تزامناً مع إصرار خليفة حفتر على عرقلة المسار السياسي في ليبيا، أظهرت أدلة جديدة مدى وحشية جرائم الحرب التي يرتكبها مرتزقة فاغنر الروس الذين يقاتلون في صفوف ميليشياته.
فقبل يومين فقط، أعلن زعيم ميليشيات شرق ليبيا، الذي يطلق على نفسه وصف "قائد الجيش الليبي"، أنه لن يخضع للسلطة الحالية في البلاد، مثيراً مخاوف من أن يكرر انقلابه على المسار السياسي مرة أخرى ومعاودة الهجوم على طرابلس العاصمة كما فعل من قبل وفشل.
والثلاثاء 10 أغسطس/آب، وجه عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية ووزير الدفاع انتقادات حادة لخليفة حفتر، مؤكداً أن الجيوش الوطنية تحمي عواصم بلادها ولا تقتحمها، وأن المؤسسة العسكرية "معول بناء وليس هدم، ولا يمكن أن تنسب لأحد بعينه مهما كانت صفته، بل هو جيشنا وحامي حمانا".
واليوم الأربعاء 11 أغسطس/آب، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC تقريراً بعنوان "مرتزقة حفتر الروس: في قلب مجموعة فاغنر"، كشف المزيد عن تفاصيل جرائم الحرب التي ارتكبها المرتزقة الروس، والتي شملت قتل الأسرى والمدنيين بدم بارد وزرع الألغام في المناطق السكنية والبيوت دون إشارات تحذيرية وهي جرائم حرب بتوصيف القانون الدولي.
من هم مرتزقة فاغنر؟
فاغنر هي شركة أمن خاص روسية ظهرت على مسرح الأحداث خارج روسيا للمرة الأولى عام 2014، حيث كان أفرادها يقاتلون في شبه جزيرة القرم الأوكرانية والتي غزتها موسكو وضمتها إليها رسمياً في ذلك العام.
وفي العام التالي ومع تورط روسيا بشكل كامل في دعم رئيس النظام السوري بشار الأسد، أصبحت سوريا ساحة جديدة لمرتزقة فاغنر، ومنذ ذلك الوقت ظهرت تقارير تفيد بوجود فاغنر في مناطق وبلدان أخرى في أفريقيا، ومن ثم الانضمام إلى ميليشيات حفتر بعد أن قررت موسكو دعمه.
ويظهر تقرير BBC الاستقصائي مدى السرية التي تعمل بها تلك المجموعة وعلى نحو مريب، إذ تمكنت بي بي سي من الوصول إلى اثنين من المقاتلين السابقين كشفا عن نوعية الأشخاص الذين يلتحقون بفاغنر وافتقار المجموعة إلى أي "مدونة سلوك".
والمقصود بمدونة السلوك هو مجموعة القواعد والإجراءات التي يلتزم بها مقاتلو شركات الأمن الخاص، والتي يفترض أنها لا تختلف كثيراً عن قواعد عمل الجيوش النظامية، فلا يجوز قتل الأسرى أو المدنيين أو زرع ألغام دون وجود علامات تحذيرية واضحة.
وترفض موسكو تماماً الاعتراف بأي علاقة لها مع فاغنر، وبالتالي فإنه من الناحية الرسمية لا وجود للمجموعة، لكن تظهر أقل التقديرات أن 10000 فرد قد أبرموا عقداً واحداً على الأقل مع فاغنر منذ خروجها إلى الوجود وهي تحارب إلى جانب الانفصاليين الموالين للروس في شرقي أوكرانيا في عام 2014.
ويعتقد أن نحو 1000 فرد من رجال فاغنر حاربوا إلى جانب حفتر في ليبيا في الفترة من 2019 إلى 2020. وطلبت بي بي سي في روسيا من أحد مقاتلي فاغنر السابقين أن يصف فاغنر، فأجاب قائلاً: "إنها كيان هدفه الترويج لمصالح الدولة خارج حدود بلدنا".
أما بالنسبة للمقاتلين، فقال إنهم إما" محترفو حروب" أو أشخاص يبحثون عن عمل أو أشخاص مدفوعون بأفكار خيالية لخدمة وطنهم. وأخبر مقاتل سابق آخر بي بي سي أنه لا توجد مدونات سلوك واضحة وإذا لم يكن لدى أسير الحرب معلومات يقدمها أو لا يستطيع أن يعمل "كعبد" إذن فـ"النتيجة معروفة".
"تابلت سامسونغ" كشف المستور في ليبيا
التحقيق الجديد لـ"بي بي سي" كشف النقاب عن حجم العمليات التي تقوم بها المجموعة الغامضة من المرتزقة الروس والتي تحارب في صفوف خليفة حفتر منذ بدأ هجومه الفاشل على طرابلس في أبريل/نيسان 2019.
وكشف لوح إلكتروني (تابلت) من طراز سامسونغ خلّفه وراءه أحد مقاتلي مجموعة فاغنر عن الدور الأساسي الذي تقوم به هذه المجموعة فضلاً عن أسماء حركية للمقاتلين أمكن تعقبها. كما حصلت "بي بي سي" على "قائمة مشتريات" لمعدات عسكرية متطورة من أحدث طراز يقول شهود خبراء إنه لا يمكن أن تأتي إلا من إمدادات الجيش الروسي.
وعززت الأدلة التي تم جمعها من "التابلت" أجزاءً أخرى من فيلم وثائقي تلفزيوني عنوانه "مرتزقة حفتر الروس: داخل مجموعة فاغنر"، الذي أعدته "بي بي سي نيوز عربي" و"بي بي سي نيوز روسي"، وتشمل الأمور الأخرى التي كشف الوثائقي النقاب عنها أدلة على ارتكاب جرائم حرب، ولاسيما القتل العمد للمدنيين.
ووصف قروي ليبي كيف أنه تظاهر بالموت بينما كان أقاربه يُقتَلون. وساعدت شهادته فريق "بي بي سي" على التعرف على أحد المشتبه بهم.
ومما لا شك فيه أن مرتزقة فاغنر في ليبيا يقتلون الأسرى، الأمر الذي اعترف به بكل صراحة أحد المقاتلين السابقين في صورة عبارة قال فيها: "لا أحد بحاجة إلى فم زائد يطعمه".
وهناك جريمة حرب محتملة أخرى وصفها جندي تابع للحكومة الليبية، وكيف أن رفيقاً له استسلم لجنود فاغنر، لكنهم أطلقوا عليه النار مرتين في بطنه. ولم يشاهد الجندي صديقه هذا منذ ذلك الحين كما لم يشاهد ثلاثة أصدقاء آخرين أُسروا في الوقت نفسه.
كما وفَّر "التابلت" أيضاً أدلة على تورط المرتزقة في زرع الألغام والفخاخ الخادعة في المناطق المدنية. ومن المعروف أن زرع الألغام دون وضع علامات عليها يعدّ جريمة حرب.
وكان أحد مقاتلي المجموعة المجهولين قد ترك "التابلت" وراءه بعد أن تقهقر مقاتلو فاغنر من مناطق في جنوب طرابلس في ربيع العام الماضي، بعد أن تعرضت ميليشيات حفتر لهزائم متكررة.
وتضم محتويات "التابلت" خرائط باللغة الروسية لجبهة القتال، مما يؤكد وجود فاغنر الكبير، كما يوفر رؤية معمقة غير مسبوقة للعمليات التي تقوم بها المجموعة. وهناك صور بطائرات مسيَّرة وأسماء حركية لمقاتلي فاغنر تعتقد BBC أنها تعرفت على هوية واحد منهم على الأقل من خلال "التابلت" الموجود الآن في مكان آمن، بحسب التقرير.
قائمة أسلحة تضع الجيش الروسي في قفص الاتهام
وتم العثور أيضاً على قائمة شاملة لمشتريات أسلحة ومعدات عسكرية في وثيقة من عشر صفحات بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني 2020 وفَّرها لـ"بي بي سي" مصدر استخباراتي ليبي وربما أُخذت من أحد مواقع تمركز فاغنر.
وتشير الوثيقة إلى مَن يمكن أن يكون وراء تمويل ومساندة العملية، وتشير القائمة إلى مواد ضرورية "لإكمال أهداف عسكرية" وتشمل أربع دبابات ومئات من بنادق كلاشنكوف ونظام رادار حديث. وأخبر محلل عسكري "بي بي سي" أن بعض التقنيات التي تتوفر عليها الأسلحة المطلوبة لا يمكن أن تتوفر إلا عند الجيش الروسي.
وقال خبير آخر متخصص في مجموعة فاغنر إن القائمة تشير إلى ضلوع ديمتري أوتكين. وأوتكين هو ضابط مخابرات عسكرية روسي سابق يُعتقد أنه أسس فاغنر وأطلق عليها هذا الاسم (وهي شارة التعريف السابقة له) وقد حاولت "بي بي سي" الاتصال به لكنها لم تتلقَّ أي رد.
وأظهرت دراسة تفصيلية قامت بها BBC "لقائمة المشتريات" وفحصاً لوثيقة أخرى إلى أن كلمات "ايفروبوليس" و"المدير العام" تشير إلى ضلوع يفغيني بريغوزين وهو رجل أعمال ثري مقرب من الرئيس فلاديمير بوتين.
وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد فرضت عقوبات على إيفرو بوليس في عام 2018 ووصفتها بأنها شركة روسية تم التعاقد معها "لحماية" حقول النفط السورية "المملوكة أو التي يسيطر عليها" بريغوزين .
وربطت التحريات التي قام بها صحفيون غربيون بين بريغوزين ومجموعة فاغنر وكان ينكر على الدوام وجود أي علاقة بإيفرو بوليس أو فاغنر. وأخبر متحدث روسي BBC أن بريغوزين ليست له أي علاقة بإيفرو بوليس أو فاغنر.
وعلق بريغوزين بالقول إنه لم يسمع بأي شيء يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان في ليبيا من جانب الروس، إذ قال: "إنني واثق أن هذه محض كذبة".
بينما قال أندريه شوبرغين، وهو خبير يعمل مع المجلس الدولي الروسي، إن موقف الحكومة الروسية كالتالي "دعهم ينضمون إلى ذلك الشيء وسنترقب النتيجة فإذا ما نجحوا فيمكن استغلال النتيجة لصالحنا أما اذا منيت العملية بالفشل فلا شأن لنا بها إذن".
جرائم حرب ميليشيات حفتر
هذه ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها تقارير إعلامية وأممية أيضاً عن ارتكاب ميليشيات تابعة لخليفة حفتر جرائم حرب بحق الليبيين، لكن الجديد ربما يكون مدى التفاصيل الصادمة والأدلة الدامغة على ما ارتكبته وترتكبه مجموعة فاغنر في ليبيا من خلال تحقيقات BBC.
فقد كانت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب قد فرضت عقوبات على ميليشيات تابعة لخليفة حفتر، وهي ميليشيا "الكانيات" وقائدها في إطار "قانون ماغنيتسكي" الذي يستهدف "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والفساد في جميع أنحاء العالم".
واتهم مكتب مراقبة الأصول الأجنبية "أوفاك"، التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، ميليشيا "الكانيات" وقائدها بالمسؤولية عن "قتل مدنيين تم اكتشافهم في العديد من المقابر الجماعية في ترهونة، فضلاً عن التعذيب، والاختفاء القسري، وتشريد المدنيين".
وجاء فرض العقوبات الأمريكية على الميليشيات وقائدها محمد الكاني أواخر نوفمبر/تشرين الثاني بعد أن أحبطت روسيا مساعي أمريكية وألمانية على مستوى "لجنة عقوبات ليبيا"، لوضع هذه الميليشيا ضمن قائمة العقوبات الأممية، لانتهاكها حقوق الإنسان في البلاد.
ولا شك أن إماطة اللثام عن جرائم الحرب التي ارتكبتها مرتزقة فاغنر، التي رصدت تقارير غربية كيف أن المرتزقة الروس لا يبدو أنهم يستعدون لمغادرة ليبيا بل ويقيمون خنادق ومعسكرات وتزداد أعدادهم، تكشف عن مدى زيف المزاعم التي يرددها خليفة حفتر بشأن رغبته في إخراج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من البلاد.