مرت على ذهني كل صور سورية قبل الحرب عندما كنت بصدد مشاهدة فرقة تبدع في تقديم وصلات موسيقية تبرز جمال الموروث السوري، كانت كل عيون العازفين مليئة بالفخر والامتنان والانتماء، لكن السؤال الذي جال بخاطري حينها: الانتماء إلى ماذا بالتحديد، وهل ظل شيء ما ينتمي إليه هذا الشعب بعد الخراب المروّع والسنوات التي طمست كل المعالم التاريخية؟
عند التأمل في تاريخ الإنسانية نرى أن الفن هو الشيء الوحيد الذي كان ينتشل الأمم بعد كل المآسي والحروب؛ حيث إنه يرسِّخ من جديد حقوق الإنسان الذي يأتي في مقدمتها الحق في العيش الكريم؛ الفن إجمالاً والموسيقى بالتحديد بالألحان والكلمات التي تلامس الروح وتحاول الارتقاء وفرض السلام في كل أنحاء العالم.
لقد أصبحت أؤمن بأن البوصلة الوحيدة التي ستحافظ على اتجاه التاريخ وأي حضارة هي الذاكرة الشعبية، والتي نبنيها بتداول التفاصيل اليومية؛ حيث تكمن جمالية الحياة وخاصية كل شعب، أعني هنا ما يميز شعباً عن آخر وما يخلق تنوعاً وتعدداً، ويجعل البعث البشري من جديد مرغوباً وتاريخ الإنسانية بأحقابها ملهماً. الذاكرة الشعبية هي الشاهد الحقيقي على الحضارة؛ لأن قوتها تكمن في بساطة تلك الحكايات والأساطير التي نسمعها قبل النوم، هي تلك الأغاني التي تحكي قصصاً بالألوان والتي لا نعرف مصدرها فنكتفي بقول إنها من الذاكرة والموروث.
كم مرة أسعفتنا هذه الذاكرة، التي أقول إن السبيل الوحيد لحفظ مصداقية تاريخ سورية هو الحفاظ عليها وليس تاريخ سورية فقط، بل تاريخ الإنسانية والحضارات، لأن الموضوع هنا كوكبي عالمي لا يعترف بالحدود، وهنا تكمن قوة الموسيقى كونها حرة، وعندما نلجأ إليها تعلمنا الحرية وبها نجوب رحاب العالم بدون جواز سفر.
إن قيمة الإبداع والفن، رغم الحروب، هي الطريق الوحيد لترميم الموروث ولحفظ مصداقية التاريخ وعظمة ما قد خلد. إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق، ولهذا السبب بالتحديد أرى أهمية الإعلاء من قيمة الذاكرة الشعبية، لأنها السبيل الوحيد لنغوص في باطن التاريخ وننظر بعيون المعاصرين له ونحقق بأذن من سمع.
لا يوجد شيء بعد الحرب ولا قبلها، لأن الحروب خارجة عن التقويم التاريخي، هي فقط مجرد وعكة ستمر، لكن توجد سورية دائما ولا يوجد قبل الشام ولا بعدها لأنها هي أم البدايات وأم النهايات.
لقد كانت تلك الوصلة بالنسبة لي أملاً في ظل كل هذا الألم والملل الجارف، وأستطيع القول بأنني تجوّلت في أزقة الشام وأنا قابعة في تونس؛ ولهذا السبب بالتحديد أقول بأننا يجب أن نسعف الذاكرة من النسيان، والسبيل الوحيد لفعل هذا هو أن نكتب القصص الجميلة وأن نتداولها، أن نطبخ دوماً الأكلات الشعبية، أن نحافظ على الأعياد، خاصة وأن تصدح الحناجر بالغناء، وأن نعلم أطفالنا هذا أيضاً لأن الأشرار لا يغنون أبداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.