يبدو أن عمليات الاستسلام من قبل حكومة أشرف غني في أفغانستان تجري بنفس سرعة تقدُّم مقاتلي حركة طالبان؛ ففي الأيام الأخيرة انهارت قوات الجيش الأفغاني في أكثر من 17 ولاية (حتى يوم السبت 14 أغسطس/آب 2021) أمام زحف طالبان الذي بدأ في مايو/أيَّار بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من البلاد. وأكَّد المسؤولون، الجمعة 13 أغسطس/آب، أن من بين هذه المدن عاصمتين من أهم عواصم المقاطعات في البلاد، وهما قندهار وهرات. فكيف انهار الجيش الأفغاني المدعوم من واشنطن والذي يمتلك قوة وعتاداً تفوق طالبان، بهذه السرعة؟
المهمة الأمريكية الطويلة فشلت.. الجيش الأفغاني ينهار أمام بنادق طالبان
عمليات استسلامٍ بالجملة، واحتجاز لطائرات مروحية، ومعدَّات عسكرية بملايين الدولارات قدَّمَتها الولايات المتحدة لحكومة كابول أصبحت في قبضة حركة طالبان، بعد أن عرضتها الحركة في مقاطع فيديو بثت على منصات التواصل الاجتماعي. وفي بعض المدن، اندلع قتالٌ عنيف طيلة أسابيع في ضواحيها، لكن طالبان تجاوزت الخطوط الدفاعية في نهاية المطاف، ثم لم تواجه إلا مقاومة ضعيفة أو معدومة، بحسب وصف صحيفة New York Times الأمريكية.
يأتي هذا الانفجار الداخلي على الرغم من ضخِّ الولايات المتحدة أكثر من 83 مليار دولار في صورة أسلحة ومعدات وتدريبات لقوات الأمن في البلاد على مدار العقدين الماضيين.
وكان بناء جهاز الأمن الأفغاني أحد الأجزاء الرئيسية في استراتيجية إدارة أوباما، حيث سعت لإيجاد طريقة لتسليم الأمن والمغادرة منذ ما يقرب من عقدٍ من الزمان. أسفرت هذه الجهود عن جيشٍ على غرار صورة الجيش الأمريكي، وكان من المفترض أن يصمد إلى ما بعد الحرب الأمريكية. لكن من المُرجَّح أن يختفي هذا الجيش تماماً خلال أيام معدودة فقط.
في حين أن مستقبل أفغانستان يبدو "ضبابياً" بشكلٍ أكبر وأكبر، هناك شيءٌ واحدٌ أصبح واضحاً للغاية، وهو أن الولايات المتحدة قد فشلت في محاولتها التي استمرَّت 20 عاماً لإعادة بناء جيش أفغانستان وتحويله إلى قوةٍ قتالية قوية ومستقلة، وهذا الفشل يحدث الآن بينما تنزلق البلاد إلى سيطرة قبضة طالبان.
أصبح واضحاً كيف تفكَّك الجيش الأفغاني لأول مرة ليس خلال الأسبوع الماضي، بل خلال أشهرٍ من تراكم الخسائر التي بدأت حتى قبل إعلان الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها بحلول 11 سبتمبر/أيلول.
هكذا انتصرت طالبان بمعركتها مع الجيش الأفغاني الذي راهنت عليه أمريكا طويلاً
بدأ الأمر ببؤرٍ منعزلة في المناطق الريفية، حيث أحاط مقاتلو طالبان بوحدات الشرطة والجنود الجائعين النافدة ذخيرتهم، ووعدوا بالمرور الآمن إذا استسلموا وتركوا معداتهم، مِمَّا منح مقاتلي الحركة تدريجياً المزيد والمزيد من السيطرة على الطرق، ثم السيطرة على مناطق بأكملها. ومع انهيار المواقع، كانت الشكوى هي نفسها تقريباً: لم يكن هناك دعمٌ جوي أو نفدت الإمدادات والغذاء.
لكن حتى قبل ذلك، كانت نقاط الضعف المنهجية، واضحة لدى قوات الأمن الأفغانية التي بلغ عددها على الورق حوالي 300 ألف شخص، ولكن في الأيام الأخيرة بلغ مجموعها حوالي سُدس هذا العدد فقط، وفقاً لمسؤولين أمريكيين.
ويمكن إرجاع نقاط الضعف هذه إلى العديد من القضايا التي نشأت من إصرار الغرب على بناء جيشٍ حديثٍ بالكامل مع كلِّ التعقيدات اللوجستية والإمدادات التي يتطلَّبها هذا الأمر، والتي ثبت أنها غير مستدامة دون وجود الولايات المتحدة وحلفائها.
وأعرب الجنود ورجال الشرطة عن استيائهم المتزايد من القيادة الأفغانية، وغالباً ما كان المسؤولون يغضون الطرف عمَّا كان يحدث، مُدرِكين تماماً أن عدد القوى العاملة الحقيقية للقوات الأفغانية كان أقل بكثيرٍ مِمَّا كان موجوداً في السجلات، والذي كان مختلفاً نتيجة للفساد والسرية التي طبَّقوها بهدوء، كما تصف ذلك "نيويورك تايمز".
القيادة الأفغانية تركت جنودها للجوع والإنهاك
وعندما بدأت طالبان في بناء زخمٍ كبيرٍ بعد إعلان الولايات المتحدة الانسحاب، زاد الاعتقاد بأن القتال في قوات الأمن- أي من أجل حكومة الرئيس أشرف غني- لا يستحق الموت من أجله. وفي مقابلاتٍ عدة، وصف جنود وضباط الشرطة لحظاتٍ من اليأس ومشاعر التخلي عنهم.
وعلى أحد خطوط المواجهة في مدينة قندهار، جنوبيّ أفغانستان، الأسبوع الماضي، بدا أن عجز قوات الأمن الأفغانية عن صدِّ هجوم طالبان المدمِّر يُعزَى إلى البطاطس.
بعد أسابيع من القتال، كان من المُفتَرَض أن يكون صندوقٌ كرتوني مليءٌ بالبطاطس هو الحصة اليومية من الغذاء لوحدة الشرطة. لم يتلقَّ رجال الوحدة أيَّ شيءٍ سوى البطاطس بأشكالٍ مختلفة طوال عدة أيام، وكانوا جوعى ومُنهَكين.
صاح ضابط شرطة، مُعرِباً عن استيائه من نقص الدعم الذي يتلقّونه في ثاني أكبر مدينة في البلاد: "هذه البطاطس المقلية لم تصمد في هذه المواجهات!". وبحلول يوم الخميس، 12 أغسطس/آب، انهار هذا الخط الأمامي، وكانت قندهار تحت سيطرة طالبان بحلول صباح الجمعة.
وُحِّدَت القوات الأفغانية للدفاع عن 34 عاصمة إقليمية في أفغانستان في الأسابيع الأخيرة، حيث تحوَّلَت حركة طالبان من مهاجمة المناطق الريفية إلى استهداف المدن. ولكن ثبت عدم جدوى هذه الاستراتيجية، إذ اجتاح المسلحون مدينةً تلو الأخرى، واستولوا على حوالي نصف عواصم المقاطعات الأفغانية في غضون أسبوع، وحاصروا كابول.
يقول عبدالحي، 45 عاماً، وهو قائد الشرطة الذي كان يسيطر على الجبهة الشمالية لقندهار الأسبوع الماضي لصحيفة نيويورك تايمز: "إنهم يحاولون القضاء علينا تماماً".
لقد تكبَّدَت قوات الأمن الأفغانية أكثر من 60 حالة وفاة منذ عام 2001. لكن عبدالحي لم يكن يتحدَّث عن طالبان، بل عن حكومته، التي يعتقد أنها غير كفؤة كما لو كانت جزءاً من خطةٍ أوسع للتنازل عن الأراضي لصالح طالبان.
"حرب نفسية"
وبدا أن أفدح الهزائم قد بلغت ذروتها يوم الأربعاء، 11 أغسطس/آب، حين سقط المقر الكامل لفيلق الجيش الأفغاني رقم 217 في يد طالبان، في مطار مدينة قندوز الشمالية. استولى مقاتلو طالبان على طائرات مروحية حربية، وانتشرت على الإنترنت صور طائرة مُسيَّرة أمريكية استولوا عليها أيضاً مع صورٍ لصفوفٍ من العربات المُدرَّعة.
اللواء عباس توكلي، قائد الفيلق 217 بالجيش الأفغاني، الذي كان في مقاطعةٍ مجاورة حين سقطت قاعدته، ردَّدَ نفس ما قاله عبدالحي كأسبابٍ لهزيمة قواته في ساحة المعركة.
قال توكلي، بعد ساعاتٍ فقط من نشر طالبان مقاطع فيديو لمقاتليها وهم ينهبون القاعدة مترامية الأطراف: "لسوء الحظ، عن قصدٍ أو دون قصد، قام عددٌ من أعضاء البرلمان والسياسيين بتأجيج الشعلة التي أطلقها العدو". وقال: "لم تسقط أيُّ منطقةٍ نتيجة الحرب، ولكن نتيجة الحرب النفسية". ولقد اندلعت هذه الحرب النفسية على عدة مستويات.
يقول الطيَّارون الأفغان إن قيادتهم تهتم بشكلٍ أكبر بحالة الطائرات أكثر من اهتمامها بمن يقودونها، وهؤلاء كانوا يتعرَّضون لحملات اغتيالٍ من جانب طالبان.
وما تبقى من قوات نخبة المغاوير، الذين كانوا هم من يسيطرون على الأراضي الواقعة تحت سيطرة الحكومة، نُقِلوا من مقاطعةٍ إلى أخرى دون هدفٍ واضح، ولم يحظوا بقسطٍ كافٍ من النوم.
وعلاوة على ذلك، تم تجاوز الميليشيات المتحالفة عرقياً والتي برزت كقوةٍ قادرة على تعزيز الخطوط الحكومية. المدينة الثانية التي سقطت الأسبوع الماضي كانت شبرغان، شماليّ أفغانستان، وهي عاصمةٌ كان من المُفتَرَض أن تدافع عنها قوةٌ هائلة تحت قيادة عبدالرشيد دوستم، أمير الحرب سيئ السمعة، ونائب الرئيس الأفغاني السابق، الذي نجا من 40 عاماً من الحرب عن طريق إبرام الصفقات وتبديل الانحيازات.
وفي يوم الجمعة، استسلم زعيم الحرب الأفغاني البارز الآخر، محمد إسماعيل خان، للمسلحين، بعد أن قاوم هجمات طالبان في غربيّ أفغانستان لأسابيع، وحشد الكثيرين لصفوفه لصدِّ هجوم طالبان.