دُعيت إلى أمسية شعريَّة ضمن سلسلة كانت ستقام في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، تنظّمها إحدى الجمعيّات التي تهتمّ بالشأن الفلسطينيّ. وجدتُ الأمر مثيراً للاهتمام، ولبيّت الدّعوة. وفي إحدى الأمسيات ألقيت قصيدة بعنوان "الله أصبح لاجئاً يا سيّدي" للشّاعر الثّائر راشد حسين، والتي غنّتها الرّاحلة ريم البنا. مضت الأمسية هادئة ورائقة، تفاعل النّاس فوق سطوح البيوت وعلى الشّرفات في المنازل المتلاصقة.
جاءني في اليوم الموالي اتصال من مدير الجمعيّة التي برعايتها تقام الأمسيات، كان متوتراً وعصبيّاً، دافع عن سمعة الجمعيّة ومكانتها أوساط المخيّمات، مستنكراً إدراجها ضمن القصائد التي يجب أن تراعي الظروف السّياسيّة والأمنيّة والعقديّة في المخيّمات. استغربت كلامه، فلا أنا سأسمح لنفسي بالتعالي على مكانة الذّات المقدسة، ولا كلمات القصيدة أو عنوانها ومطلعها، يؤخذ بالمعنى الحرفيّ: فهل يعقل أنّ الشّاعر أو المغنيّة أو أنا نعتقد أنّ الله لاجئ؟
الغريب أنّه كان يتكلّم وكأنّ القيامة قد قامت بالفعل، مع أنّه لم يتلقّ تهديداً أو يُطرد هو وفريق العمل بسبب القصيدة من المخيّم، وحجته أنّ تلك القصائد لا تحترم الذّوق العامّ، يقصد بالطّبع صبغة التدين التي تطبع المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. لست بصدد تحليل صدقيّة ذلك أو نسبة التدين أو حقيقته أو شكله أو أصوله في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، لكنّ احتكار الرأي يجعلني أتساءل: هل حقّاً يغضب أبناء المخيّمات الفلسطينيّة من جملة تمرّ في قصيدة؟ أحقّاً بتنا نخاف من أن يسمع متطرّف ساذج، عصبيّ أخرق، يحمل سلاحاً لم يتعلّم كيفيّة استعماله، جملة ويقال له إنّها كفر فينهي حياتنا؟ أيّ واقع بائس هو ما يصوّره لنا هذا الموقف؟ أيّ صورة لشباب فلسطين ترتسم؟
الغريب أكثر أنّ أولئك الشّباب الذين يخاف من تهوّر أحدهم صديقنا الذي يخشى على الذّوق العامّ، لا يقرؤون الشعر، وحقيقة أن توجد أمسية شعريّة في المخيّم، تستأهل إقامة احتفال وتخليد بدئها بمناسبة سنويّة، فلا يخفى على أحد واقع المخيّمات، وانشغال النّاس بالحياة حتّى النّخاع؛ لذلك حين تواجد الشّعر في جوّ مشحون بضغوط لا حصر لها ولا عدّ، أنت توجد حالة استثنائيّة لامعة إن فعلت فهي تضيء في ليل المخيّم قمراً من قصيد.
كتب درويش في قصيدة إلى أمّي: "أصير إلهاً إلهاً أصير…" فهل عنى أنّه الله، غنّاها مارسيل خليفة منذ عقود، وردّد كلماتها الكبير والصّغير، ربما تحاشوا هذا السّطر بالذات خشية الوقوع في الكفر، لكن هل فسّر أحد للخائفين من المسّ بقداسة الله معناها؟ شرحت هذه القصيدة لطالبات في الصّف الرابع المتوسّط، كنّ يخشين هذا السّطر، لكن حين عرفن أنّ الشّاعر إنّما يعني أنّ أمّه مقدّسة وهي إن مسّته فسيغدو طاهراً علويّاً نقيّاً ممتلئاً بالحب… رُحن يقرأنها ويحفظنها من دون تردّد، فهل على الشّعراء أن يفسّروا كي لا يُرجموا بالكفر؟ ومن الذي جعل مسألة التكفير أو الرّجم بالخطأ مسلَّماً بها وعلى المرجوم أن يخاف فعل الشّعر بينما الرّاجم أو القاتل أو المتعصّب لا يبالي باقتراف القتل؟ هل يحتاج الله إلى من يدافع عن مقامه في قلوب عباده؟
هل بات واقع الفلسطينيّ النّفسيّ والعقليّ والعقديّ بعيداً عن الرّوح؟ من مسار التسليم وحقيقة الإيمان، الذي يجعلنا متسامحين مع كلّ شيء وغير مختلفين مع أحد مهما تضادّت آراؤنا وآراؤه أو تباعدت معتقداتنا مع معتقداته؟ أتكلّم هنا عن الفلسطينيّ، لأن الحادثة وقعت في أحد المخيّمات، والحجة في الرّفض والتخطيء كانت في أنّ بيئة المخيّم لا تتقبّل مثل هذه الأشعار، في الوقت الذي يعرف مدير المركز جيّداً أن المخيّم مشحون بالعصابات والقتلة ومتعاطي المخدّرات والمطلوبين في قضايا أمنيّة وأخلاقيّة، فهل يحتمل المخيّم فواحش يرجم لها الشّيطان نفسه، وتقوم قائمته لجملة شعريّة تحاول أن تسلّط الضّوء على مدى الظلم الذي يحيا فيه اللاجئ؟
الوعي لا يحتاج إلى تفسير ذاته، وهذا الله شاهد منذ أوّل الخلق على أخطاء الإنسانيّة كلّها، فلمَ يحاول المدافعون عن الله أن يتشدّدوا بالنيابة عنه؟ لو أراد أن يخسف الأرض بمن فيها أو يطبق السّماء عليها لما ردّه أحد، لكنه في عليائه ينظر إلى ما نقوم به ويعلم أنّنا نعطي لهذه الحياة قيمة أكبر مما هي عليه، يتركنا لأفعالنا الصّغيرة، وحتّى تلك الكبيرة يتركها الله تحصل، كالحروب، فالخير موجود في كلّ أوان وإن بدا العكس، فلمَ نقبل أن يحكم باسم الله أحدٌ؟ وإلى متى سيظلّ وعي أقلّ يتحكم بوعينا، وعي الجماعة والفرد، ويقلّص فرص التّطور والارتقاء الرّوحيّ، لا أقول الفكري، فالفكر ظنّ لسنوات وسنوات أنّه أعلى من الرّوح، وحكم هذا العالم بأحكامه، فلم نشهد إلّا خراباً واقتتالاً وعبثاً ولغطاً وضجيجاً، حتّى نسينا من نكون ولمَ جئنا إلى هذا العالم وما هي رسالتنا فيه.
ليست هذه مقالة وعظيّة، أقول ما أقول لأنّي أشعر بأنّ الفلسطينيّ كإنسان قد شوه وعيه على أكثر من صعيد، واقعه مشحون بقضايا مأزومة، ويومه مشحون بحاجات ضروريّة لبقائه، ومستقبله مشحون بمواقف سياسيّة مرهونة بالخوف والطّمع والوصوليّة، ووطنه مشحون ببعد مكانيّ إلى أجل غير معلوم، وعقله مشحون بأفكار ماديّة عن كلّ شيء، خاصّة مع وجود وسائل التواصل وابتعادنا عن مصدر الإلهام الحقيقيّ، فهي في أصلها عبثيّة ولا تساعده كإنسان على بلوغَ وعي نوعيّ.
" الله أصبح لاجئاً يا سيّدي" جملة عابرة في وعي عابر لقضيّة باتت عابرة في زمن عابر للأخلاق والحقوق والعدالة والإيمان، وإنسان متسمّر في شرنقة من اللاشيء، وموقف مدير المؤسسّة، يكرّس وعياً جمعيّاً مشوّهاً، ومراد له أن يبقى كذلك، يرجم الآخر كي يضمن مكانه في جنّة عرضها السماوات والأرض، هي في الحقيقة قلب كلّ منّا، واقترابه بالتسامح والغفران والخروج من ثنائّيات الكفر والإيمان والصح والخطأ، التي عقّدت حياة البشر وأزمتها ولم تؤدّ عبر التاريخ إلا إلى القتل والرفض والأحقاد.
يحتاج الفلسطينيّ سواء في المخيّم أو خارجه إلى أن يفتح عينيه على نور الحقيقة، حقيقته كإنسان وحقيقة الوطن والحياة والمصير، يحتاج أن ينجب أحراراً كغسّان كنفاني وإدوارد سعيد ومنير شفيق وخليل السّكاكيني وأنيس الصّايغ وفدوى طوقان وأحمد دحبور ودلال المغربي وغيرهم ممن مشوا في تيّار وعي خالف السّائد وآمن بالحريّة التي هي أساس الوجود، ولا يحتاج مطلقاً إلى منطق هرم وهشّ يقنعه أنّ جملة شعريّة تنتقص من قيمة الله.. أليس هذا التفكير الذي يحدّ الله هو من ينتقص؟ علينا أن نفتح أعيننا على الحقيقة، ثمّ بعدها للكلام مقام…
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.