أثارت الأحداث المتسارعة في أفغانستان، عقب انسحاب القوات الأمريكية، مخاوف جدية في عواصم شرق آسيا الحليفة لواشنطن. إذ رسمت مشاهد الأفغان، الذين يحاولون الحصول على مكانٍ في طائرةٍ عسكرية أمريكية تغادر كابول، صورةً عميقة لا تُمحَى عن تراجع القيادة الأمريكية، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ومع ذلك، لا ترى الدول الآسيوية الاضطرابات التي حدثت الأسبوع الماضي، على أنها حثٌ يمثِّل تحوُّلاً كبيراً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كانت إدارة أوباما هي التي قرَّرَت الانسحاب كجزءٍ من انسحابٍ أوسع من الشرق الأوسط، وتفاوضت إدارة ترامب مع طالبان لإرساء الشروط، ولم تنفِّذ إدارة بايدن إلا ما يعرفه الجميع بالفعل على أنه سياسةٌ أمريكية، حتى لو كان توقيت الانسحاب وطريقته ليسا مثاليين.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أمر إيجابي بالنسبة لخصوم الصين في شرق آسيا
والآن، تراقب الدول الآسيوية من كثب؛ من أجل معرفة ما إذا كان انتهاء التدخُّل العسكري في أفغانستان سيؤثِّر على نهج الرئيس الأمريكي جو بايدن بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي. ولا تعتقد الحكومات، من اليابان إلى تايوان، أن الاضطرابات في أفغانستان لها تداعيات سلبية على المحيطين الهادئ والهندي، لأسبابٍ ليس أقلها الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة. عكس ذلك، بقدر ما يسمح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لواشنطن بالمشاركة بشكلٍ أعمق في منطقة المحيطين الهادئ والهندي ضد مخططات الصين، فإنهم يرحِّبون بالانسحاب.
وتقول "فورين بوليسي"، إنه حتى الآن، أشاد جيران الصين الإقليميون بدبلوماسية بايدن، ليس لأنه يفعل أيَّ شيءٍ جديد جوهرياً، بل لأنه يواصل سياسات إدارة ترامب في المحيطين الهادئ والهندي، تماماً كما فعل في أفغانستان. يحدِّد بايدن، مثل ترامب مِن قبله، الصين باعتبارها منافساً استراتيجياً، وأكَّد عزمه على مواجهة التحدي الذي تمثِّله بكين.
تدعم دول المحيطين الهادئ والهندي هذا النهج بشكلٍ عام. وفي حين أن هناك اختلافاتٍ من حيث قربهم من الصين، لا توجد دولةٌ تريد أن تهيمن بكين على النظام الإقليمي. سوف تراقب العواصم الآسيوية الآن من كثب، ما إذا كان التحوُّل الاستراتيجي المُعلَن لواشنطن منذ فترةٍ طويلة نحو آسيا يحدث بالفعل بعد أن غادرت القوات الأمريكية أفغانستان.
كانت إدارة بايدن تحاول البناء على سياسات سلفها من خلال بناء إطار عمل متعدِّد الأطراف للتعامل مع الصين. في فبراير/شباط، عقد بايدن أول قمة على الإطلاق للحوار الأمني الرباعي، ومنتدى المحيطين الهادئ والهندي، الذي يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة. ومنذ أبريل/نيسان، التقى بايدن رئيسَ الوزراء الياباني ورئيس كوريا الجنوبية، وأكَّدا أنهما سيعملان معاً في ردِّهما على الصين، مؤكِّدَين في وثائقهما المشتركة أهمية السلام والاستقرار في مضيق تايوان.
يُعَدُّ ذلك ردعاً بالكلمات. والغرض منه إرسال رسالة قوية وواضحة من خلال اجتماعات القمة والوثائق المشتركة، مفادها أنه من غير المقبول للصين أن تنقلب من جانبٍ واحد على النظام العالمي الحالي. وقد ردَّت الحكومة الصينية بقوة ضد هذه الدعوات، ولكن يبدو أن الجولة الأخيرة من الدبلوماسية كان لها بعض التأثير في ردع بكين.
تايوان تتطلع إلى دعم أمريكي أكبر في مواجهة الصين
وتقول المجلة الأمريكية، إنه منذ توقيع اليابان والولايات المتحدة على بيانهما المشترك في 16 أبريل/نيسان، تراجعت استفزازات الطائرات العسكرية الصينية تجاه تايوان بشكلٍ كبير.
ووفقاً لتحليل البيانات من وزارة الدفاع التايوانية، دخلت 248 طائرة مقاتلة وقاذفة قنابل صينية منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية على مدار 70 يوماً بين 7 يناير/كانون الثاني و16 أبريل/نيسان. وفي 17 و25 يوليو/تموز، حدثت مثل هذه الغارات أقل بنسبة 30%، وكان عدد الطائرات أقل بنسبة 55%.
ليست نية الصين واضحة، ولكن مع تقارب الولايات المتحدة واليابان من بعضهما، والإشارة إلى رغبتهما في التعاون بمضيق تايوان، قد تعيد الصين النظر فيما إذا كان تصعيد الاستفزازات العسكرية فكرةً جيدة في هذا الوقت. وفي حين أنه من غير المُرجَّح أن توقف الصين استفزازاتها العسكرية ضد تايوان، فإن دبلوماسية بايدن قد تعقِّد على الأقل حسابات بكين.
لكن ما يجب على الإدارة الأمريكية فعله الآن هو العمل مع الدول ذات التفكير المماثل في المحيطين الهادئ والهندي؛ لضمان الفوز بالمنافسة الاستراتيجية مع الصين.
اليابان وأستراليا وتحمُّل المخاطر
لن يكون هذا سهلاً على بايدن. ما يجعل الأمر صعباً هو أن تحمُّل المخاطر في العلاقات مع الصين يختلف اختلافاً كبيراً من دولةٍ إلى أخرى. والدولتان الأكثر تحمُّلاً للمخاطر -وبالتالي لديهما أكبر استعدادٍ لمواجهة الصين- هما اليابان وأستراليا. كلاهما حليفٌ قديم للولايات المتحدة، التي عليها التزامٌ بموجب المعاهدة بالدفاع عنهما. ويوفِّر ما يقرب من 55 ألف جندي أمريكي متمركزين في اليابان مظلةً أمنية للبلاد.
وعكس ذلك، فإن دول جنوب شرقي آسيا، القريبة جغرافياً من الصين وتعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الاقتصاد الصيني، لديها قدرة أقل على تحمُّل المخاطر. وعادةً ما تسعى لاوس وميانمار، اللتان تشتركان في حدودٍ برية مع الصين وكمبوديا، إلى تجنُّب استعداء جارتهما الكبرى.
وإذا كانت اليابان وجنوب شرقي آسيا في أقصى نهايات تحمُّل المخاطر الاستراتيجية، فإن الهند وكوريا الجنوبية تقعان في مكانٍ ما بينهما. الهند قوة عظمى تمتلك أسلحةً نووية، لكن لديها نزاعات حدودية مستمرة مع الصين ولا تريد المخاطرة بالتوتُّر العسكري المفرط من خلال استفزاز الصين أكثر من اللازم.
وتعتمد كوريا الجنوبية بشكلٍ كبير على الصين من الناحية الاقتصادية، وتتاجر مع الصين أكثر من متاجرتها مع الولايات المتحدة واليابان مجتمعتين. إضافة إلى ذلك، لا غنى عن تعاون الصين إذا أرادت كوريا الجنوبية أن يكون لديها أيُّ أملٍ في حلِّ قضية إعادة توحيد الشمال والجنوب.
كلَّما زاد التوتُّر بين واشنطن وبكين، زادت احتمالية أن تخشى الدول الأقل قدرةً على تحمُّل المخاطرة من الوقوع في المنتصف، واتَّخذَت موقفاً محايداً، وتجنَّبَت دعم الولايات المتحدة. تدرك بكين ذلك بالطبع وسوف تستمر في تصوير واشنطن على أنها المتطفِّل الذي يزيد التوتُّر العسكري في المنطقة. ولتجنُّب مثل هذه العواقب، سيكون من الحكمة ألا تصعِّد إدارة بايدن ردعها بالكلمات. وفي المقابل، يجب أن تشارك بهدوءٍ البلدان ذات التفكير المماثل.
خطة أمريكية جديدة للمحيطين الهادئ والهندي
وعلى وجه التحديد، يجب أن تهدف سياسة الولايات المتحدة في المحيطين الهادئ والهندي إلى هدفين متوسِّطَي المدى. الأول هو إعادة بناء النظام التجاري وإعادة دمج الولايات المتحدة بحيث يمكن لدول المحيطين أن تقلِّل اعتمادها الاقتصادي تدريجياً على الصين. والثاني هو أنه يجب على الولايات المتحدة العمل مع شركائها لمنع التوازن العسكري في آسيا من الميل أكثر نحو الهيمنة الصينية.
وفيما يتعلَّق بإستراتيجية التجارة، كانت إدارة بايدن متأخِّرةً بشكلٍ كبير. انسحبت إدارة ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. وبالنظر إلى المعارضة المحلية للاتفاقيات التجارية والفوز في انتخابات التجديد النصفي لعام 2021، سيكون من الصعب على إدارة بايدن العودة إلى المفاوضات التجارية في الوقت الحالي.
وإذا استمرَّ هذا الوضع، فمن المُرجَّح أن تصبح سيطرة الصين على نظام التجارة بين الهند والمحيط الهادئ ساحقة. وإذا اتَّخذَت الصين زمام المبادرة بشكلٍ لا رجعة فيه في النظام الاقتصادي الإقليمية، فسوف يكون لذلك تأثيرٌ عميق على النظام الأمني أيضاً.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أعرب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن رغبته بوضوح في المشاركة في الاتفاقية الشاملة والمتقدِّمة للشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية الشراكة المُنقَّحة التي وقَّعتها 11 دولة في 2018، ولا تشمل الولايات المتحدة. وهناك وجهة نظر قوية في واشنطن مفادها أن الصين لن تكون قادرةً على تلبية معايير الاتفاقية المطلوبة، وأن شي قد يكون مخادعاً. لكن لا ينبغي الاستهانة ببكين.