استغلّ خليفة حفتر الذكرى السنوية لتأسيس الجيش الليبي، ليؤكد على أن ميليشياته "لن تخضع للسلطة الحالية"، رغم اعترافه بتلك السلطة، فهل يعيد التاريخ نفسه ويكرر حفتر انقلابه على المسار السياسي في ليبيا؟
ورغم أن الليبيين كانوا قد تنفسوا الصعداء أخيراً بعد أن هدأت أصوات المدافع والرصاص منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد التوصل لوقف إطلاق النار بين حكومة الوفاق في طرابلس وعقيلة صالح رئيس البرلمان، ما فتح الباب أمام انطلاق قطار المسار السياسي مجدداً، إلا أن زعيم ميليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر لا يزال مصراً على تكرار مغامراته العسكرية على ما يبدو.
وحتى تكون الصورة واضحة وشاملة، من المهم العودة إلى مغامرة حفتر السابقة عندما قرر الهجوم على طرابلس، مقر الحكومة المعترف بها دولياً، مطلع أبريل/نيسان 2019، وكيف استمرت تلك الحرب أكثر من عام ونصف العام تعرض فيها حفتر لهزائم متكررة أجبرته على التقهقر نحو الشرق والتمترس هناك، انتظاراً لفرصة أخرى يكرر فيها محاولاته للسيطرة على ليبيا بالقوة العسكرية.
حفتر والانقلاب على المسار السياسي
في الوقت الذي قرر فيه حفتر، الذي يطلق على نفسه لقب "القائد العام للجيش الوطني الليبي"، الهجوم على طرابلس، كان هناك مؤتمر وطني برعاية الأمم المتحدة يجري من خلاله التحضير لانتخابات عامة في ليبيا، وكان حفتر نفسه من الموافقين على ذلك المسار والموقعين عليه.
وقبل أن يصل المسار السياسي إلى غايته ويتم إجراء الانتخابات، قرر حفتر المدعوم عسكرياً وسياسياً من الإمارات ومصر وروسيا وفرنسا، أن يضرب عرض الحائط بذلك المسار السياسي، وأن يدفع بميليشياته، التي تضم مرتزقة روساً وأفارقة وغيرهما، نحو طرابلس، ليحقق حلمه ويصبح حاكماً عسكرياً على ليبيا.
وبعد أن فشل حفتر عسكرياً واضطر للرضوخ للأمر الواقع وقبول وقف إطلاق النار، الذي توصل إليه عقيلة صالح وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق السابقة، وبعد أن بدا أن داعمي حفتر قد يئسوا من قدرته على تحقيق وعوده لهم بالسيطرة على كامل التراب الليبي، بدا أن الرجل قد استسلم للأمر الواقع أخيراً، وانطلق المسار السياسي مجدداً.
واتخذ القطار السياسي الجديد برعاية الأمم المتحدة مسارات متعددة، بمشاركة جميع أطراف الصراع الليبي الداخلية والخارجية، تحت مسمى ملتقى الحوار الليبي، وتوصل المشاركون في تلك المناقشات، بعد أشهر طويلة من المفاوضات الشاقة.
وأدت تلك العملية السياسية إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، ومن ثم تسلمت السلطة الجديدة مهامها وبدأت المهمة الأصعب وهي توحيد المؤسسات المنقسمة بين الشرق والغرب، وبالفعل تسلمت حكومة الدبيبة مهام حكومة الوفاق الوطني في الغرب والحكومة الموازية في الشرق، وبدأت الأمور تسير في الاتجاه الصحيح رغم العقبات والتحديات.
ونظرياً، أعلن حفتر، في أكثر من مناسبة، ترحيبه بالسلطة الموحدة الجديدة، لكن على أرض الواقع استمر زعيم الحرب في تجاهل تلك السلطة، بل وتحديها، ولم يفوّت مناسبة إلا واستغلها لتأكيد أنه غير مستعد للتخلي عن طموحه الأساسي، وهو أن يحكم ليبيا بقوة السلاح.
ماذا قال حفتر هذه المرة؟
وكانت آخر تلك المناسبات، الإثنين 9 أغسطس/آب، وهي الذكرى 81 لتأسيس الجيش الليبي، ألقى حفتر كلمة متلفزة خلال حفل أقامه في قاعدة بنينا ببنغازي (عسكرية/شرق) بتلك المناسبة.
وأعلن حفتر (الذي رقى نفسه لرتبة المشير) أن قواته "لن تخضع للسلطة الحالية"، مبرراً ذلك بأنها ستتعامل فقط مع "سلطة ينتخبها الشعب مباشرة". وأوضح الرجل أن قواته "لن تكون خاضعة لأي سلطة إلا السلطة التي سينتخبها الشعب مباشرة".
وأضاف حفتر أن ميليشياته "ستظل صامدة مهما بلغت حنكة الكائدين في الخداع باسم المدنية أو غيرها"، على حد تعبيره. وأكد على أنه "لا نيابة عن الشعب أو وصاية عليه".
وحتى يتم وضع الأمور في نصابها، من المهم أن نذكر هنا ما نص عليه اتفاق تشكيل السلطة الحالية، فيما يتعلق بالجيش الوطني الليبي وقيادته. يتولى المجلس الرئاسي -برئاسة محمد المنفي- منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية، بينما يتولى الدبيبة رئيس الحكومة منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة.
وجاء هذا الاتفاق تحديداً بهدف وحيد، هو تفويت الفرصة على حفتر لإفشال الاتفاق السياسي، وحتى لا يكرر ما قام به في المرة السابقة عندما قال إنه يرفض أن يخضع لسلطة مدنية، ومن ثم انقلابه وهجومه الفاشل على طرابلس.
معركة تكسير العظام بين حفتر والسلطة الجديدة
ومنذ اللحظة الأولى لتولي السلطة الموحدة الجديدة مهامها، كان واضحاً أن حفتر لا يعترف فعلياً بتلك السلطة، ويفرض ما يريده على الأرض بقوة السلاح، فالرجل يصدر مراسيم متعلقة بسير ما يسميها "المؤسسة العسكرية" كترقية قادة عسكريين وتحريك قوات لإغلاق معبر حدودي مع الجزائر، وفي كل مرة يعلن المجلس الرئاسي الليبي بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي رفض تلك القرارات وتأكيد اختصاصه "الأصيل" في ذلك.
وفي هذا السياق، جاء بيان المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، الثلاثاء 10 أغسطس/آب، كرد على ما قاله حفتر، إذ أكد المجس "على ضرورة أن يعمل الجيش تحت سلطة منتخبة وألا يتدخل بالمشهد السياسي".
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، من المهم أن نذكر بياناً آخر في مايو/أيار الماضي، وصف فيه المجلس الأعلى للدولة في ليبيا حفتر بأنه "زعيم "ميليشيا خارجة عن القانون"، وأضاف في نفس البيان بأنه "كلما اقترب الليبيون من التوصل لتسوية سياسية يلوح حفتر بالقوة ولغة السلاح".
جاء ذلك بعد أن كان رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي قد أصدر قراراً بحظر سفر العسكريين أو الحديث لوسائل الإعلام دون إذن منه، في أبريل/نيسان الماضي، لكن خليفة حفتر وضباطه لم يلتزموا بالقرار.
هل اقتربت الكارثة إذن؟
كان أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة متواجداً في طرابلس لوضع اللمسات الأخيرة على مؤتمر دولي كان مقرراً في منتصف أبريل/نيسان 2019، بهدف وضع الترتيبات اللازمة للانتخابات في ليبيا، عندما شن حفتر هجومه الفاشل على طرابلس.
وتوجه غوتيريش وقتها إلى بني غازي، والتقى حفتر محاولاً إقناعه بوقف الهجوم والالتزام بالمسار السياسي لتجنيب الليبيين مزيداً من الدمار وسفك الدماء، لكن محاولته باءت بالفشل، وكتب الأمين العام للأمم المتحدة وقتها تغريدة عبر فيها عن "الأسى والحزن على ما يتعرض له الليبيون".
وفي ذلك الوقت، شنّت وسائل الإعلام الغربية قاطبة حملة عنيفة اتهمت فيها حكوماتها والمجتمع الدولي بالتساهل مع مغامرات حفتر بينما يدفع الليبيون ثمناً باهظاً.
وقالت ماري فيتزجيرالد، الباحثة المتخصصة في الشأن الليبي لوكالة فرانس برس وقتها: "أنْ يشن حفتر عملية عسكرية ضد طرابلس في نفس اليوم الذي وصل فيه غوتيريش (الأمين العام للأمم المتحدة) حاملاً آمال ميلاد جديد للسلام من خلال المؤتمر المقرر، يعتبر خطوة متهورة في الواقع".
وأضافت الباحثة أن حفتر سعى لتقويض المسار السياسي الذي تقوده الأمم المتحدة في ليبيا في جميع مراحل ذلك المسار، مضيفة أن زعيم الحرب "يريد فرض حقائق على الأرض استباقاً لمؤتمر الأمم المتحدة، المقرر منتصف أبريل/نيسان (2019).
وفيما يراه أغلب المراقبين تكراراً لنفس السيناريو، يأتي إعلان حفتر أنه لا يخضع للسلطة الحالية في ليبيا كمؤشر مقلق على ما قد يقدم عليه الرجل الذي كان قد أعلن نفسه حاكماً عسكرياً عاماً على ليبيا، وألغى "الميثاق الوطني الليبي" خلال أبريل/نيسان من العام الماضي، رغم أن تلك الخطوة كانت بداية النهاية لمغامرته العسكرية الفاشلة.
وعلى الرغم من أن حفتر يزعم إصراره على إقامة الانتخابات الرئاسية في ليبيا ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهو ما نصت عليه مخرجات ملتقى الحوار الليبي التي أنتجت السلطة الحالية، فإن حفتر نفسه يمثل العقبة الأساسية على طريق إجراء تلك الانتخابات.
فالرجل يرفض وضع أي قواعد تنظم تلك الانتخابات، ومنها مثلاً حرمان حاملي الجنسية المزدوجة من المشاركة فيها -حفتر وأولاده يحملون الجنسية الأمريكية- كما يرفض إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً، ويريد إجراء الانتخابات الرئاسية، وهو ما يطرح سؤالاً هاماً: ماذا لو أجريت تلك الانتخابات بالفعل وخسرها حفتر حال ترشحه؟
ففي ظل احتمالات ترشح سيف الإسلام القذافي، نجل معمر القذافي الذي عاد للظهور بعد اختفاء سنوات، لا أحد يمكنه التنبؤ بما قد تسفر عنه الانتخابات، إذا ما أجريت بالفعل، فهل سيقبل حفتر الهزيمة ويسلم بالأمر الواقع وقتها؟
حكماً على تصرفات حفتر خلال السنوات الماضية، وبصفة خاصة كل مرة يقترب فيها الليبيون من الانتخابات، يرى كثير من المراقبين الآن أن حفتر ربما يكرر ما فعله من قبل، ويخوض مغامرة عسكرية جديدة يتمنى أن تنجح هذه المرة في فرضه حاكماً عسكرياً على ليبيا بقوة السلاح، والسؤال قد لا يكون: هل يفعلها؟ بل متى يفعلها؟