أصبح الربط بين المساعدات الأمريكية لمصر وملف حقوق الإنسان واحدة من الحلقات المتكررة والأكثر إثارة للجدل في العلاقات بين البلدين.
وأطلقت السلطات الأمنية في مصر، الأحد 18 يوليو/تموز 2021، سراح 6 صحفيين وناشطين على ذمة التحقيقات، وسط احتفاء من معارضين بهذه الخطوة، وذلك بعد أيام قليلة من انتقادات أمريكية لملف حقوق الإنسان في مصر.
ولكن تقريراً لمجلة Foreign Affairs الأمريكية انتقد نهج واشنطن في الربط بين المساعدات الأمريكية لمصر وملف حقوق الإنسان، معتبراً أن هذا النهج جاء بنتيجة عكسية.
بايدن يغير مواقفه بشأن المساعدات الأمريكية لمصر
وأشارت المجلة الأمريكية إلى تعهُّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، في الأيام الأولى لحملته في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، بمراجعة علاقات واشنطن مع الحكومات الاستبدادية.
وفي تغريدة صريحة غير اعتيادية على تويتر في يوليو/تموز الماضي، خص بايدن، الذي كان مرشحاً حينها، أحد أكثر الحكام استبدادية في العالم، الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بالذكر، حسب وصف تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
إذ تعهد بايدن آنذاك بالكف عن منح المزيد مما وصفه بـ"الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل"، على أن العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر ظلت على وضعها حتى الآن.
الأسلحة ما زالت تتدفق
طمأن تدفق المساعدات الأمريكية لمصر منذ عقود- مساعدات عسكرية بأكثر من 50 مليار دولار، إضافة إلى 30 مليار دولار أخرى من المساعدات الاقتصادية منذ عام 1978- قادة مصر بأنهم يملكون شيئاً يرى الحكام الطغاة أنه أثمن بكثير من أكثر المعدات العسكرية تقدماً: الدعم السياسي من الولايات المتحدة.
إذ تقول المجلة الأمريكية إن "التدفق المستمر للأموال إلى خزائنهم يبعث برسالة مهمة إلى المصريين العاديين أيضاً: مهما كان التعذيب أو الإرهاب الذي يقاسونه على أيدي الدولة، فالولايات المتحدة ماضية في دعم حكومتهم، وباستثناء بيانات القلق الشديد التي تصدرها واشنطن في بعض الأحيان، فهي لن تفعل شيئاً لإنهاء دعمها لمن يسيئون إليهم".
ترى المجلة أنه بالنسبة للولايات للمتحدة، فهذه المشكلة ليست أخلاقية فحسب، بل قانونية أيضاً: فمساهمتها في انتهاكات حقوق الإنسان انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الأمريكي نفسه. فعكس "قوانين ليهي" التي تقيّد المساعدة العسكرية الأمريكية لوحدات عسكرية معينة ثبت ارتكابها انتهاكات تقييداً محدوداً، لا تميز المادة 502B من قانون المساعدات الخارجية الأمريكي بين أقسام الحكومات التي تدعمها واشنطن. فإذا ارتكبت إحدى الحكومات انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فينص القانون على أن تتوقف كل المساعدات الأمنية المقدمة لها من الولايات المتحدة. لكن المادة 502B لم يسبق أن طُبّقت لحظر إمدادات الأسلحة للحكومات المخالفة؛ وهذا يقتضي أن يقدم الرئيس الأمريكي إخطاراً كتابياً إلى الكونغرس بـ"ظروف استثنائية"؛ لتبرير إمداد دولة أثبتت وزارة الخارجية الأمريكية أنها ترتكب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان بالأسلحة.
لكن الإدارات الديمقراطية والجمهورية على السواء تجاهلت هذا القانون. ولدى سؤال وزارة الخارجية الأمريكية عن هذا الأمر عام 2014، قالت إنه لم يسبق أن عملت بالمادة 502B، لأنها "فضفاضة للغاية".
وتقول المجلة الأمريكية مستدركةً: "لكن إن كانت توجد حالة يتوجب فيها على إدارة بايدن أن تؤدي عملها، فهي الحالة المصرية. فتقديم الولايات المتحدة الدعم العسكري لحكومة تنتشر انتهاكاتها بشكل ممنهج وواسع النطاق مثل الحكومة المصرية، يورطها لا محالة في جرائم حكومة السيسي. ولم يعد ممكناً التظاهر بأن المساعدات الأمريكية لا تساهم بدور كبير في دعم نظام دكتاتوري، حسب وصفها.
هل نجحت محاولات رهن المساعدات الأمريكية بشروط في مجال حقوق الإنسان؟
يحاول أعضاء الكونغرس منذ عقود، رهن المساعدات الأمريكية لمصر بشرط اتخاذ الحكومة المصرية إجراءات محددة لدعم حقوق الإنسان، مثل تعديل أحد القوانين القمعية، أو إطلاق سراح مجموعة من السجناء السياسيين. ولكن نظراً إلى أن هذه المساعي- التي يقترحها عادةً أعضاء في الكونغرس يطالبون وزارة الخارجية الأمريكية بـ"الضغط" على مصر- تستند إلى الافتراض الخاطئ بأن المساعدات الأمريكية ستستمر ويجب أن تستمر، ينتهي بها المطاف بتبرير استمرار الدعم لمصر دون تحقيق أي إصلاحات جادة.
ومثله مثل كل الحكام المستبدين في المنطقة، يرى السيسي أن مزيداً من الحريات يعني زيادة خطر إطاحته. ولهذا لن يمتثل الرئيس المصري أبداً لأي مطالبات بتنفيذ إصلاحات جادة. وإذا اضطر إلى الاختيار بين خسارة المساعدات العسكرية الأمريكية وتخفيف قبضته، فسيختار دوماً التنازل عن المساعدات.
وحالياً يرث بايدن حزمة المساعدات الأمريكية لمصر لعام 2022 والتي تتضمن، لأول مرة، شرطاً "ثابتاً" فرضه الكونغرس، يرهن 75 مليون دولار من المساعدات المقدمة لمصر بـ"تقدُّم واضح وثابت في إطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح للمحتجزين باتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة".
وهذا المبلغ يمثل أقل من 5% من حزمة المساعدات الأمريكية لمصر والتي يبلغ قدرها 1.3 مليار دولار لعام 2022؛ وتوجد 225 مليون دولار أخرى مرهونة بشروط ولكن يُتوقع أن يصدر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إعفاءً في أغسطس/آب المقبل، من الشروط الخاصة بالمساعدة المشروطة البالغ حجمها 300 مليون دولار لعام 2021.
ولطالما أعطت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الأولوية لإطلاق سراح المصريين الأمريكيين والناشطين الحقوقيين المصريين، ونجحت في تأمين إطلاق سراح مواطنين أمريكيين بعد سنوات من التعذيب والسجن.
وفي واحدة من الحالات الشهيرة، فشلت التهديدات المتكررة بتعليق المساعدات وحتى المناشدات الشخصية من نائب الرئيس السابق، مايك بنس، في تأمين الإفراج عن مصطفى قاسم، المصري الأمريكي الذي احتُجز لستِّ سنوات ولقي مصرعه بالسجن في يناير/كانون الثاني عام 2020. ومع كل نجاح في إطلاق سراح النشطاء، يُقْدِم السيسي على اعتقال عدة سجناء آخرين، بينهم أفراد عائلات نشطاء مصريين أمريكيين. وهم بمثابة أوراق ثمينة تُدَّخر للجولة التالية من مطالب الإصلاح، حسب المجلة الأمريكية.
مصر تفتح أجواءها ومياهها للتحركات العسكرية الأمريكية
دائماً ما يظهر عدد من الاعتراضات رداً على أي اقتراح بوقف المساعدات الأمريكية لمصر. وهي تنبع من الشعارات القديمة عن المصالح الأمنية الأمريكية التي نتج عنها نهج انهزامي ومؤذٍ ومحدود الخيال، حسب تعبير المجلة.
إذ فشلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تجديد العلاقة مع مصر بطريقة تعكس المصالح الاستراتيجية والأمنية لواشنطن في الوقت الحاضر.
وترى مجلة Foreign Affairs أن الشعب الأمريكي سيؤيد توقُّف حكومته عن إمداد طغاة الشرق الأوسط بالأسلحة. وهذا ما دفع بايدن إلى التركيز على هذا الوعد في حملته. وترى المجلة أن بايدن أمامه الآن فرصة لتوجيه العلاقات مع مصر بحيث تتماشى مع المصالح الوطنية الفعلية للولايات المتحدة.
تشير المجلة إلى أنه من المبررات المألوفة للإبقاء على المساعدات الأمريكية لمصر الإذنُ المميز الذي تقدمه مصر للسفن الحربية الأمريكية التي تمر عبر قناة السويس وحقوق تحليق الطائرات العسكرية الأمريكية في المجال الجوي المصري والتي توفرها القاهرة لواشنطن. ولكن إذا كانت هذه المميزات مهمة للجيش الأمريكي، فبإمكان واشنطن عندئذٍ، ويجب عليها، أن تدفع ثمنها وفقاً لنظام تسعير محدد، لا يزيد على الأسعار التي تفرضها مصر على البحرية الأمريكية والدول والشركات الأخرى عن كل سفينة تمر عبر قناة السويس. ومن الضروري أن تتعامل إدارة بايدن مع شراء هذه الميزات على أنها صفقة لا أكثر من ذلك. وإذا لم تتمكن الحكومتان من التوصل إلى اتفاق على السعر، فإن الولايات المتحدة لم تفقد كل شيء، فالطرق البحرية والجوية البديلة متوافرة، حتى وإن كانت أكثر تكلفة وتستغرق وقتاً أطول. وتنويع طرق الشحن البحري والطيران الجوي قرار حكيم من الناحية الاستراتيجية أيضاً، مثلما تبين من أزمة انسداد قناة السويس الأخيرة.
هل أدت المساعدات إلى منع مصر من التقارب مع روسيا والصين؟
ويلفت المدافعون عن الوضع الراهن أيضاً إلى أن مصر ستسعى إلى الاعتماد على دعم الصين وروسيا بدلاً من رعاية الولايات المتحدة. وهذا يؤدي إلى الافتراض الخاطئ بأن المساعدات الأمريكية تحدُّ من تعاملات مصر مع خصوم الولايات المتحدة وتضمن ولاء القاهرة في شراء الأسلحة. لكن مصر نوَّعت مصادر أسلحتها بالفعل. فلم تعِد الولايات المتحدة الموردَ الرئيسي للأسلحة المصرية. إذ تشتري مصر الآن 15% فقط من أسلحتها من الولايات المتحدة، بعد أن كانت بنسبة 47% عام 2010.
تقول Foreign Affairs إن إنهاء المساعدات الأمريكية لمصر، سواء العسكرية أو الاقتصادية، لا يعني إنهاء العلاقة تماماً.
فلا يوجد سبب يمنع البلدين من الاستمرار في متابعة الشراكات ذات المنفعة المتبادلة، مثل التعاون في مكافحة الإرهاب، أو التنسيق فيما يخص الصراعات بالمنطقة، مثل استضافة مصر مباحثات وقف إطلاق النار الأخير في غزة. ولا يوجد أيضاً سبب يمنع الولايات المتحدة من الاستمرار في متابعة الصفقات التجارية وتشجيع الاستثمار في مصر أو تبادل برامج تعليمية وثقافية.
ولا عجب في أن أكبر المؤيدين لاستمرار المساعدات هم من يستفيدون منها: الحكومة المصرية وشركات الأسلحة الأمريكية، مثل Raytheon وLockheed Martin، اللتين تصنّعان منظومات الأسلحة التي تشتريها القاهرة بالأموال التي ترسلها واشنطن في طريقها. ويتعين على إدارة بايدن التوقف عن السماح لتلك المصالح الخاصة، بتحديد السياسة الأمريكية. والمساعدات الأمريكية لمصر مفارقة تاريخية مُضرة، وحان الوقت لتجاوزها.