أظهر حكم أصدرته محكمة أمريكية مواصلة إدارة بايدن معاقبة فاضحي انتهاكات الجيش الأمريكي بدلاً من وقف هذه الانتهاكات خاصة في حرب الطائرات المسيرة الأمريكية.
فلقد حكمت محكمة مدينة ألكساندريا الابتدائية بولاية فيرجينيا يوم الثلاثاء 27 يوليو/تموز على المحلل السابق في استخبارات القوات الجوية، دانييل هيل، بالسجن قرابة أربع سنوات. وقد أدين بهذه التهمة بموجب قانون التجسس لتسريبه وثائق سرية عن عمليات الضربات السرية التي نفذتها إدارة أوباما بالطائرات المسيرة عامي 2014 و2015.
تفاصيل مروّعة لحرب الطائرات المسيّرة الأمريكية
وكشفت الوثائق، التي نشرها موقع The Intercept الأمريكية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، التفاصيل المروعة لحرب الطائرات المسيّرة الأمريكية في الصومال واليمن وأفغانستان، بالإضافة إلى كتيب قواعد يشرح كيف تضيف الحكومة الأمريكية أفراداً إلى قوائمها الخاصة بمراقبة الإرهاب وتحدّد أماكنهم. وفي مارس/آذار، أقر هيل بتهمة خرق قانون التجسس.
وما يبعث على الإحباط استمرار إدارة بايدن في استغلال قانون التجسس لقمع فاضحي المخالفات، خاصة في وقت تشتد فيه الحاجة إلى محاسبة الحكومة وسياسات الأمن القومي، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
فطوال العقدين الماضيين، قوّض ما يُطلق عليه "الحرب على الإرهاب" سيادة القانون ووفر غطاء للسلطة التنفيذية لشن حروب سرية غير دستورية دون عقاب.
ويقول الموقع: "إدانة من يفضحون هذا الظلم واتهامهم بأنهم جواسيس ليس هو الحل، إذ يتعين على الإدارة الأمريكية فتح تحقيق جاد وإجراء إصلاح شامل لسياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية".
أدلة ضعيفة وأعداد كبيرة من المدنيين يقعون ضحايا
وكشفت الوثائق التي سربها هيل أن إدارة أوباما كانت تعتمد على قواعد غير قانونية لاختيار أهدافها وقتلهم، وغالباً ما تستند إلى أدلة ضعيفة تثبت أن الهدف يشكل "تهديداً مستمراً ووشيكاً". وكشفت أيضاً عن مقتل مدنيين خلال هذه الضربات أكثر مما كان يُعتقد سابقاً. وخلال خمسة أشهر من حملة العمليات الخاصة بالطائرات المسيرة في أفغانستان، لم يكن ما يقرب من 90% من القتلى الذين قضوا نحبهم بفعل ضربات جوية أمريكية هم الأهداف المقصودة. وأظهرت تسريبات دانييل هيل للشعب الأمريكي كيف أصبحت حرب أوباما السرية التي شنها بطائرات مسيرة شاملة وغير قانونية.
وكان بايدن، في أول يوم له في منصب الرئيس، قد أوقف العمل بقواعد عهد ترامب التي تحكم الضربات الجوية القاتلة خارج الصراعات المسلحة المعترف بها، والتي كانت تسمح للولايات المتحدة بشن غارات جوية على أي جماعة إرهابية تشكل "تهديداً"، بدرجة "يقين معقولة" فقط (وليس بدرجة "شبه يقينية"، التي لا تزال تنطبق على النساء والأطفال) بأنها لن تؤدي إلى مقتل مدنيين ذكور.
وحتى تعطي إدارة بايدن نفسها وقتاً لإجراء مراجعة دقيقة لقوانينها مستقبلاً، أدخلت سياسة مؤقتة تُلزم البيت الأبيض بالموافقة على شن ضربات خارج سوريا والعراق وأفغانستان. وكان يُتوقع في الأصل إجراء المراجعة في غضون 60 يوماً، ولكنها لم تكتمل بعد.
معاقبة فاضحي انتهاكات الجيش الأمريكي ومعاملتهم كالجواسيس
وتثير قضية دانييل هيل مشكلة عويصة في العلاقة بين المواطنين الأمريكيين والأنشطة اللا قانونية واللا أخلاقية التي تمارسها حكومتهم في الخارج ومنها انتهاكات الجيش الأمريكي وتأتي بنتائج عكسية، حسب التقرير.
إذ أثار الحكم الصادر بحق هيل غضب منظمات حقوق الإنسان والمدافعين عن القانون. وغرّد الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية يوم الثلاثاء بالقول: "دانييل هيل ساعد الشعب في معرفة برنامج فتاك لم يكن ينبغي أبداً أن يظل سراً. ويجب توجيه الشكر إليه وليس إدانته بتهمة الجاسوسية".
ومن الضروري بالطبع أن تكون الحكومة الأمريكية قادرة على حماية أسرارها، لكن قانون التجسس لا يميز بين من يتعمدون الإضرار بالولايات المتحدة وتبادل الأسرار مع الجهات الأجنبية، ومن- مثل هيل- ينشرون معلومات للشعب الأمريكي عن الإجراءات الحكومية غير القانونية التي تهم آلاف الأرواح. ومن يُدانون بموجب هذا القانون لا يتمكنون من مناقشة النوايا في دفاعهم أو تقديم دليل على إتيان الحكومة بتصرفات خاطئة. وبدون تسريب المسؤولين المطلعين للمعلومات، لم يكن الأمريكيون ليعرفوا بعمليات التجسس التي تنفذها وكالة الأمن القومي أو التعذيب في أبوغريب أو المواقع السوداء لوكالة المخابرات المركزية. وتفعيل قانون التجسس بحق المطلعين الذين يسربون هذه المعلومات لا يتفق مع قيم الديمقراطية ولا مع حرية التعبير والصحافة.
حرب الطائرات المسيّرة الأمريكية تدار من مقاعد وثيرة
ويصف هيل في رسالته إلى قاضي المقاطعة الأمريكية ليام أوغرادي، تجربته في تحديد أهداف الطائرات المسيرة، ومتابعته "لمشاهد عنف غرافيكية تُنفذ من مقعد الحاسوب الوثير".
وقال: "اقتنعت بأن سياسة الاغتيال بالطائرات المسيرة تُستخدم لتضليل الشعب وإقناعه بأنها تحافظ على سلامتنا. فبدأت أتحدث، مؤمناً بأن مشاركتي في برنامج الطائرات المسيرة كان خطأً فادحاً".
ومع اقترابنا من الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر/أيلول، يواصل الفرع التنفيذي في الحكومة الأمريكية العمل وفقاً لقواعده التي تكتنفها السرية والتناقضات؛ إذ أمر بايدن بشن غارات جوية على سوريا والعراق الشهر الماضي، وهو ما وصفه خبراء في القانون بأنه انتهاك صارخ للقانون الدستوري والدولي. والأسبوع الماضي فقط، نفذ الجيش الأمريكي ضربة بطائرة مسيّرة في الصومال، رغم رفض البيت الأبيض لطلبات القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا AFRICOM المتكررة لشن غارات جوية في البلاد. ووفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، لم تكن القيادة بحاجة إلى موافقة البيت الأبيض وكان لديها الضوء الأخضر لتنفيذ هذه الضربات في إطار "الدفاع الجماعي عن النفس". وهذا يدعو إلى التساؤل عن وضع بايدن معايير جديدة لضربات الطائرات المسيرة في يناير/كانون الثاني. وإذا كانت متطلبات الموافقة الحالية على هذه الضربات تحوي ثغرات، فكيف نعرف أن سياسة بايدن مستقبلاً ستضمن فرض لوائح أشد صرامة؟.
لكن إدارة بايدن نفذت بعض الخطوات لإنهاء حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول؛ إذ أفرجت الأسبوع الماضي عن معتقل غوانتانامو عبداللطيف ناصر، الذي احتُجز لمدة 19 عاماً دون تهمة، وعاد إلى وطنه المغرب. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إن هذه الخطوة كانت الأولى في عملية شاملة لتقليص عدد المحتجزين في غوانتانامو، وإغلاق المعتقل في النهاية. وأعلنت الإدارة أيضاً دعمها لتمرير قانون H.R. 246، الذي سيلغي قانون السماح باستخدام القوة العسكرية AUMF للعام 2002. والتزم بايدن، بالطبع، بالانسحاب من أفغانستان، رغم أنه من المرجح أن يواصل الجيش تنفيذ ضربات جوية هناك.
ويقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي: "نأمل أن تؤدي هذه التغييرات في السياسة إلى الحد من بعض الضرر الذي ألحقته "الحرب على الإرهاب" بالقانون الأمريكي والحريات المدنية. ولكن يتعين على الإدارة أيضاً اتخاذ إجراءات لاستعادة الشفافية والمحاسبة. ومثلما أوضح ستيف سيمون من معهد كوينسي في تقريره عن إنهاء "الحرب على الإرهاب"، لا بد من الحد من هجمات الضربات الجوية بشكل ملحوظ. وحين تنتهي الإدارة من مراجعة سياسات ضربات الطائرات المسيرة، يتعين عليها الالتزام بمعايير أكثر صرامة فيما يخص الضربات المسموح بها، ورفع حدود استخدام القوة خارج النزاع المسلح، ووضع حد لتطبيع الحرب السرية.
إن من حق الشعب الأمريكي معرفة المزيد عن الحروب التي تشنها حكومته في الخارج. ويتعين على بايدن العمل على زيادة الشفافية قدر الإمكان، دون المساس بالأمن القومي الحيوي. وأخيراً، لا بد أن تتوقف الإدارة الأمريكية عن إدانة فاضحي المخالفات بموجب قانون التجسس لتحاشي الظلم والفوضى.