بالتوازي مع الجهود الدولية وسباقها مع الزمن لتوزيع أكبر نسبة من اللقاحات ضد فيروس كورونا واستعادة ما يشبه الحياة الطبيعية، أثارت دراسة صادمة حول لقاحات كورونا جدلاً واسعاً في المجتمع الطبي أدت إلى استقالات جماعية من هيئة تحرير مجلة علمية سويسرية مرموقة.
فماذا افترضت الدراسة؟ ولماذا استقال المحررون؟
اسم المجلة Vaccine أي "لقاح"، وهي مجلة دولية مفتوحة تتم مراجعة تقاريرها من قِبل زملاء ويتم نشرها شهرياً على الإنترنت، تخاطب الأخصائيين في اللقاح وعمليات التلقيح.
وتتعاون الجمعية الأمريكية لعلم الفيروسات (ASV) مباشرةً مع المجلة وكذلك الجمعية اليابانية، إلى جانب علماء مختصين في علم الأوبئة واللقاحات من شتى أنحاء العالم، يعملون على كتابة ومراجعة وتقييم الدراسات والأوراق المطروحة قبل نشرها.
في عددها الصادر 24 يونيو/حزيران 2021، نشرت المجلة دراسة أو ورقة بحثية تمت مراجعتها من قِبل "زملاء"، استنتجت أنه "لكل 3 وفيات يتم تفاديها من قِبل لقاحات كورونا، يجب أن نتقبل وفاتين يسببهما اللقاح نفسه".
هذه الخلاصة دفعت 6 علماء متعاونين مع المجلة إلى تقديم استقالاتهم، من ضمنهم عالمة المناعة البريطانيةُ في معهد جينر بجامعة أكسفورد، كاتي ايور، التي كانت ضمن الفريق الذي طوَّر لقاح أكسفورد، أسترازينيكا، حسب ما نشرته مجلة Science.
وقال ايور في بريد إلكتروني توضيحي: "لقد أسيء استخدام البيانات، لأنها تفترض أن جميع الوفيات التي حدثت بعد التطعيم ناتجة عن التطعيم".
وأضافت: "يتم استخدام هذه الدراسة الآن من قِبل مناهضي التطعيم ومُنكري فيروس كورونا كدليل على أن اللقاحات ليست آمنة. هذا تصرُّف غير مسؤول إلى حد كبير، لاسيما بالنسبة لمجلة متخصصة في اللقاحات".
بدورها، وصفت أخصائية اللقاحات التي تدير مجموعة بيانات اللقاحات والأبحاث في جامعة أوكلاند، هيلين هاريس، التي استقالت أيضاً من منصب المجلة بعد قراءة الورقة البحثية، بأنها "قمامة".
كما استقالت عالمة الأوبئة بجامعة ميشيغان، ديان هاربر، ورئيسة التحرير المؤسِّسة للمجلة سابقاً آن أربور، وكذلك عالم المناعة في معهد مردوخ لأبحاث الأطفال بأستراليا بول ليسياردي، وأخصائي فيروسات الجهاز التنفسي في كلية بلومبيرغ للصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز، أندرو بيكوس.
الاستقالات الجماعية دفعت مديرة تحرير المجلة، فاني فانغ، إلى فتح تحقيق في الأمر، لافتة إلى قلقها وتعاطيها مع الأمر بكل جدية. وفي 2 يوليو/تموز 2021، سحبت المجلة عددها رسمياً بعدما استقطبت الدراسة أكثر من 350 ألف قراءة وتمت مشاركتها على تويتر بين الآلاف.
تبين أن أحداً من مؤلفي الدراسة تلقى تدريباً أو تعليماً في علم اللقاحات أو علم الفيروسات أو علم الأوبئة.
والمؤلفون هم:
- راينر كليمنت، فيزيائي يدرس الحِمية الكيتونية في علاج السرطان بمستشفى ليوبولدينا في شفاينفورت، ألمانيا.
- واتر أوكيما، عالم بيانات هولندي مستقل.
- والمؤلف الأول هارالد والاك، عالم النفس الإكلينيكي ومؤرخ العلوم الذي كان باحثاً صحياً بجامعة بوزنان للعلوم الطبية في بولندا، وسرعان ما قطعت الجامعة صلتها به فور انتشار الخبر.
لاستخلاص استنتاجاتهم، قام مؤلفو الورقة بحساب وفيات كورونا التي منعها اللقاح، باستخدام بيانات من دراسة أُجريت على 1.2 مليون إسرائيلي، نصفهم حصلوا على لقاح فايزر ونصفهم لم يفعل.
قدَّر الباحثون أنه يجب تطعيم 16000 شخص لمنع وفاة واحدة من كورونا، وهو إجراء يمثل مشكلة، كما يقول النقاد، لأنه مع نجاح اللقاح، فإن عدد الأشخاص الذين يجب تطعيمهم لمنع الوفاة يتزايد باستمرار.
ولحساب الوفيات "الناجمة" عن الآثار الجانبية للقاح، استخدموا بيانات الاتحاد الأوروبي حول عدد جرعات اللقاح التي تم توزيعها في هولندا وبيانات حول التفاعلات الدوائية الضارة التي أبلغ عنها المواطنون، والتي كانت أكثر من بيانات التسجيل من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وتملك هولندا قاعدة بيانات تسمى The Netherlands Pharmacovigilance Center، هدفها إفساح المجال لأي شخص بالتبليغ عما اختبره من عوارض ما بعد اللقاح.
ويهدف هذا المركز إلى البحث عن العلامات الأولى للعوارض الجانبية النادرة والخطيرة مثل التجلط ودراستها لاحقاً.
ويشير موقع التسجيل الهولندي بوضوح، إلى أن تقاريره لا تشير إلى عدد الوفيات، لكن مؤلفي الدراسة قالوا إنهم عثروا على "16 عرضاً جانبياً خطيراً لكل 100 ألف لقاح، وأن عدد الآثار الجانبية المميتة هو 4.11 لكل 100 ألف لقاح. وبالنسبة لثلاث وفيات منعها اللقاح، علينا قبول حالتين سببهما اللقاح".
مؤلف الورقة الأول والاك أصرّ على ما توصلت إليه الدراسة من نتائج، مبرراً أن الدراسات التي أجريت على اللقاح شملت عشرات الآلاف فقط، ولم تكن كافية عدداً أو مدةً لدراسة تداعياته.
من جهته، قال أوكيما إنه سعيد بالجدال العملي الذي أثير حول اللقاح.
وبرر أصحاب الدراسة موقفهم بأنهم اعتمدوا على بيانات موثوقة "إلى حد ما"، وبأنهم لم يلمحوا إلى أن العوارض الجانبية المبلَّغ عنها كانت جميعها ناجمة عن لقاح كورونا، وبأن هناك "صلة ما" بينهما دون تأكيد العلاقة السببية.
إلا أن المجلة أصرت على سحب العدد وتوضيح الأمر، وعلى أثرها عاد بعض العلماء عن استقالاتهم، معربين عن سعادتهم بتحمُّل المجلة للمسؤولية، وإعادة النظر في سياستها التحريرية بشأن مراجعات الزملاء لأي ورقة علمية أو دراسة يتم نشرها.