يأتي الانسحاب الغربي من أفغانستان، ليمثل الفصل الأخير في مسلسل فشل التدخل الغربي بدول الشرق الأوسط وجوارها؛ ليظهر أن محاولات الغرب المزعومة لخلق جنان من الديمقراطية عبر الغزو فاشلة تماماً.
وبينما تسير عملية انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أفغانستان على قدم وساق، فإن هذا البلد لا يزال بعيداً كل البعد عن الاستقرار الديمقراطي الذي وعد به الغرب. وتسيطر طالبان التي أقصاها الغرب من الحكم قبل 20 عاماً على أجزاء كبيرة من البلاد، بل إن الغرب انسحب عبر اتفاق معها، أخرجها من قوائم الإرهاب، دون أن تقدم أي ضمانة جدية لوقف القتال ضد الحكومة الأفغانية.
تقرير لموقع دويتش فيليه الألماني عرض لأسباب فشل التدخل الغربي بدول الشرق الأوسط، وعلى رأسها أفغانستان، وليبيا والعراق.
التقرير عرض لأسباب عدة يراها وراء الفشل، منها "الرفض المجتمعي، الصراع بين المدينة والريف، الخصوصية المتطرفة، ورفض التجانس الثقافي". بالإضافة إلى ذلك، هناك الأفكار والمعتقدات المختلفة للطبقات الاجتماعية.
وكتب الباحث الألماني في مجال السلام والصراع، كونراد شيت في كتابه "تاريخ أفغانستان": "إن تطبيق حقوق الإنسان والديمقراطية وكذلك المساواة بين المرأة والرجل لا يمكن أن يتم بسرعة في المجتمع الحضري، في حين أن جزءاً كبيراً من سكان الريف يعتبرون هذه المبادئ غير إسلامية". لذلك يمكن لطالبان أن تأمل في الحصول على دعم واسع، خاصة في المناطق الريفية في جنوب أفغانستان.
هذا الرأي يشاطره أيضاً المترجم والباحث في الدراسات الإسلامية، شتيفان فايدنر الذي يقول إن الدول الغربية وضعت لنفسها أهدافاً كبيرة، ليس فقط في أفغانستان، ولكن أيضاً في ليبيا والعراق.
استثمارات هائلة بلا طائل
من أجل تحقيق أهدافها، استثمرت الدول الغربية والمؤسسات الدولية مبالغ طائلة، وما زالت تفعل ذلك على الرغم من انسحاب قواتها.
فقد جمع مؤتمر المانحين الإفتراضي لأفغانستان في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي ما مجموعه حوالي 10.1 مليار يورو، تمنح للبلاد على مدى السنوات الأربع المقبلة. لكن تكلفة التورط في مناطق الحرب والأزمات تتحول في النهاية إلى "وهم بصري"، كما يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط، ورئيس تحرير مجلة Zenith الألمانية، دانيال غيرلاخ. من بين الأموال المستخدمة، غالباً ما يصل جزء صغير فقط من مساعدات البناء إلى السكان، نظراً لأن تكلفة استقدام الموظفين والمكاتب والأمن باهظة للغاية هناك، على حسب قول غيرلاخ في مقابلة مع DW، ويضيف: "لو أراد موظفون غربيون أو حتى أحد الدبلوماسيين رفيعي المستوى معاينة مشروع ما، فإن الأمر يتطلب قوافل مدرعة وحراس أمن مسلحين". وستكلف هذه الزيارة بعد ذلك عدة آلاف من اليورو في اليوم الواحد.
على الرغم من النفقات المالية العالية، يصعب السيطرة على المشكلات الأساسية. يقول الخبير في الشؤون السياسية، فولفرام لاخر في كتابه عن الحرب الأهلية الليبية واصفاً انهيار الدولة من الداخل وما نتج عن ذلك من صعوبة في إيجاد جهات الاتصال. في جميع المدن تقريباً، هناك مجموعات متنافسة تعمل باستمرار على تشكيل تحالفات جديدة. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يصعب التعرف على هذه المجموعات من الخارج. "بدلاً من بلورة صورتها العامة وتطوير هوية مؤسساتية واضحة، غالباً ما تتنكر الجماعات المسلحة من خلال تغيير أسمائها باستمرار". بعبارة أخرى، الناتو شارك في الإطاحة بديكتاتور دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن كيفية الحفاظ على بنية وهيكل هذه الدولة من دون وجود رجل على رأسها.
خطأ في الفكرة ذاتها وليس التفاصيل
ولكن تبدو محاولة دويتش فيله وغيرها من وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية لتفسير فشل التدخل الغربي بدول الشرق الأوسط، هي محاولات فاشلة بقدر فشل التدخل العسكري نفسه.
فبعيداً عن التفاصيل، فإن الخطأ هو في فكرة التدخل نفسها، وليس ما بعد التدخل، كما أن الخطأ ينبع من افتراض أن القيم الغربية هي أفضل من قيم المجمعات الإسلامية أو الشرقية أو غير الغربية.
فحتى لو افترضنا جدلاً أن القيم الغربية تصلح للجميع، فإن الأوطان ليست ولاية في الإمبراطورية الغربية، يمكن أن تحكم من واشنطن وبرلين، وأن هذه الشعوب تهفو لتأتي القوات الغربية لتحررها، وهي نفس الادعاءات التي تسببت في خلق موجات الاستعمار السابقة.
كما أنه في إطار ولع الغرب بالتبشير بنموذجه، ينسى حتى لو أنه يحمل بعض القيم الإيجابية فإنه ينتهك أهم قيمة أخلاقية وهي قيمة الاستقلال الوطني، وانتهاك هذه القيمة يفكك المجتمعات.
قبل ستمئة عام، قال المفكر العربي عبدالرحمن بن خلدون إن العصبية؛ أي الانتماء هي أساس قيام الدولة وبغيابها تنهار.
ويفترض الغرب أنه يستطيع أن يدخل بقواته ويهدم الأنظمة المحلية مهما كانت مساوئها ليقيم نظماً محلية أفضل.
ولكن الواقع أن الأساس خاطئ، فعلى أهمية الديمقراطية، وحقوق وحرية المرأة وغيرها من الحريات لكل البشر، فإن القيمة الأهم لكل مجتمع هي الاستقلال والهوية، فكيف تتحرر المرأة باحتلال الأوطان، وهل سئلت المرأة الأفغانية والعراقية عن رأيها في احتلال بلدها لتحريرها هي شخصياً، (علماً بأن حريات المرأة العراقية كانت أفضل في عهد النظام العراقي السابق من الأنظمة بعد الاحتلال الأمريكي).
فحرية المرأة مهمة، وحرية التعبير مهمة، ولكن ليست أهم من حرية الوطن ذاته.
حتى المجتمعات الغربية الحالية وصلت لما هي عليه من حقوق محلية بعد نيلها الاستقلال الوطني، ما قيمة امرأة حرة أو انتخابات نزيهة في وطن يدار من مكاتب موظفي الـ"سي آي إيه" في ولاية فيرجينيا الأمريكية.
ما زال المحللون الغربيون لا يعطون التقدير الكافي للإهانة التي يسببها الاحتلال للشعور الوطني، ولا يركزون كثيراً على سبيل المثال على التداعيات النفسية للغزو الأمريكي، الذي دفع جزءاً من النخب العراقية التي كان أغلبها علمانية وذات توجهات عروبية إلى أحضان مجموعات متطرفة.
لا يمكن للمحللين الغربيين أن يفهموا سبب فشل التدخل العربي في دول الشرق الأوسط، دون إدراك أن سقوط بغداد الذي يمثل الذروة في هذا التدخل كان وطأته هائلة على قطاع كبير من الرأي العام العربي والعراقي.
فحتى بالنسبة لأشد المعارضين العراقيين والعرب لصدام حسين، لم يكن يعني هذا الحدث الجلل سقوط بغداد صدام، بل سقوط بغداد الرشيد برمزيتها الهائلة لكل عربي ومسلم.
كما أن الأموال التي ضخها الغرب أضعفت الاقتصاد المحلي في هذه الدول شجعت على ليس فقط على الفساد، بل وعلى الاستهلاك أيضاً وأضعفت القطاعات الاقتصادية المحلية.
السبب الأكبر في فشل التدخل الغربي بدول الشرق الأوسط وجواره
ولكن السبب الأبرز في فشل التدخل الغربي بدول الشرق الأوسط وجوارها هو دور الوكلاء المحليين.
فبينما خصوم الغرب في الدول التي تم احتلالها قد يكونون قساة ومتطرفين أو تحولوا لمتطرفين، فإن وكلاءها يتمتعون بنفس الصفات مع صفات إضافية أسوأ.
ففي العراق كان حلفاء الغرب هم المجموعات الأصولية الشيعية، وفي مرحلة لاحقة انضم لها بعض بقايا حزب البعث والعشائر السنية، في أفغانستان كان الخليط مشابهًا يتضمن بقايا المجاهدين الأفغان والقبائل الأفغانية، وهي كلها مجموعات محافظة لديها إشكاليات تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان مثل معارضي الغرب، ولكنهم في الأغلب يدعون بعكس ذلك لضمان التدخل الغربي للإطاحة بخصومهم، والاستفادة من الدعم الغربي.
فحلفاء الغرب في العراق وأفغانستان هم أكثر فساداً من طالبان وفصائل المقاومة العراقية، وفعلياً ليس لديهم قضية أيديولوجية سوى السلطة أو الانتماءات القبائلية والعرقية والطائفية.
وبالتالي يكونون أقل همة وكفاءة في الإدارة وقدرة في السيطرة على الأرض وفي القتال مع المعارضين للتواجد الغربي، وهو ما ظهر في هزائم الجيش العراقي أمام داعش، وهروب الجنود الأفغان أمام طالبان في شمال البلاد مؤخراً.
والمجموعات القليلة منهم الأكثر كفاءة في القتال على الأرض، قد تكون أكثر وحشية من المتطرفين، وفي البلدين وخاصة في العراق، فإن جزءاً كبيراً من القوى الحليفة للغرب هي في الواقع أكثر ولاء لإيران من أي شيء آخر.
الأهم أن المكونات المختلفة لوكلاء الغرب في هذه البلدان لا يكتفون بالفساد خلال مشاركتهم في عملية بناء الدولة، بل يزداد الأمر سوءاً عبر محاولة دفع العناصر الموالية لهم في أروقة المؤسسات التي يجري بناؤها بأموال الدول الغربية، فيما تم استبعاد الكثير من الكفاءات مثلما حدث في العراق تحديداً.
كيف يمكن أن تقيم دولة في وطن محتل؟
كما أن فكرة الاحتلال والقبول به تفكك العصب الوطني الذي هو عامل التماسك الوحيد الذي يمكن أن يقف في مواجهة المقاومة المسلحة ذات الطابع المتطرف مثل طالبان في أفغانستان.
فالشخصيات التي تقبل التعامل مع احتلال، هي بالأغلب لديها نقاط ضعف متعددة تجعل من الصعب التعويل عليها، مهما كان المعارضون للغرب متطرفين.
يضاف إلى ذلك أخطاء متراكمة للغرب، بدءاً من تفكيك المؤسسات الوطنية العراقية ولاسيما الجيش، إلى محاولة تزويد القوات المحلية التي يجري تدريبها بأسلحة غربية باهظة تكون عملية صيانتها والتعامل معها صعبة عليها مثل ما حدث في عملية استبدال مروحيات ميل مي 24 الروسية التي كان الفنيون الأفغان يجيدون إصلاحها بمروحيات بلاك هوك الأمريكية الأعقد والأقل مناسبة لطبيعة أفغانستان.
خصوم شديدو البأس
زاد الأمر سوءاً بالنسبة للغرب ووكلائه في أفغانستان والعراق تحديداً أن الخصم في حالتين هم حركات متطرفة شديدة الأدلجة والبأس في الوقت ذاته، لا تمثل الخسائر البشرية أهمية تذكر بالنسبة لها.
كما أن الجغرافيا في الحالة الأفغانية خاصة تعمل في صالح رجال حروب العصابات أكثر من أي قوة تقليدية سواء خارجية أو داخلية.
تبدو الحالة الليبية مختلفة؛ لأن المكون المحلي هو الغالب حتى لو كان مدعوماً من الخارج ولكنه منقسم، غير أنه أثبت فاعلية في القتال؛ لأنه ليس مجرد مكون مدفوع بالأموال الغربية، وهذا ما حدث في حالة لافتة نجحت فيها قوات البنيان المرصوص التابعة لحكومة الوفاق السابقة في ليبيا في القضاء على وجود داعش في سرت بدعم غربي محدود، كما نجحت قوات حكومة الوفاق في الصمود أمام هجوم حفتر على طرابلس حتى قبل مجيء الدعم التركي.