أعترف بأنني عضوة في مجموعة "الاحتضان في مصر" بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك منذ فترة ليست قصيرة، عضوة غير نشطة، أتابع في صمت كل تلك القصص والحكايات عن أطفال محتضنين مع عائلاتهم الجديدة. أطالع صورهم كل يوم، فتطاردني الرغبة في احتضان طفل، لأخبر نفسي "ربما في وقت لاحق يكون مناسباً أكثر". لذلك سعدت حين رأيت منشوراً لمؤسسة المجموعة يمنى دحروج، تتحدث فيه عن تواصل السيناريست مريم نعوم معها للتحضير لمسلسل يتناول فكرة الاحتضان، وهو ما ظهر لاحقاً كواحدة من قصص المسلسل الشهير "ليه لأ"، هذه المرة جاء ليتناول قصة مختلفة جداً ومخيفة جداً في الوقت ذاته، لا أنكر أنني فرحت للغاية حين بدأت المشاهدة، لكن سعادتي سرعان ما استحالت إلى خوف اخترت أن أفند أسبابه في هذا المقال.
كيف تنشر فكرة شائكة بنجاح؟
طبيبة الرمد العذراء قاربت على بدء عقدها الخامس، تقوم بعمل حساباتها الخاصة لتكتشفت أنها في الغالب لن تتمكَّن من العثور على فارس أحلامها وإنجاب طفل قبل سن الأربعين، ما لم يكن بعدها، ما يجعلها تقرر احتضان طفل رغم معارضة كافة المحيطين بها، لتبدأ رحلة البحث التي تنتهي بها بالعثور على "يونس"، الطفل الجميل الذي يأسر القلوب.
صحيح أنني فرحت لوهلة أن الفكرة التي طالما تمنيت أن يعلم عنها المصريون أكثر، صارت واقعاً، لكنني استأت في الوقت نفسه من ذلك الشعور الذي بثه القائمون على العمل لكل من بلغت الخامسة والثلاثين من عمرها، أنها لن ترتبط ولن تنجب؛ وبالتالي هي بحاجة إلى طفل ليعوضها عن شعورها بالحرمان من فكرة الأمومة، في الواقع وفي محيطي القريب والبعيد أعلم عدداً غير قليل من القصص لفتيات في العقد الرابع بدأن حيواتهن في التوقيت المناسب لهن، وصار لهن أسر وعدة أطفال وعشن بسعادة شديدة. أتساءل عن حق الطفل المتبنَّى في أسرة حقيقية بها أب. أتساءل عن الدافع الحقيقي الذي طرحه المسلسل للاحتضان، هل هي الرحمة أم اليأس من المستقبل؟
لماذا أحب الناس يونس؟
"يا لهوي" بتلك الجملة التي قد تثير استياء البعض، استطاع الطفل سليم مصطفى، الذي قام بأداء شخصية يونس أن يأسر قلوب المشاهدين، حتى إن أكثر من شاهدوا المسلسل لم يستطيعوا أن يتمالكوا دموعهم مرة بعد أخرى كلما ظهر يونس على الشاشة، سواء كان سعيداً أو تعيساً، في كل الأحوال بدا الطفل مؤثراً جداً دون مجهود يذكر منه، لكن السؤال يبقى: "لماذا أحب الناس يونس بهذه القوة؟".
ربما هذه هي المرة الأولى منذ وقت طويل التي يظهر فيها طفل حقيقي على شاشة التلفزيون، طفل ليس فلتة ولا هو سابقاً لعمره، ينطلق لسانه في الحديث عن أمور لا تعنيه، طفل ليس من مميزاته أنه يتحدث كالكبار.. مجرد طفل عادي.
سليم مصطفى، الطفل الذي قام بدور يونس، والذي أعتقد بشكل خاص- نظرا لمروري بتجربة خاصة مشابهة- أنه عانى لفترة من تأخر الكلام، يبلغ من العمر 7 سنوات، ويعيش بمحافظة بورسعيد، بعيداً عن العاصمة وبعيداً عن الرفاق ذوي اللسان الطليق، جاءت طريقته بريئة جداً، بنبرة صوت طفولية وعيون منبهرة باستمرار واصل أسر قلوب المشاهدين، نموذج اشتاق إليه المشاهد وسط سيل من الأطفال المزيفين الذين يشبهون الخضراوات الناضجة قبل أوانها.. هيئة جذابة وطعم غير مستساغ.
السر وراء اختيار منة شلبي
بشكل شخصي أعتبر أعمال منة شلبي السابقة بالكامل في كفة، ودورها في "ليه لأ" في كفة أخرى ترجح بالضرورة وترسم لها مكانة حقيقية في الشارع المصري. أخيراً عثرت منة على كلمة سر الشعبية، لامست القلوب وصارت حديث صفحات مواقع التواصل وحتى الناس في المواصلات العامة، ربما لأن الجمهور لم يستطِع أن يفصل بين منة شلبي التي لم تتزوج بعد تماماً وبين شخصية ندى، كلتا الشخصيتين تحمل من الجمال الداخلي والخارجي ما يكفي لإتمام علاقة ناجحة، لكن الشابتين بقيتا دون زواج، ربما لهذا اقتنع الجميع أنه ربما لم يكن ليؤدي الدور أحد بمثل هذه القوة سواها.
تمتلك منة شلبي ميزة أخرى ربما لا تمتلكها ممثلة أخرى في جيلها باستثناء منى زكي فقط، السر في الصدق والاتساق مع الذات لتبقى واحدة من القلائل جداً الذين لم يتدخلوا في تغيير خلق الله، الممثلة الوحيدة تقريباً التي لا تزال تحتفظ بحاجبيها دون "مايكرو بيلدنج"، وكذلك الأمر مع شفتيها ووجنتيها، بلا حقن ولا فيلر ولا بوتوكس، إنسانة طبيعية جداً، لا تخجل من إبداء نمش جسدها.
عقب سنوات من الإقلال والاهتمام المبالغ فيه بالسينما بدأت تعيد حساباتها بالعودة إلى المسلسلات ولكن ليس عبر الشاشة الصغيرة، قررت منة شلبي، ولا أدرى السبب أن تعمل عبر المنصات الإلكترونية، وتحديداً منصة شاهد التي أنتجت لها مسلسلات العرض الأول الحصرية عبر الشبكة الإلكترونية مثل "في كل أسبوع يوم جمعة" و"نمرة اتنين"، وأخيراً "ليه لأ".
في لقاء لها مع ريا أبي راشد، اعتبرتها المذيعة العالمية ممثلة قوية تمنح ثقلاً للأدوار التي تقدمها وتضفي عليها أهمية، يومها أعربت منة عن مشكلة أساسية تواجهها عموماً، وربما يعزى إليها قلة أعمالها، حيث أكدت: "عندنا مشكلة في السيناريوهات المكتوبة للمرأة، معظم الأفلام بقت أكشن، ده مزعلني، بحب أحلى الأوقات ونوارة لأنه بيتكلم عن السيدات والبنات، أفلام الستات مش كتير ومش مكتوبة حلو". كان ذلك اللقاء خلال مهرجان الجونة في العام الماضي، وهو ما دفع منة إلى الإعلان عبر ندوة نظمها المهرجان عن مبادرة خاصة بها وقالت: "شرف كبير لي ومسؤولية عظيمة إني أبدأ مبادرة لدعم المواهب النسائية في الكتابة، بستقبل من خلالها أي سيناريوهات من تأليف موهوبات من مصر والعالم العربي، سواء فيلم طويل أو قصير أو مسلسل، وأنا بكل تواضع وعلى أد ما أقدر هحاول أساعد على إن المشروعات الحلوة تطلع للنور، سواء بالمشاركة في التمثيل أو بدعم الإنتاج أو أي وسيلة تانية مناسبة لي، وفي النهاية أنا كمان هكون مستفيدة لما أكتشف مشروع حلو وأكون جزء منه".
خلطة نعوم وأبوعوف
صار لدى الفن في مصر مجموعة من الخلطات السرية التي تصنع فارقاً ملحوظاً في النتيجة، من بين تلك الخلطات سبب أراه أحد أسباب نجاح المسلسل بقوة. تلك الخلطة القوية بين جهد ورشة سرد تحت إشراف السيناريست مريم نعوم، والمخرجة المميزة مريم أبوعوف والتي بدا واضحاً أنها تجيد اختيار الشخصيات لتخرج بالعمل في صورة مثالية تقريباً، حتى تحول الكثير من الجمل العابرة في المسلسل إلى أقوال مأثورة، استوقفتني بشكل شخصي أذكر منها مثلاً تلك التي جاءت على لسان الممثلة مريم أبوعوف "إزاي حد مش مبسوط يربي حد سعيد!".
أو ذلك السؤال الذي وجهته ندى "منة شلبي" إلى يونس في المسلسل: "عاوز تكون إيه لما تكبر؟ فأجابها: عاوز أكون مبسوط".
المستقبل المخيف بعد "ليه لأ؟"
على الرغم من عرضه الأول عبر منصة شاهد الإلكترونية، إلا أن نسب المشاهدة يمكن ضربها في عشرات أضعاف الرقم الرسمي، وبناء عليه يمكنني القول إنه قد نجح المسلسل وبشدة، حتى إن المتابعين دشنوا مجموعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي راحوا يطالبون بجزء جديد من "ليه لأ؟"، فيما راحت روابط المسلسل على تطبيق تليغرام تتطاير عبر التعليقات التي لم تكترث بالمشاهدات المشروعة والاستمتاع القانوني بالفن الذي صار مدفوعاً مقدماً.
فكرة تسليع أطفال الملاجئ والتعامل معهم عقب المسلسل باعتبارهم "سلعة" جرى التسويق لها بعناية، بينما الاحتضان مسألة لها متطلبات ومقدمات عديدة تتطلب أكثر من مجرد يأس ندى من مستقبلها أو وسامة يونس ولطفه. الأمر أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، وهو ذات الشعور الذي بدأ يتسرب لأعضاء مؤسسة الاحتضان في مصر لكفالة الأطفال، بعد أن تحول الاحتضان إلى "تريند" يعرب الجميع عن رغبتهم فيه، ويبدو للجميع ظاهرياً من السهولة والبساطة بحيث أعرب الكثيرون عن رغبتهم في الاحتضان، بينما قام البعض الآخر فعلياً بالبدء في إجراءات التبني قبل حتى نهاية المسلسل، حيث أصدرت وزارة التضامن الاجتماعي بيانها حول القفزة في عدد طلبات الاحتضان عقب عرض المسلسل.
حالة الرغبة في الاحتضان امتدت إلى أن أغلب العاملين في المسلسل والذين اتجهوا إلى طريق التبني بالفعل، سارة عبدالرحمن عرضت على والدتها فكرة التبني، فيما قام لؤي، أحد العاملين في المسلسل بتبني طفلة بالفعل.
أين المشكلة إذاً؟ المشكلة بدت واضحة في ذلك التحذير الذي أطلقته الطبيبة النفسية الشابة مي زهران والتي حذرت عبر صفحتها الشخصية من أن التسرع في خطوة الاحتضان يتسبب في عدد من الأزمات اللاحقة أبرزها إعادة الطفل مرة أخرى إلى الملجأ مع احتكاك المتبني مع الحياة الواقعية، حيث إنه ليس جميع الأطفال في براءة ولطف يونس، ولا كل المتبنين في قوة وتصميم ندى، مشيرة إلى حالات واقعية خابرتها بنفسها قامت خلالها الأسرة المحتضنة بإعادة الطفل عقب سنوات عديدة إلى الملجأ، في خطوة تدمر نفسية الطفل بالكامل بل مستقبله في بعض الحالات.
أتمنى أن يكون هناك جزء ثانٍ بالفعل تقوم خلاله ورشة كتابة السيناريو بسرد إظهار الجانب المظلم للاحتضان غير المبني على أسس حقيقية؛ وإلا فالعواقب خلال السنوات القادمة قد تكون وخيمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.