أدوية بيروت في الكونغو.. كيف أدى إصرار الحكومة اللبنانية على تثبيت سعر السلع الأساسية لتفاقم الأزمة؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2021/07/25 الساعة 20:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/25 الساعة 20:04 بتوقيت غرينتش
زحام على محطات الوقود في لبنان/رويترز

"أدوية مرضى السرطان اللبنانية تباع في الكونغو"، تبدو هذه واحدة من نتائج الأزمة الاقتصادية اللبنانية التي وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ 150 عاماً.

ورغم أن هناك أسباباً عديدة وراء الأزمة الاقتصادية اللبنانية، ولكن ما لم يتم التركيز عليه أن من أهم أسباب تفاقم الأزمة إصرار الحكومة على تجاهل الأمر الواقع عبر تثبيتها سعر الصرف لأسعار العديد من السلع بهدف حماية السكان؛ الأمر الذي أدى إلى خلق سوداء واسعة وتهريب هذه السلع إلى الخارج، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Spectator البريطانية.

رغم الأزمة الاقتصادية اللبنانية الوقود انخفضت أسعاره

على الطريق السريع المؤدي إلى بيروت، يقف طابور من السيارات المصطفة من أجل البنزين يتجاوز طوله ثلاثة كيلومترات. 

وعلى امتداد الطريق، ترى السائقين في كل ركنٍ يسيل عرقهم وترتفع أصواتهم بالشتائم وشكوى الانتظار في هذا الحر الشديد. نفد الوقود لدى البعض في أثناء انتظارهم، واضطروا إلى دفع سياراتهم مع تقدم الطابور الزاحف إلى الأمام. وكان هناك آخرون اضطروا إلى العمل على أجهزة الكمبيوتر المحمولة من سياراتهم؛ لأن انتظارهم على الأغلب سيستمر طوال اليوم. طوابير البنزين أشبه بالحقيقة اليومية للمعيشة في لبنان، لكن ما نشهده هذه المرة شيء آخر.

أزمة الوقود الحالية ليست إلا إحدى العلامات على الأزمة الاقتصادية اللبنانية التي أدت إلى خسارة الليرة 59% من قيمتها على مدى الأشهر الثمانية عشرة الماضية. يعني ذلك في أغلب الأحيان ارتفاع الأسعار. 

لكن في أحيان أخرى- وبسبب العواقب غير المقصودة لتدخل الحكومة في السوق- يعني ذلك هبوط الأسعار الحقيقية ونقص السلع مثل الوقود.

في هذا السياق، يبدو نقص الوقود مكاناً مناسباً للبدء في محاولةِ فهم الجنون المطلق الذي يهيمن على بلد عندما لا يمكن لمواطنيه الثقة بعُملتهم وأموالهم بعد الآن. يشتري لك الدولار حالياً ما يزيد قليلاً على 22 ألف ليرة لبنانية في السوق السوداء، وهو ما يقرب من 15 ضعف السعر الرسمي البالغ 1500 ليرة. ومع ذلك، لا تزال الحكومة تستخدم السعر الرسمي في احتساب بعض الأسعار للسلع ذات الأهمية. 

كان ملء خزان وقود السيارة يُكلف نحو 60 ألف ليرة، أو 40 دولاراً، أما الآن، فيُكلف نحو 120 ألف ليرة بسبب وجود ضوابط على أسعار الوقود، لكن ذلك المبلغ من الليرات يكلفك نحو 5 دولارات بدلاً من خمسة دولارات في السابق. 

ولكن إذا لم تكن تفي بسداد حصتك حسب السعر، فإنك تسددها بالانتظار، والنتيجة هي الفوضى. يتعين على الحكومة دعم الواردات، لكنها في الوقت ذاته، تستنزف العملة الصعبة، ومن ثم تقل السلع الواردة إلى البلاد شيئاً فشيئاً، وتُغلق المزيد من محطات البنزين، وتتفاقم طوابير الانتظار.

دواء السرطان انخفض من 300 ألف دولار إلى 20 ألف دولار

الأدوية هي سلعة أخرى تتشبث حيالها الحكومة بالوهم القائل إن العملة تساوي أضعاف قيمتها الحقيقية، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية.

شح الأدوية جعل أصحاب الصيدليات مضطرين إلى رد أشخاص يُدركون أنهم بحكم الموتى إذا لم يحصلوا على الأدوية المكتوبة في وصفاتهم الطبية. كان الناس يبكون ويتوسلون ويصرخون، لكن لا شيء لفعله. يقول أحد طلاب الصيدلة، إنه يعتزم الفرار من لبنان. وربما يفعل 70 من 75 طالباً في دفعته الشيء نفسه، ويشتكي قائلاً: "لا أستطيع العيش في بلدٍ هذا حاله".

أحد الأسباب الأخرى التي تفاقم شح الوقود هو تهريب العصابات الإجرامية له من لبنان. أورد التلفزيون المحلي أن أحد أدوية القلب التي بات يستحيل العثور عليها حالياً في لبنان ظهرَ في الكونغو، وما يزال يحمل الملصق الخاص بصيدلية لبنانية، حسب The Spectator

كما كشفت أدوية السرطان عن قدرٍ هائل من الأرباح التي يمكن تحقيقها في أوقات الشح. فالأدوية التي تحتاج إليها السيدة المصابة بسرطان الثدي تكلف عادة نحو 300 ألف دولار من الشركات المصنعة الأمريكية، الآن يمكنها شراؤها بنحو 20 ألف دولار، ومع حساب السعر الرسمي بـ1500 ليرة لبنانية للدولار، لكن في السوق السوداء بأكثر من 10 أضعاف هذا السعر، ستدفع نحو 100 مليون ليرة، وسيجعلها ذلك أحد القلائل الذين يستفيدون من الانهيار الاقتصادي في لبنان ما دامت الدولارات متوفرة (لكن ذلك لا يضمن لها أن تكون أدويتها متاحة في المرة القادمة التي تحاول فيها شراءها).

عانى معظم اللبنانيين انخفاضاً في رواتبهم أكثر فأكثر عن الأسعار التي يبدو أنها ترتفع كل يوم تقريباً. 

ويقول تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن 30% من الأطفال اللبنانيين باتوا مجبرين على التخلي عن بعض وجبات طعامهم والنوم جائعين، وفي الوقت نفسه فإن أكثر من ثلاثة أرباع الأسر ليس لديها ما يكفي من الطعام. وفي بيروت، يمكنك أن ترى مجموعات من الأطفال المتسولين- يعانون النحافة ويلبسون خرقاً بالية- تتداعى على نوافذ السيارات عند إشارات المرور.

الأزمة الاقتصادية اللبنانية
لبنان يعاني أزمة غذائية حادة/رويترز

عندما تكون الأمور بهذا السوء، يلح عليك التساؤل: إلى متى يمكن لمؤسسات الدولة، وربما الدولة نفسها، أن تستمر. 

خلال العام الماضي، استبعد الجيش اللبناني اللحوم من وجبات الطعام المخصصة للجنود في الخدمة. وتوسل رئيس أركان الجيش، العماد جوزيف عون، الحكومات الأجنبية لإرسال الطعام حتى يتمكن، كما قال في أحد خطاباته "الجيش من الوقوف على قدميه". 

وبات الجيش في أمسّ الحاجة إلى المال لدرجة أنه بدأ في تأجير مروحياته للسائحين بمبلغ 150 دولاراً، وهو المبلغ الذي يوازي، بعد تحويله إلى الليرة بسعر السوق غير الرسمي، ضعف الراتب الشهري للجندي العادي في الخدمة تقريباً.

إبقاء سعر العملة مرتفعاً جزء من أسباب الأزمة الاقتصادية اللبنانية

وقع لبنان في هذا الوضع جزئياً لأن البنك المركزي أبقى على قيمة العملة مرتفعة إلى حد كبير. وقد نجح ذلك، لزمنٍ ما، لأن ملايين اللبنانيين في الخارج ظلوا يرسلون الدولارات إلى الوطن لإيداعها في البنوك. 

وبعض هذه المبالغ كان يذهب إلى البنك المركزي، الذي استخدمها لدعم الليرة في أسواق العملات. لكن ذلك تضمن أيضاً حصول المصرفيين على مكافآت بعشرات الملايين من الدولارات، وحصول المودعين على أسعار فائدة مرتفعة على نحو يثير الريبة، بتمويلٍ من مطابع البنك المركزي.

كان كل شيء يبدو على ما يرام حتى بدأ المتوفر من الدولارات القادمة من الخارج في الانخفاض. حدث ذلك ببطء في البداية، على أثر الظروف الاقتصادية العالمية السيئة، لكن الأزمة تسارعت لاحقاً، بسبب الوباء ثم انفجار مرفأ بيروت الذي دمَّر أجزاء كبيرة من العاصمة. كانت النتيجة الحتمية انهيارَ مخطط بونزي، "فقاعة المضاربة" واضطرار البنوك إلى الإغلاق، فيما المودعون الغاضبون يقرعون الأبواب للحصول على أموالهم.

مع ذلك، وبعد ثمانية عشر شهراً من الانهيار الاقتصادي الحاد، لم يُحاسب أحد، ولم يتنحَّ أحد: لا محافظ البنك المركزي، ولا رؤساء البنوك، ولا السياسيون. 

والواقع أن كل اللبنانيين تقريباً متواطئون بدرجة ما في هذه الكارثة: فالليرة ذات القيمة المبالغ فيها كانت ذات صيت عالمي، وقد جعلت جميع المتعاملين معها يشعرون بأنهم أكثر ثراء مما كانوا عليه في الواقع، وعن طريقها استطاعوا شراء السيارات الألمانية واستئجار الخادمات الإثيوبيات. 

لكن الوضع الآن، أن الحكومة اللبنانية مشلولة وعاجزة عن القيام بما يجب القيام به. يقول أحد كبار المصرفيين إن الطبقة السياسية ستنفق حتى آخر دولار في البنك المركزي وكل الذهب أيضاً قبل أن تلجأ إلى خيار إنهاء الدعم: "إنهم يعلمون أنهم سيُقتلون إذا لم يفعلوا ذلك"، على حد تعبيره.

من جهة أخرى، فإن الأزمات في لبنان لطالما كان لديها نمط من الانحدار المتسارع إلى نزاعات طائفية. وسبق أن وردت تقارير عن قيام ميليشيات بحراسة محطات الوقود في المناطق التي يسيطرون عليها. لا أحد يعرف إذا كانت الأمور ستتدهور إلى حرب أهلية أخرى، فهذا أمر يرجع إلى التاريخ المأساوي للبلاد والسياسات التي تعانيها حالياً. 

تقول مجلة The Spectator البريطانية: "لكن ما يحدث في لبنان الآن يقدم دروساً عالمية يتعذر تجاهلها للاقتصادات الغربية المنهمكة في طباعة النقود للتعامل مع الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا. ويوضح الوضع في لبنان حالياً مآل الأمور عندما تتخلى الحكومات عما يراه البعض عملاً مملاً ويستغرق وقتاً طويلاً، على الرغم من أهميته التي لا تخفى، لضمان المسارات السليمة لتوفير الأموال. والشاهد أن لبنان يدق أجراس الإنذار لنا جميعاً.

تحميل المزيد