حجم ميزانية البنتاغون الأخيرة، صادم بكل المقاييس، ولكن الصادم أكثر أن الميزانية الفعلية سوف تصل إلى ما يقارب الضعف عبر زيادتها بطرق جانبية، وفي النهاية سيخصص جزء كبير منها لأسلحة بلا جدوى.
وتمثل ميزانية البنتاغون الأخيرة والتي صدرت أواخر الشهر الماضي، يونيو/حزيران، أول ميزانية عسكرية تصدر في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وتبلغ قيمتها 750 مليار دولار مخصصة لوزارة الدفاع الأمريكية والأعمال المتعلِّقة بالأسلحة النووية في وزارة الطاقة، وهذه تمثل أحد أعلى مستويات الإنفاق منذ الحرب العالمية الثانية، وأعلى بكثيرٍ من ذروة الحرب الكورية أو حرب فيتنام، أو فترة مراكمة التسليح إبان حقبة الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات، وهي تعادل ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تنفقه الصين على جيشها، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
كان من شأن التطوُّرات التي جرت خلال العام ونصف العام الماضي، حيث الجائحة المتواصلة، والجفاف المُكثَّف، وأنشطة مناصري تفوُّق العرق الأبيض، والظلم العرقي والاقتصادي، أن تؤكِّد على أن أكبر التهديدات على حياة الأمريكيين هي تهديداتٌ أبعد ما تكون عن الطابع العسكري.
لكن بصرف النظر عن ذلك، قرَّرَت إدارة بايدن زيادة الإنفاق العسكري باعتباره الركيزة الأساسية لما لا يزال يُمرَّر في السياسة الأمنية الأمريكية دون إعادة تقييم موضوعية.
عملية تضليل.. ميزانية البنتاغون الرسمية لن تكفي
المشكلة أن هذا الرقم المذهل لميزانية البنتاغون أيضاً، لن يكون كافياً؛ إذ تشير طلبات التمويل لهذا العام إلى أن الميزانية الإجمالية للأمن القومي ستقترب من 1.3 تريليون دولار.
يؤكِّد هذا الرقم المُحيِّر للعقل مدى "التضليل" الذي يمارسه مفهوم الأمن القومى الحالي لواشنطن- وهي كلمةٌ يتعيَّن وضعها دائماً بين قوسين هكذا.
وتضمنت خطط الإدارة الأمريكية توجهات مثيرة للجدل مثل المُضيّ قُدُماً بأقصى سرعة في خطط البنتاغون طويلة الأمد لبناء جيلٍ جديد من القاذفات والغوَّاصات والصواريخ، بما في ذلك بالطبع الرؤوس الحربية النووية الجديدة التي تلائم هذه الصواريخ بتكلفة 1.7 تريليون دولار على الأقل خلال العقود الثلاثة المقبلة.
وسبق أن أضافت إدارة ترامب إلى تلك الخطة مشاريع مثل صاروخ كروز جديد يُطلَق من غوَّاصةٍ ويحمل رأساً نووياً، وكلُّ تلك الخطة مُمَوَّلة بالكامل في الميزانية الأولى لبايدن.
لا يهم أن ترسانةً أصغر بكثير ستكون أكثر من كافية لردع أيِّ دولةٍ عن شنِّ هجومٍ نووي على الولايات المتحدة أو حلفائها.
يقول تقرير الموقع الأمريكي: "ظهر بصيصٌ من الأمل في مذكرةٍ داخلية حديثة من البحرية يشير إلى أنها قد تتخلَّص في نهاية المطاف من صواريخ كروز التي تُطلَق من البحر والتي أصرَّ عليها ترامب، في تقديم ميزانية العام المقبل- لكن هذا المقترح يواجه بالفعل تراجعاً شديداً من مناصري الأسلحة النووية في الكونغرس".
فتش عن المستفيد
على المستوى الإجمالي، تُعتَبَر الميزانية الأولى لبايدن بمثابة فوزٍ كبيرٍ للأطراف الرئيسية في المجمَّع الصناعي النووي، مثل شركة نورثروب غرومان، المتعاقد الرئيسي على القاذفات النووية الجديدة وكذلك على صاروخٍ باليستي جديد عابر للقارات، وشركة ديناميكس، التي تُصنِّع غوَّاصة الصواريخ الباليستية الجديدة، وشركة لوكهيد مارتن، التي تتج صواريخ باليستية تُطلَق من البحر، وشركات أخرى مثل هانيويل التي تشرف على العناصر الرئيسية في مجمَّع الرؤوس النووية التابع لوزارة الطاقة.
تسحب ميزانية بايدن بعضاً من أسلحة الجيل الأقدم، ومع ذلك، فإن السبب الوحيد وراء ذلك هو تمويل أنظمة جديدة أعلى تكلفةً مثل الأسلحة التي تفوق سرعة الصوت والأنظمة المُدمَجة بالذكاء الاصطناعي، وكلُّ ذلك بهدف وضع الولايات المتحدة في موضعٍ يسمح لها بالانتصار في حربٍ مع الصين (إذا كان من الممكن أن يخرج أحد الطرفين "منتصراً" أصلاً في مثل هذه الحرب).
هل يستطيع الخطر الصيني مواكبة كل هذا الإنفاق؟
ويلفت التقرير إلى أنه في الواقع، لا يزال الحشد العسكري الصيني دفاعياً إلى حدٍّ كبير، لذا فإن زيادة إنفاق البنتاغون المُفتَرَضة تمثِّل استراتيجيةً سيئة وميزانيةً سيئة. إذا لم يهدأ صانعو السياسات عاجلاً أم آجلاً، فإن الهوس بالصين الذي سيطر على البيت الأبيض والبنتاغون وأعضاء الكونغرس الرئيسيين يمكن أن يُبقِي ميزانيات البنتاغون مرتفعةً لعقودٍ قادمة.
إن التحديات الرئيسية التي تطرحها الصين دبلوماسية واقتصادية، وليست عسكرية، والسعي وراء الحصول على إجاباتٍ عسكرية لهذه التحديات لن يؤدِّي إلا إلى اندلاع حربٍ باردة جديدة وسباق تسلُّح محفوف بالمخاطر قد يرجِّح الصراع النووي بين القوى العظمى بصورةٍ أكبر.
وفي حين أن هناك الكثير مِمَّا يمكن انتقاده في سياسات الصين، بدءاً من قمعها للحركة الديمقراطية في هونغ كونغ، إلى التطهير العرقي والاضطهاد الشديد للسكَّان الإيغور، فإن كلَّ هذا لا يقترب ولو بشكلٍ طفيف- ولن يقترب كثيراً في أيِّ وقتٍ قريب- من الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن الحشد العسكري لواشنطن يمكن أن يقوِّض أكبر فرصةٍ في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وهذه الفرصة هي إيجاد طريقة للتعاون في قضايا مثل تغيُّر المناخ الذي يهدِّد مستقبل الكوكب.
البنتاغون يخادع للحصول على أموال أكثر من المقررة في الميزانية
وكما لوحِظَ، فإن ثلاثة أرباع تريليون دولار تنفقها الولايات المتحدة على ميزانية البنتاغون هي مجرد جزء من رقم أكبر بكثير للنطاق الكامل لأنشطة الأمن القومي. يكفي أن نلقي نظرةً فقط على الميزانية الأساسية للبنتاغون لندرك ذلك.
بلغت الميزانية "الأساسية" التي اقترحها البنتاغون، والتي تضمَّنَت في السنوات الماضي إنفاقاً روتينياً للقتال في الصراعات الجارية، 715 مليار دولار للسنة المالية 2022، بزيادة 10 مليارات دولار عن طلب العام الماضي. ورغم الشكاوى من جانب دعاة زيادة إنفاق البنتاغون من ضآلة هذه الزيادة من وجهة نظرهم، فإن الإضافة التي يمثِّلها هذا الإنفاق ليست بسيطة. إنها، على سبيل المثال، أكبر من الميزانية الكاملة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. لا شكَّ في أن البنتاغون لا يزال إلى حدٍّ بعيد يمثِّل الوكالة ذات الميزانية التقديرية الأكبر.
أحد الأخبار السارة هو أن طُلب هذا العام أن يكون نهاية حساب صندوق العمليات الطارئة الخارجية. استُخدِمَ هذا الصندوق غير الرسمي لتمويل الحروب في أفغانستان والعراق، ولكنه شمل أيضاً عشرات المليارات من الدولارات لمشاريع البنتاغون التي لا علاقة لها بالصراعات الجارية.
وفي حين أن الإنفاق الطارئ خارج الميزانية لم يُستخدَم إلا في السنوات الأولى من الصراع، أصبحت العمليات الطارئة الخارجية أداةً للتهرُّب من القيود المفروضة على ميزانية البتناغون العادية التي يفرضها قانون مراقبة الميزانية لعام 2011.
لسوء الحظ، لا يزال طلب الميزانية الأخير الخاص يتضمَّن 42.1 مليار دولار لتكاليف الإنفاق الحربي المباشر وغير المباشر، سواء أكان ذلك في صورة عمليات طارئة خارجية أم لا.
ولذا تبدو نهاية صندوق العمليات الطارئة الخارجية مجرد خطوةً صغيرة، ولكن يُحتَمَل أن تكون مهمة نحو مزيدٍ من المساءلة والشفافية في ميزانية البنتاغون، حسب موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
علاوة على ذلك، يحثُّ قادة الكونغرس إدارة بايدن على اغتنام المدَّخرات من الانسحاب الجاري من أفغانستان لتقليص الحد الأقصى لميزانية البنتاغون عاجلاً أم آجلاً.
أموال هائلة توجه إلى أسلحة لا جدوى منها
أما بالنسبة لما هو موجود في الميزانية الأساسية، فهناك عددٌ من النفقات المقترحة التي تثير قلقاً خاصاً والتي تتطلَّب الانتباه ومعارضة الكونغرس لها. مثل تضاعَفَ الإنفاق على الصاروخ الباليستي الجديد العابر للقارات التابع للبنتاغون- المعروف رسمياً باسم الردع الاستراتيجي الأرضي- تقريباً في الاقتراح الجديد من 1.4 مليار دولار إلى 2.6 مليار دولار.
قد يبدو هذا تغييراً بسيطاً في مثل هذه الميزانية، لكنه مجرد دفعة مقدمة لنظامٍ قد يكلِّف في النهاية أكثر من 100 مليار دولار لشرائه و164 مليار دولار أخرى لتشغيله على مدار حياته.
وهي تشجع على وقوع حرب نووية لن ينجو منها أحد
والأهم من ذلك، كما أشار وزير الدفاع السابق ويليام بيري، أن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات هي "بعضٌ من أخطر الأسلحة في العالم"، لأن الرئيس سيكون أمامه دقائق فقط ليقرِّر ما إذا كان سيطلقها عند تحذيره من هجومٍ ما، مِمَّا يزيد بشكلٍ كبير من خطر نشوب حربٍ نووية عرضية بناءً على إنذارٍ كاذب.
باختصار، فإن الصواريخ الباليستية الجديدة العابرة للقارات ليست مُكلِّفة فحسب، بل خطيرة للغاية أيضاً على البشرية. كان ينبغي لميزانية بايدن أن تلغي هذه الصواريخ، لا أن توفِّر المزيد من التمويل لها.
الاستمرار في تمويل إف-35 رغم الانتقادات
ومِمَّا يثير الانتباه أيضاً هو قرار إنفاق أكثر من 12 مليار دولار على مقاتلةٍ من طراز إف-35، وهي نظام أسلحة مضطرب ومُكلِّف للغاية تشير عيوبه الفنية إلى أنه قد لا يكون جاهزاً تماماً للقتال. ويفترض صدور قرارٍ بإيقاف الإنتاج مؤقَّتاً على الأقل على الطائرة حتى اكتمال اختباراتها.
المفارقة هنا أن رئيس لجنة القوات المُسلَّحة في مجلس النوَّاب آدم سميث صرَّحَ قائلاً، إنه سئم من ضخِّ الأموال في "بالوعة" إف-35، كما أن الضابط الأعلى للقوات الجوية، الجنرال تشارلز براون، قارنها بسيارة فيراري "لا تقودها إلى العمل كلَّ يوم"، ولكنك "تخرج بها في أيام الأحد فقط".
والقوات الأمريكية اضطرت إلى شراء نسخ جديدة من الطائرات إف 15 التي تعود جذورها لنصف قرن، في ظل إخفاق الإف 35 لتكون البديل.
لنضع في اعتبارنا أن فكرة الطائرة قد بدأت باعتبارها بديلاً منخفض التكلفة في المستقبل لأسطول المقاتلات الأمريكية من طراز إف 22.
أنتجت شركة لوكهيد مارتن هذه الطائرة، وتوصف بأنها أكبر مشروع عسكري في التاريخ من حيث التكلفة، حيث سيكلف دافعي الضرائب الأمريكيين ما يقرب من تريليوني دولار على مدى عمر البرنامج.
وتأخرت هذه الطائرات سبع سنوات عن الموعد المحدد لها وتجاوزت الميزانية المخصصة لها بمقدار 163 مليار دولار.
ومع ذلك أصر الجيش الأمريكي عليها وهو يقترب الآن من إنتاجها بالكامل بتكلفة إجمالية متوقعة تبلغ 1.7 تريليون دولار بحلول عام 2070. ولكن تظل بها مشكلات مزعجة، مثل صعوبات المحرك وأوجه القصور الخطيرة في الصيانة. وما هو أكثر إزعاجاً أنه ليس بإمكانها الطيران إذا سطع البرق في أي مكان في المنطقة، وهو ما يثير السخرية، بالنظر إلى أنها تحمل اسم Lightning II (أي البرق 2).
وإذا كانت القوات الجوية والبحرية ومشاة البحرية الأمريكية، التي تستخدم أنواعاً من المقاتلة إف-35، ستبقى في مسارها وتشتري أكثر من 2400 من هذه الطائرات، فسيكون ذلك سببه أن لوبي الترويج لمقاتلات إف-35، بما في ذلك المجموعة الخاصة في مجلس النواب، ونقابة العمال الميكانيكيين، التي يصنِّع عمالها الطائرات، ستقاتل بضراوة للحفاظ على البرنامج مُمَوَّلاً بالكامل بصرف النظر عمَّا إذا كان يخدم احتياجات أمننا القومي أم لا.
لنتذكَّر أن إف-35 ليست سوى واحدة من العديد من الموروثات الفاشلة لجهود التحديث لدى البنتاغون. وحتى لو استحوذ البنتاغون على أنظمته الجديدة دون تأخيرٍ أو تجاوزٍ للتكاليف- وهو أمرٌ نادرٌ بالفعل- فإن خطط الإنفاق باهظة الثمن قد أكسبت بالفعل هذا العقد لقب "العشرينيات الرهيبة".
والأسوأ من ذلك أن هناك احتمالاً واضحاً بأن الكونغرس سوف يدفع تلك الميزانية إلى أعلى، استجابةً لـ"قوائم الرغبات" التي يجري تداولها من قِبَلِ كلٍّ من القطاعات العسكرية. والعناصر الموجودة في هذه القوائم، والتي لم تدخل بعد في ميزانية بايدن للبنتاغون تتضمَّن أشياء مثل المزيد من طائرات إف-35!
"قد تكون قائمة الأسلحة الأمريكية الفاشلة والمكلفة"، أكبر من القائمة الموجودة لدى أي جيش آخر.
فثقافة الإلغاء تُطبَّق في كل مكان، إلا في مكان واحد: الجيش الأمريكي، حسبما ورد في تقرير آخر لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
فلا يهم إن كان أداء أحد برامج الأسلحة الرئيسية ضعيفاً، ولا يهم مقدار تجاوزه للميزانية المخصصة له، ولا يهم الوقت الذي يستغرقه لنقله إلى ميدان المعركة، المهم أنه لن يُلغى أبداً.