يستعد آخر جندي أمريكي للانسحاب من أفغانستان بعد 20 عاماً من حرب لم تحقق واشنطن شيئاً من ورائها، لكن السؤال الأبرز الآن: هل انتهت حرب أمريكا الأبدية فعلاً؟
كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد اختار سبتمبر/أيلول المقبل لإكمال انسحاب بلاده من أفغانستان، ليتزامن مع الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية على الأراضي الأمريكية، والتي أطلقت على إثرها واشنطن غزو أفغانستان في نفس العام، في إطار ما سمّته "الحرب على الإرهاب".
ونشرت وكالة Associated Press الأمريكية تقريراً بعنوان "متى تنتهي حرب الولايات المتحدة في أفغانستان حقاً؟"، تناول الموقف على الأرض في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، وتداعيات ذلك الانسحاب على البلاد والمنطقة وواشنطن نفسها.
الحرب في أفغانستان لن تنتهي قريباً
بالنسبة للأفغان فالجواب واضحٌ، ولكنه غير جيد، فالحرب لن تنتهي في وقتٍ قريب، إذ يحقِّق تمرُّد طالبان الجريء مكاسب في ساحة المعركة، بينما تتوقَّف محادثات السلام، يخشى البعض من أنه بمجرد رحيل القوات الأجنبية سوف تغرق أفغانستان بشكلٍ أعمق في الحرب الأهلية، ويتربَّص فرعٌ أفغاني تابع لتنظيم الدولة الإسلامية المتطرِّف بالوضع، رغم تدهور التنظيم.
أما بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها في التحالف، فتظلُّ نهاية اللعبة غامضة، ورغم أن القوات القتالية الأمريكية تنسحب، و20 عاماً من العتاد الحربي المتراكم سوف تختفي قريباً، ستكون لدى قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال فرانك ماكنزي، السلطة حتى سبتمبر/أيلول للدفاع عن القوات الأفغانية ضد طالبان. ويمكنه ذلك عن طريق إصدار أوامر بشنِّ ضرباتٍ بالطائرات الحربية الأمريكية المتمركزة خارج أفغانستان، وفقاً لمسؤولين دفاعيين، اشترطوا عدم الكشف عن هويتهم، ناقشوا تفاصيل التخطيط العسكري الخميس 1 يوليو/تموز.
وقال مسؤولون أمريكيون، الجمعة 2 يوليو/تموز، للوكالة الأمريكية إن الجيش الأمريكي غادر قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان بعد نحو 20 عاماً. كانت المنشأة بؤرة الحرب لإطاحة طالبان ومطاردة أعضاء تنظيم القاعدة المتورِّطين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة. وقال مسؤولان تحدَّثا شرط عدم الكشف عن هويتهما لأنهما غير مُخوَّلين بالكشف عن التسليم لوسائل الإعلام، إن القاعدة الجوية سُلِّمَت إلى قوات الأمن والدفاع الأفغانية بالكامل.
ما أهمية قاعدة باغرام؟
قد يجرِّد قرار جو بايدن بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان الولايات المتحدة من قاعدة باغرام الجوية ذات الأهمية الاستراتيجية. لسنواتٍ طويلة كانت القاعدة تنفِّذ عملياتٍ جوية تكتيكية لدعم القوات الأمريكية والأفغانية. تقع القاعدة التي بناها السوفييت عندما احتلوا أفغانستان في الثمانينيات على بُعدِ 40 كيلومتراً شمال كابول، وتتمتَّع بمساحةٍ هائلة، حيث تغطي حوالي 30 ميلاً مربعاً. ويمكن أن يستوعب مدرَجها، البالغ طوله 12 ألف قدم (3.6 كيلومتر)، الطائرات العسكرية الأمريكية من أيِّ حجم، حيث يمكن للطائرات الكبيرة والطائرات القاذفة أن تُقلِع وتهبط.
ويتمتَّع موقع القاعدة بأهميةٍ استراتيجيةٍ أيضاً، ليس أقلها أن القاعدة تقع على بُعدِ حوالي 400 ميل غرب الصين، وحوالي 500 ميل شرق إيران. ويُعَدُّ هذا موقعاً جيِّداً لتستحوذ الولايات المتحدة على أصلٍ فيه. ولا يمكن وصف إبقاء القاعدة مفتوحة على أنها استفزاز، نظراً لأنها موجودةٌ منذ سنوات، لكن تشغيل هذه القاعدة يتطلَّب وجوداً عسكرياً مستمراً في أفغانستان، ما يضمن عدم تحوُّل البلاد مرةً أخرى إلى قاعدةٍ للجماعات التي تصنف على أنها "إرهابية".
وتذكر شبكة BBC البريطانية أن قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة انتقلت إلى القاعدة خلال ديسمبر/كانون الأول 2001، وطوَّروها لتصبح قاعدةً ضخمة قادرة على استيعاب ما يصل إلى 10 آلاف جندي.
وتتمتَّع القاعدة أيضاً بـ100 موقف للطائرات، وهي محمية بجدران مضادة للانفجار، ولديها مستشفى يتسع لـ50 سريراً مع غرفةٍ لعلاج الإصابات، وثلاث غرف عمليات، وعيادة أسنان حديثة.
وتضم مباني القاعدة مرفق السجن الرئيسي للأشخاص الذين احتجزتهم القوات الأمريكية في ذروة الحرب، والذي أصبح يُعرَف بـ"غوانتانامو الأفغاني"، على اسم السجن العسكري الأمريكي سيئ السمعة في كوبا.
وكانت قاعدة باغرام أحد المواقع التي حدَّدَها تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي حول استجواب وكالة الاستخبارات المركزية لمُشتَبَهين من القاعدة، بما في ذلك استخدامهم التعذيب في مرافق الاحتجاز.
ماذا تبقَّى من المهام القتالية في أفغانستان؟
من الناحية الفنية، لم تشارك القوات الأمريكية في القتال البري في أفغانستان منذ العام 2014، لكن قوات مكافحة الإرهاب تطارد وتضرب المتطرِّفين منذ ذلك الحين، بما في ذلك الطائرات المتمركزة في أفغانستان. واختفت هذه الضربات الجوية الآن، وستجري الضربات، إلى جانب أيِّ دعمٍ لوجستي للقوات الأفغانية، من خارج البلاد.
أما داخل أفغانستان فلن تكون القوات الأمريكية موجودةً لتدريب القوات الأفغانية أو تقديم المشورة لها، وستعمل وحدةٌ أمنية أمريكية كبيرة قوامها 650 جندياً، متمركزة في مجمع السفارة الأمريكية، على حماية الدبلوماسيين الأمريكيين، وربما تساعد الوحدة في تأمين مطار كابول الدولي. ومن المُتوقَّع أن تواصل تركيا مهمتها الحالية المتمثِّلة في توفير أمن المطارات، لكن ماكنزي ستكون لديه سلطة الاحتفاظ بما يصل إلى 300 جندي إضافي لمساعدة تركيا في تلك المهمة حتى سبتمبر/أيلول.
ومن الممكن أيضاً أن يُطلَب من الجيش الأمريكي المساعدة في أيِّ إجلاءٍ واسع النطاق للأفغان، الذين يسعون للحصول على تأشيرات هجرة خاصة، رغم أن الجهود التي تقودها وزارة الخارجية قد لا تتطلَّب جسراً جوياً عسكرياً. ويشعر البيت الأبيض بالقلق من أن الأفغان الذين ساعدوا المجهود الحربي الأمريكي، وبالتالي هم عرضة لعقوبة طالبان، لن يُترَكوا وراءهم.
وعندما تقرَّرَ في أبريل/نيسان إنهاء الحرب الأمريكية، أعطى الرئيس الأمريكي جو بايدن البنتاغون مهلةً حتى 11 سبتمبر/أيلول لاستكمال الانسحاب. وبالفعل أنهى جنرال الجيش المسؤول في كابول، سكوت ميلر، ذلك بالأساس، مع انسحاب جميع المعدَّات العسكرية تقريباً، بينما يظلُّ عددٌ قليلٌ من القوات هناك.
ومن المُتوقَّع أن يغادر ميلر نفسه في الأيام المقبلة، لكن هل هذا يشكِّل نهايةً للحرب الأمريكية في أفغانستان؟ مع وجود ما يصل إلى 950 جندياً أمريكياً في البلاد حتى سبتمبر/أيلول، واحتمال استمرار الضربات الجوية، فإن الإجابة على الأرجح ليست نعم.
نهاية الحرب في أفغانستان، أم بدايتها؟
على عكس أفغانستان، تنتهي بعض الحروب مُفسِحةً الطريق أمام حالةٍ من الازدهار. انتهت الحرب العالمية الأولى مع الهدنة المُوقَّعة مع ألمانيا في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 -وهو اليوم الذي يُحتَفَل به الآن كعطلةٍ رسمية على المستوى الفيدرالي في الولايات المتحدة- والتوقيع لاحقاً على معاهدة فرساي.
وشهدت الحرب العالمية الثانية احتفالاتٍ مزدوجة عام 1945، مع استسلام ألمانيا، وهو ما أصبح يوم النصر في أوروبا، واستسلام اليابان بعد بضعة أشهر، وهو ما أصبح يوم النصر على اليابان، بعد القصف الذري الأمريكية لهيروشيما وناغازاكي. وفي كوريا أنهت الهدنة المُوقَّعة في يوليو/تموز 1953 القتال، رغم أنه من الناحية الفنية عُلِّقَت الحرب فقط لأنه لم يُوقَّع على معاهدة سلام على الإطلاق.
كانت النهايات الأخرى أقل وضوحاً. سحبت الولايات المتحدة قواتها من فيتنام عام 1973، فيما يعتبرها كثيرون حرباً فاشلةً انتهت بسقوط سايغون بعد ذلك بعامين. وعندما غادرت قوافل القوات الأمريكية العراق عام 2011، عُقِدَت مراسم كانت بمثابة رحليهم النهائي، لكن بعد ثلاث سنوات فقط، عادت القوات الأمريكية لإعادة بناء القوات العراقية التي انهارت تحت هجمات متشدِّدي تنظيم الدولة الإسلامية.
لكن مع اقتراب الحرب الأمريكية في أفغانستان على نهايتها لن يكون هناك استسلامٌ أو معاهدة سلام، ولا نصر نهائي ولا هزيمة حاسمة. يقول بايدن إنه كان كافياً أن تفكِّك القوات الأمريكية القاعدة وتقتل أسامة بن لادن، زعيم الجماعة الذي يُعتَبَر العقل المدبِّر لهجمات 11 سبتمبر/أيلول.
وفي الآونة الأخيرة، تصاعَدَ العنف في أفغانستان، وتصاعَدَت هجمات طالبان على القوات الأفغانية والمدنيين، وسيطرت الجماعة على أكثر من 100 مركز محلي. وقال قادة البنتاغون إن هناك خطراً "متوسِّطاً" يتمثَّل في انهيار الحكومة الأفغانية وقواتها الأمنية في غضون العامين المقبلين.
ويصرُّ قادة الولايات المتحدة على أن السبيل الوحيد لتحقيق السلام في أفغانستان هو من خلال تسويةٍ تفاوضية. ووقَّعَت إدارة ترامب اتفاقاً مع طالبان في فبراير/شباط 2020، ينصُّ على أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها بحلول مايو/أيار 2021 مقابل وعودٍ من طالبان، بما في ذلك منع تحويل أفغانستان مرةً أخرى إلى ساحةٍ لانطلاق الهجمات على الولايات المتحدة. ويقول المسؤولون الأمريكيون إن طالبان لا تلتزم بجزئها من الصفقة بشكلٍ كامل، حتى مع استمرار الولايات المتحدة في انسحابها.
ماذا عن دور الناتو هناك؟
بدأت مهمة "الدعم الحازم" لحلف الناتو لتدريب قوات الأمن الأفغانية وتقديم المشورة والمساعدة لها عام 2015، حين أُعلِنَ انتهاء المهمة القتالية بقيادة الولايات المتحدة. في تلك المرحلة تولَّى الأفغان المسؤولية الكاملة عن أمنهم، لكنهم ظلوا معتمدين على مليارات الدولارات سنوياً من المساعدات الأمريكية.
وفي ذروة الحرب، كان هناك أكثر من 130 ألف جندي في أفغانستان من 50 دولة من دول الناتو ودولٍ شريكة. وتضاءَلَ ذلك إلى حوالي 10 آلاف جندي من 36 دولة لمهمة الدعم الحازم، واعتباراً من هذا الأسبوع سحبت معظم الدول قواتها. وقد يرى البعض أن الحرب تنتهي عندما يُعلَن انتهاء مهمة الناتو، لكن هذا قد لا يحدث على مدار أشهر مقبلة.
وبحسب المسؤولين، تتفاوض تركيا على اتفاقٍ ثنائي جديد مع القادة الأفغان من أجل البقاء في المطار لتوفير الأمن. وإلى أن يُنتَهَى من هذا الاتفاق تبقى السلطات القانونية الخاصة بالجنود الأتراك المقيمين في أفغانستان تحت رعاية مهمة الدعم الحازم.
ولا يعني انسحاب القوات الأمريكية نهايةً "للحرب على الإرهاب". أوضحت الولايات المتحدة أنها تحتفظ بسلطة شنِّ ضرباتٍ ضد القاعدة أو الجماعات الإرهابية الأخرى في أفغانستان إذا كانت تهدِّد الولايات المتحدة.
ولأن الولايات المتحدة سحبت مقاتلاتها وطائراتها الاستطلاعية من البلاد، فعليها الآن الاعتماد على الرحلات الجوية بطيَّار ومن دون طيَّار من السفن في القواعد الجوية والبحرية في منطقة الخليج، مثل قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات. ويبحث البنتاغون عن قواعد بديلة لطائرات المراقبة وغيرها من الأصول في البلدان الأقرب إلى أفغانستان، لكن حتى الآن لم يتم التوصُّل إلى أيِّ اتفاقات.