يمكن وصف رد فعل روسيا على السيطرة المفاجئة لحركة طالبان على الحكم في أفغانستان بعد انسحاب أمريكا بأنه "هادئ" إلى حد كبير، على الرغم من أن طالبان لا تزال حركة "محظورة" رسمياً في موسكو.
والآن بعد أن عادت حركة طالبان إلى واجهة الأحداث بعد 20 عاماً من سقوط حكمها في أفغانستان بعد الغزو الأمريكي، تهرول الولايات المتحدة برئاسة جو بايدن وحلفائها لإجلاء دبلوماسييها من البلاد، وتعم الفوضى مطار كابول الدولي، لكن روسيا لا تبدو قلقة على الإطلاق.
روسيا غير قلقة من عودة طالبان
واليوم الإثنين 16 أغسطس/آب، نقلت وكالة تاس للأنباء عن زامير كابولوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن أفغانستان، عدداً من التصريحات حملت رسائل إيجابية ومتفائلة بشأن طالبان.
فقد قال كابولوف إن روسيا لا ترى أن حركة طالبان في أفغانستان تمثل تهديداً لآسيا الوسطى، مضيفاً أن موسكو مهدت الطريق سلفاً لإقامة اتصالات مع طالبان وأن المسؤولين الروس بالفعل على اتصال بمسؤولي حركة طالبان عبر سفارة موسكو في كابول.
وفي مقابلة أجرتها معه رويترز عبر الهاتف، قال كابولوف "إنهم يجرون محادثات في كابول. جميع الاتصالات تُجرى هناك في الوقت الراهن. السفارة تتعامل مع هذا الأمر".
وبدأت الاتصالات عندما أرسلت طالبان حراساً إلى السفارة الروسية بعد سيطرة المسلحين على كابول. وقال: "سارت الأمور بهدوء تام دون وقوع حوادث. جاءت قوات من طالبان ووضعوها (السفارة) تحت الحراسة". وأضاف: "ستظل سفارتنا على اتصال بممثلين.. عن القيادة العليا لطالبان لوضع آلية دائمة لضمان سلامة سفارتنا".
متى بدأت روسيا التواصل مع طالبان "المحظورة"؟
وقبل الإجابة عن توقيت بدء الاتصالات بين موسكو وطالبان، من المهم توضيح كون الحركة الأفغانية "تنظيماً محظوراً" في روسيا، وهو التصنيف الذي يرجع إلى عام 2001، عندما وقعت هجمات سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، وهي الهجمات التي تبناها تنظيم القاعدة.
في ذلك الوقت كانت حركة طالبان تحكم أفغانستان منذ عام 1996، وكانت تستضيف أسامة بن لادن وباقي قادة تنظيم القاعدة، ورفضت الحركة تسليمهم إلى الولايات المتحدة في أعقاب الهجمات الدامية، وهو ما أعطى الذريعة لإدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن لغزو أفغانستان، في إطار ما سماه "الحرب على الإرهاب".
وفي ذلك الوقت، سارعت موسكو- شأنها شأن غالبية دول العالم- إلى حظر حركة طالبان وفرض عقوبات على قادتها، بل قدمت روسيا الدعم اللوجستي للعمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان، على الرغم من خطورة ذلك الوجود العسكري الغربي على الحدود الروسية.
لكن تلك المعطيات كانت قبل 20 عاماً، ووقتها كانت روسيا دولة تعاني اقتصادياً بشكل كبير ولديها مشاكل أمنية وعسكرية ضخمة جعلتها ليست في موقف يسمح لها بالوقوف في وجه عدوها التقليدي (الولايات المتحدة) الذي كان وقتها يحظى بدعم غالبية دول العالم، إما تعاطفاً بعد هجمات سبتمبر/أيلول وإما خوفاً من رد الفعل، خصوصاً أن بوش الابن أعلنها صريحة "من ليس معنا فهو ضدنا".
وغزت أمريكا أفغانستان وأنهت حكم طالبان ووضعت نظاماً جديداً في كابول، لتبدأ رحلة طويلة وممتدة من التغيرات ليس فقط على الأراضي الأفغانية ولكن على الساحة الدولية، بما فيها موازين القوى بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة والصين أيضاً، اللاعب الإقليمي الآخر في المحيط الأفغاني.
وبدأت روسيا في فتح قنوات اتصال مع حركة طالبان منذ عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في وقت كانت حركة طالبان قد باتت تمثل رقماً صعباً في المعادلة الأفغانية وأصبحت التحدي الأبرز للحكومة الأفغانية المدعومة أمريكياً.
كيف تغيرت نظرة روسيا للوجود الأمريكي في أفغانستان؟
من الواضح أن روسيا كانت تراقب عن كثب التقدم المطرد الذي باتت تحققه طالبان على الأرض في السنوات القليلة الماضية وازدياد التململ الشعبي الأمريكي من تلك الحرب التي باتت توصف بأنها "لا نهائية"، ومن ثم الحديث عن ضرورة الانسحاب الأمريكي.
وفي نهاية عام 2016، عبرت الحكومة الأفغانية وقيادات أمريكية عن القلق من تعميق العلاقات بين روسيا وحركة طالبان، متهمين موسكو بأنها تقدم دعماً للحركة التي تحارب لإسقاط الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكياً.
وفي ذلك الوقت، نفى مسؤولون روس أنهم يقدمون أي مساعدات لمقاتلي طالبان وقالوا إن "الاتصالات المحدودة بين الطرفين تهدف إلى دفع طالبان إلى مائدة التفاوض".
ووقتها وصف مسؤول أمني أفغاني كبير الدعم الروسي لطالبان بأنه "اتجاه جديد خطير"؛ وهو الرأي الذي ردده أيضاً الجنرال جون نيكلسون أرفع القادة العسكريين الأمريكيين في أفغانستان، حسب تقرير لرويترز.
وردت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، في إفادة صحفية في موسكو آنذاك فقالت إن تعليقات نيكلسون ساذجة وغير دقيقة، وأضافت: "قلنا مراراً إن روسيا لا تجري أي محادثات سرية مع طالبان ولا تقدم لها أي نوع من الدعم".
وقالت زاخاروفا إن روسيا تفضل التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض في أفغانستان؛ وهو ما لا يمكن أن يحدث بغير إقامة علاقات مع كل الأطراف بما فيها حركة طالبان.
ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث عن أن روسيا تسعى لرد الدين للولايات المتحدة على الساحة الأفغانية. والمقصود هو مساعدة الولايات المتحدة للمقاتلين الأفغان الذين كانوا يحاربون القوات السوفييتية التي غزت أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي.
ووقتها قال مسؤولون من طالبان لرويترز إن الجماعة تجري اتصالات مهمة مع موسكو منذ 2007 على الأقل وإن الدور الروسي لم يتجاوز "الدعم المعنوي والسياسي"، وقال مسؤول كبير في طالبان: "لنا عدو مشترك. كنا نحتاج الدعم للتخلص من الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان وكانت روسيا تريد خروج كل القوات الأجنبية من أفغانستان بأسرع ما يمكن".
وعلى الرغم من أن روسيا ساعدت في البداية في تزويد الجيش الأفغاني- المدعوم أمريكيا- بطائرات هليكوبتر ووافقت على فتح طريق لنقل ما يحتاجه التحالف الغربي من إمدادات عبر روسيا، إلا أن الجانب الأكبر من هذا التعاون انهار مع تدهور العلاقات بين روسيا والغرب في السنوات الأخيرة بسبب الصراع في أوكرانيا وسوريا.
تغير قواعد اللعبة في أفغانستان بعد انسحاب أمريكا
وهكذا تغيرت قواعد الاشتباك الروسي مع الساحة الأفغانية خلال السنوات الماضية، ويمكن القول إن موسكو كانت من أوليات دول المنطقة في استقراء النتيجة التي انتهت إليها الأمور في أفغانستان وحسمت الأحد 15 أغسطس/آب بتولي طالبان مقاليد الأمور وهروب الرئيس أشرف غني وتسليم الجيش الأفغاني والحكومة نهائياً.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، منذ أوشكت واشنطن على إكمال انسحابها ومن ثم تكثيف طالبان حملتها لاستعادة البلاد كاملة، أصبح القبول الروسي لحركة طالبان معلناً ولا لبس فيه، إذ اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الحكومة الأفغانية بعرقلة مفاوضات تقاسم السلطة.
وفي المقابل، امتدح لافروف موقف مفاوضي حركة طالبان ووصفهم بأنهم "أشخاص عاقلون"، مضيفاً: "من الخطأ محاولة الإبقاء على الغموض الراهن لأطول فترة ممكنة وهناك قوى في كابول تريد حدوث هذا لأنه يسمح لها بالبقاء في السلطة".
وخلال التصريحات التي رشحت في الأربعة وعشرين ساعة الأخيرة، وجهت أطراف أفغانية منها وزير الدفاع والرئيس السابق حامد كرزاي اتهامات قاسية للرئيس أشرف غني واتهموه بأنه هو من عرقل التوصل لاتفاق مع طالبان.
لكن الواضح أن روسيا تسعى لأن يكون لها علاقات قوية مع الحكام الجدد في أفغانستان- حركة طالبان- ورغم ذلك لم تسارع موسكو حتى الآن برفع الحركة من قائمة التنظيمات المحظورة لديها.
فقد قال ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، أواخر يوليو/تموز الماضي إنه "لا توجد بعد خطط روسية لرفع حركة طالبان من قائمة التنظيمات المحظورة في موسكو"، بحسب وكالة تاس الروسية.
لكن الآن ومع السرعة التي تمت بها سيطرة طالبان على العاصمة كابول وانهيار الحكومة الأفغانية وتسليمها تماماً، ربما تكون مسألة رفع الحركة من قائمة الحظر الروسية أمراً مفروغاً منه، بحسب مراقبين.
فالتخوف الرئيسي بالنسبة لموسكو في أفغانستان يتمثل بالأساس في حدوث انفلات أمني يساهم في تهريب أسلحة ومخدرات إلى الجمهوريات السوفييتية السابقة المجاورة لأفغانستان كطاجيكستان وأوزبكستان وغيرهما من جهة، أو وجود تنظيمات متطرفة كتنظيم الدولة تمثل تهديداً للأمن في منطقة آسيا الوسطى التي تعتبرها موسكو فضاءً خاصاً بها.
لكن طالبان كانت سريعة وحاسمة في رسائلها، ليس فقط لطمأنة موسكو ولكن أيضاً جميع دول العالم، حيث أكدت الحركة أنها لن تسمح بأن تمثل أفغانستان تهديداً لأي دولة أخرى في المنطقة أو حول العالم.
وبالتالي يرى أغلب المراقبين أن التغيير الواضح في سلوك طالبان الآن، عما كان عليه قبل 20 عاماً، يفتح الباب أمام وجود علاقات طبيعية بين روسيا وأفغانستان تحت حكم الحركة، وهو ما يفسر الموقف الذي تتبناه موسكو حالياً والمتسم بالهدوء وعدم استباق الأحداث، فاتحاً الباب على جميع الاحتمالات.
فقد نقلت وكالة الإعلام الروسية عن كابولوف قوله إن بلاده لن تتسرع في اتخاذ قرار بخصوص الاعتراف بالسلطات الجديدة في أفغانستان، وأضاف أن موسكو ستراقب تصرفات السلطات الجديدة عن كثب ثم تتخذ قراراً.