حين صدم تنظيم القاعدة مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بالطائرات عام 2001، أصبح واضحاً أنَّ الولايات المتحدة ستنتقم من خلال الإطاحة بحركة طالبان، التي استضافت أسامة بن لادن وسمحت لتنظيم القاعدة بتأسيس مقره في أفغانستان خلال سنوات حكمها للبلاد بين الأعوام 1996-2021.
وحول ذلك، يروي في هذا التقرير باتريك كوكبيرن، مراسل الشؤون الدولية بصحيفة The Independent البريطانية، رحلته في أفغانستان خلال العام الأول للحرب، وما خلّفه الغزو الغربي من آثار على الأفغانيين وحياتهم، الذين لم تفارقهم الحرب منذ 40 عاماً بسبب الغزو السوفييتي وسنوات الاقتتال الداخلي التي تلتها.
الحروب أعادت الأفغان إلى العصور الوسطى
يقول كوكبيرن، سافرتُ من موسكو إلى دوشنبه، عاصمة طاجيكستان، على أمل عبور نهر آمو داريا وصولاً إلى شمال شرقي أفغانستان، الذي كان يخضع لسيطرة "التحالف الشمالي" المناهض لطالبان. رفضت السلطات الطاجيكية ذلك، فأعددتُ خططاً حالمة لكن غير عملية لعبور النهر بصورة غير شرعية، وخضتُ رحلة طويلة عبر جبال هندو كوش، وصولاً إلى وادي بنجشير شمالي كابول، حيث أمضيتُ الأسابيع العشرة التالية.
ويُعتَبَر وادي بنجشير واحداً من أعظم الحصون الطبيعية التي تسودها الجبال التي تصعب السيطرة عليها من أي من حافتيه المليئة بالحقول الخضراء المُورِقة. وتتمتع المنطقة الواقعة على بُعد 90 ميلاً (145 كيلومتراً) شمالي كابول بقيمة استراتيجية لأي طرف يسيطر عليها، لأنَّها تشير للعاصمة كالسهم. ونتيجة لذلك، كانت مسرحاً لمعارك كثيرة منذ الغزو السوفييتي لأفغانستان دعماً للحكومة الشيوعية عام 1979.
لم يُزِل أحدٌ أنقاض الحرب التي خلَّفها القتال آنذاك أو في السنوات التالية، ولذلك كان الوادي عند وصولي أشبه بمتحف مفتوح يُظهِر بعضاً من الأحداث الرئيسية في تاريخ أفغانستان الحديث.
وفيما يتعلق بالحياة اليومية، عاد الأفغان إلى العصور الوسطى، فلم تكن هناك كهرباء بخلاف تلك التي توفرها مولدات صغيرة، ولم يجرِ استبدال الجسور المُفجَّرة إلا أحياناً وبهياكل خشبية متهالكة.
كان "التحالف الشمالي" يملك مقراً في قرية جبل سراج عند مدخل بنجشير، وقد حاولت طالبان السيطرة عليه بلا جدوى أثناء قتالها مع أمراء الحرب. وهؤلاء هم قادة سابقون في المقاومة المناهضة للشيوعية، لكنَّهم لا يختلفون كثيراً عن قُطَّاع الطرق.
ويوجد عند مدخل القرية نصب تذكاري غير معتاد لهزيمة طالبان على شكل 12 عربة مدرعة مأسورة من طالبان، وُضِعَت إحداها فوق الأخرى لتُشكِّل نقطة عبور في وادٍ عميق.
الحرب المحيّرة في أفغانستان
يروي الصحفي كوكبيرن مشاهداته قائلاً: كان خط الجبهة مع طالبان يمر عبر مطار باغرام، الذي سرعان ما أصبح مقراً عسكرياً ومركزاً لوجستياً أمريكياً، وأُخلي أخيراً نهاية الأسبوع الماضي. وكما هو الحال في معظم أفغانستان، كانت هناك هدنة بحكم الأمر الواقع حين كنتُ هناك، وغالباً ما كان المقاتلون يزرعون نباتات الغرنوقي قرب خنادقهم، في إشارة إلى أنَّه لم يكن هناك الكثير من الأحداث، وتقديراً لحب الأفغان للزهور.
لم يكن قادة التحالف الشمالي يعتزمون خوض الكثير من القتال إن كان سلاح الجو الأمريكي بإمكانه تمهيد الطريق أمامهم، وكان هذا يتماشى مع طبيعة الحرب في أفغانستان، التي يجدها الأجانب مُحيِّرة. فالقتال الشرس تعقبه فترات طويلة من الهدوء، والتقدمات والانسحابات السريعة غالباً ما تكون نتيجة تغيير الموالين لانتماءاتهم أو التوصل إلى تسوية بين الأعداء أكثر من كونها ثمرة للعمل العسكري.
يقول المثل الأفغاني الساخر: "لا يخسر الأفغان حرباً أبداً، لأنَّهم دوماً يغيرون انتماءهم (للطرف الأقرب للانتصار) قبل نهاية الحرب". ويمكن أن يكون لهذا التغيير غير المتوقع للولاءات تداعيات دموية.
فإلى الشمال من وادي بنجشير يقع نفق سالانج، وهو الطريق الوحيد الملائم لكافة أشكال الطقس عبوراً بجبال هندو كوش ويربط شمال البلاد بجنوبها. تظاهر أحد أمراء الحرب الذين يحرسونه في أواخر التسعينيات بالانضمام لطالبان، وحين أسرع الآلاف من مقاتلي الحركة لعبوره فجَّر النفق خلفهم، ما أدَّى إلى مذبحة لقوات طالبان المحاصرة.
كان القصف الجوي الأمريكي مثيراً حين بدأ في أكتوبر/تشرين الأول 2001. فكنتُ أشاهد أعمدة النار في الأفق، بينما كانت القنابل والصواريخ تنفجر في خطوط طالبان الأمامية، وتتصاعد أشعة من النيران المضادة للطائرات غير الفعالة من أرجاء كابول. واستولى "التحالف الشمالي" المدعوم أمريكياً على العاصمة كابول دون مقاومة بعد بضعة أسابيع.
كان الانطباع السائد هو قوة أمريكية ماحقة مقابل معارضة أفغانية واهية، لكنَّ هذا كان مضللاً للغاية، إذ خسرت طالبان الحرب بالتأكيد، وعاد معظم مقاتليها إلى قراهم أو عبروا الحدود إلى باكستان، التي واصلت منحهم دعماً كاملاً، وإن كان خفياً.
يستكمل كوكبيرن حديثه فيقول: تبِعتُ حركة طالبان جنوباً من كابول إلى قندهار. وفي قندهار ظلَّ رجل من السكان المحليين يطلب مني الاستعانة به ليكون مرشداً لي، وكي أتخلص منه، قلتُ إنَّني أرغب في مقابلة قادة طالبان المحليين والتحدث مع المزارعين الذين يزرعون الأفيون، ظننتُ أنَّ ذّلك سيستغرق في أفضل الأحوال بضعة أيام حتى تنتهي الترتيبات، لكنَّ المرشد قال إنَّه بالإمكان أن نذهب على الفور إلى قريته.
التقينا مزارعي الأفيون أولاً، الذين قالوا إنَّهم اضطروا لاقتلاع الخضراوات التي أصرَّت طالبان على زراعتها بدلاً من خشخاش الأفيون. وقالوا إنَّ الأفيون وحده يمكِّنهم من جني ما يكفي من المال للعيش.
وبعد وقتٍ قصير، اقتحم قادة طالبان المحليون مبنى كان بمثابة مقر للقرية، بدا مقاتلو طالبان وكأنَّهم لم يتعرضوا للهزيمة، وقد أوضحوا لي أنَّه إذا لم يعاملهم النظام الجديد في أفغانستان جيداً سيعودون للحرب.
"طالبان ستواجه صعوبة كبيرة في إرساء حكمها"
كان من الممكن توقع الكثير من الأخطاء التي وقعت في أفغانستان خلال العقدين السابقين، إذ أعاد النظام المدعوم من الولايات المتحدة أمراء الحرب، الذين تصرفوا كمبتزين، هدفهم هو انتزاع المال من الأمريكيين، وبالنسبة للأمريكيين أنفسهم كانت مساعداتهم أقل إيثاراً مما يبدو، إذ لم يغادر معظمها الولايات المتحدة قط أو عاد مباشرةً إليها في صورة رسوم ضخمة دُفِعَت للمستشارين والفرق الأمنية.
تحسنت الصحة والتعليم، لكنَّ الفقر في الريف لا يزال مدقعاً، وتعرَّضت شرعية الحكومة الأفغانية للخطر باعتمادها على الأجانب، ولم تتردد باكستان أبداً في دعمها لطالبان، وبعد 10 سنوات، أي في عام 2011، شعرتُ حين تحدثتُ مع الناس في كابول بالدهشة بسبب بغضهم للحكومة، وأعربوا في نفس الوقت أيضاً عن كراهية شديدة لطالبان وكل أعمالهم.
كانت أفغانستان ولا تزال فسيفساء عرقية ولغوية وثقافية وقبلية، وهذا هو ما جعل غزو البلاد صعباً للغاية دوماً.
يختتم الصحفي كوكبيرن بالقول إن "الدبلوماسيين يتحدثون الآن بصراحة عن تثبيت حكومة طالبان نفسها من جديد في كابول، لكنَّني أشك في أنَّ الأمر سيكون بتلك السهولة. ولنفس الأسباب التي أدت إلى فشل الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة بعد 2001، قد يجد نظام طالبان الجديد الآن إرساء حكمه صعباً بنفس القدر".