية، وبالتالي لم يكن أمام الجزائر سوى انتظار مخرجاتها، وأنه في اللحظة التي أعلن فيها الملك عن قرب تدشين علاقات غير مسبوقة مع مدريد، تم التسريع باتخاذ القرار الجزائري بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب.
التحليل المنطقي الذي يستعين بدلالة التوقيت يرجح هذه التفسير، لكن ما صلة العلاقات المغربية الإسبانية بالعلاقات المغربية الجزائرية؟
الجزائر كانت قد أعدت خياراً بديلاً في حالة عدم تجديد المغرب لاتفاقية تمرير الغاز الجزائري عبر أراضيه إلى إسبانيا (خط حاسي الرمل- ألميرية)، لكن مدريد، لم تكن مرتاحة لهذا الخيار البديل نظراً لكلفته، لكن المغرب قتل هذا الخيار، بالإعلان عن نفيه لأي نية للمغرب لإيقاف الاتفاقية، ووضع الجزائر في الركن الضيق أمام مدريد.
التقدير الاستراتيجي الجزائري في دعم أطروحتها حول نزاع الصحراء -بعد أن حدثت متغيرات تتعلق باعتراف أمريكي بمغربية الصحراء، ومباركة دولية لتأمين المغرب لمعبر الكركرات وحمايته للتجارة الدولية- أن تتجه ديناميتها الدبلوماسية والاستخباراتية للتنسيق مع دول أوربية تتفق مصالحها الاستراتيجية مع استدامة النزاع حول الصحراء، وممانعة أي تحول في الموقع التفاوضي للمغرب مع أوروبا.
الخطاب الرسمي المغربي، يرى أن بعض الدول قامت بمحاولات لتوتير العلاقات بين الرباط ودول أوربية، ويؤكد بأن قضية بيغاسوس استعملت هي الأخرى في الغرض ذاته، لكن دون أن تنجح في بلوغ أهدافها.
فأرى أن الجزائر، على الأقل كما تعبر عن ذلك بلاغات رسمية فضلاً عن تعبيرات إعلامها الرسمي، كانت تتطلع إلى استمرار حالة التوتر بين المغرب وإسبانيا وألمانيا، بل كانت تراهن على تحرك أوروبي داعم لإسبانيا، لمعاقبة المغرب.
التقدير الاستراتيجي يحكم بأن أي اعتراف إسباني بمغربية الصحراء يعني نهاية الأطروحة الجزائرية بالكامل، وأن الخيارات المحدودة المتبقية لن يكون لها أثر كبير.
الجزائر -حسب رأيي- تستثمر اليوم في هامش هذه الخيارات المحدودة، وربما تفكر في خيار تعاون عسكري مع روسيا في المنطقة، بناءً على التقارب بين البلدين، وإعادة تحريك للورقة العسكرية من خلال تشغيل مناورات البوليساريو.
لكن حتى الآن تبقى هذه الورقة فاقدة لفاعليتها، فالظرفية الاقتصادية والاجتماعية والصحية (أزمة في تدبير جائحة كورونا)، والبيئية (أزمة الماء)، واختلال التوازن العسكري مع المغرب، كل ذلك يجعل من هذا الخيار محدوداً وربما مغامراً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.