منذ يومين، كان السيسي في زيارة إلى موقع تجهيز المعدات العسكرية المدنية التي يفترض أن تشارك في مشروع تطوير الريف المصري، وسط حضور عسكريٍّ وحكوميّ واسع وتغطيةٍ إعلامية كبيرة.
في هذه الزيارة، أدلى السيسي بتصريحاتٍ مُقتضبة عن حجم المشروع، وتكلفته، وفلسفته؛ مما طرح بدوره، مزيداً من الأسئلة بخصوص الحقيقة من وراء هذا العمل.. وما السبب وراء إطلاقه؟ وما الذي يخطط له السيسي؟ وما سرّ التوقيت؟ وغير ذلك من الأسئلة.
ثورة القرى
ما نعرفه أنَّ السيسي أطلق مشروعين قوميين بشكل متزامن تقريباً، أحدهما في مجال المقاولات العامة والآخر في مجال الإسكان، هما مشروعا تطوير الريف المصري، ومشروع "سكن كلِّ المصريين" العقاريِّ.
هذان المشروعان، بغضّ النظر عن جذورهما، لم يكونا مطروحين، على هذا النحو الذي طُرحا عليه قبل تقديمهما للرأي العامّ، ما يعني، باختصار، أنّ هناك ما استدعى طرحهما معاً تقريباً في هذا التوقيت المتزامن.
لا يعني التزامن في حدّ ذاته وجودَ علاقةٍ "حتمية" بين الحدثين. هذا معروف ومفهوم. ولكنّ كثيراً من "القرائن" الأخرى ترجح أنّ هناك علاقة ما بين الحدث الأول، وهو مظاهرات المقاول الثانية سبتمبر/أيلول 2020، والتي خرج المتظاهرون فيها من أماكن بعيدة عن المركز، شباباً وأطفالاً ورجالاً، "بالجلاليب" مُشتبكين مع قوات الأمن، إلى حدّ سقوط قتلى من جانب المتظاهرين، احتجاجاً على أسلوب تعامل النظام في ملفّ "قانون التصالح على مخالفات البناء".. وبين الحدث الثاني، وهو إطلاق هذه المشروعات الضخمة ذات الطابع القوميِّ والشموليّ.
في انتفاضة سبتمبر/أيلول الأولى عام 2019، التي خرج فيها المتظاهرون، احتجاجاً على الاتهامات الموجهة للسيسي، بالفساد، مدعومةً بقرائن ساقها المقاول محمد علي، الذي عمل مع الجيش لفترة طويلة، حال وجود السيسي في الخارج إلى زيارةٍ للولايات المتحدة، بعدما أقرَّ بمضمون اتهامات المقاول بلُغةٍ عنترية أمام الرأي العام؛ اضطرَّ النظام، بعدها مباشرةً، إلى تقديم "تنازلاتٍ" فورية، على مستوى الخطاب والسُّلوك، منها عودة الملايين إلى بطاقات الدعم العينيِّ وتخفيض أسعار المحروقات.
بعد مظاهرات الانتفاضة الثانية، وخلالها، كان هناك تقديرٌ أمنيٌ وسياديٌّ لخطورة احتجاج المواطنين وخروجهم إلى الشارع، استجابةً لدعوة المقاول، للمرة الثانية في نفس التوقيت من العام التالي، وسط حالةٍ عامة من الفوران والغضب ضدّ "تهجير" السكان الرافضين أو غير القادرين على دفع فاتورة التصالح.
ألمح السيسي إلى هذا التقدير في تلويحهِ بالاستعانة بالجيش "لإبادة" المخالفات في القرى، بعد استشعار أجهزة الأمن الداخلي غير العسكرية خطورة الصدام مع المواطنين وحدها. وبعد استجابة الناس لدعوة المقاول، عاد من جديد، الاتجاه إلى "التهدئة" واستيعاب المواطنين، بدلاً من الصدام معهم، وهي نفس المتوالية التي حدثت في سبتمبر/أيلول. تصعيد شديد من النظام، خروج شعبيّ غير بسيط رغم التشديدات الأمنية، ثم تنازلات من جانب النظام لاستيعاب غضب الشارع.
قدم النظام تسهيلاتٍ كبيرة فيما يخصّ طريقة دفع قيمة التصالح على المباني المخالفة، قياساً على الصيغة الأولى للقانون، ونزل نوابٌ وأمنيونَ إلى "القرى" يحذرون الأهالي من عواقب الفوضى على المجتمع بأسره، ويبشرونهم بتحسين الأحوال نوعياً، طالما أنَّ الأمور لم تخرج عن السيطرة كلياً.
في هذا السياق الاستيعابيّ، يمكن اعتبار أنَّ إطلاق هذين المشروعين القوميين المشار إليهما، الريف الجديد وسكن كلّ المصريين، معاً، بعد موجة سبتمبر/أيلول الثانية، ليس من قبيل التزامن الاعتباطيّ، خاصة في ظلِّ عدم إطلاقهما قبل هذا التوقيت من جهة، وحاجة النظام الحاكم إلى مشروعات ذات صبغة "قومية" يقدم من خلالها نفسه من جديد إلى الإدارة الأمريكية الجديدة التي تتشكّكُ في "شرعية" ذلك النظام الذي لا يولي أي اعتبارات لمسألة حقوق الإنسان، ويزايدُ على المجتمع الدوليّ بأنَّ حقوق الإنسان الحقيقية هي: الاستقرار والتشغيل والإسكان، وليست حقوق الإنسان السياسية والاجتماعيّة بالمعنى الغربيّ.
وفقاً للحكومة، يستهدف مشروع "تطوير الريف المصريّ" تحسين حياة أكثر من 50 مليون مواطن ريفيّ، من كافة الاتجاهات، بقيمة إجمالية قد تتجاوز 600 مليار جنيه، خلال 3 أعوام فقط، وهو بذلك أكبر مشروع من نوعه على مستوى العالم، فيما يستهدف مشروع "سكن كلّ المصريين" الذي أطلق نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، توفير ما لا يقلّ عن نصف مليون وحدة سكنية جديدة متنوعة، باستغلال عواصم المحافظات والأراضي غير المستغلة، بقيمة 250 مليار جنيه، خلال نفس المدة التي يفترض أن ينتهي فيها مشروع الريف الجديد، 3 سنوات.
شأن معظم المشروعات التي طرحها نظام السيسي، فإنَّ مشروع الريف المصري الجديد ما هو إلا تطويرٌ لمشروع جمال مبارك، نجل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والذي طرحه قبل الثورة بـ4 سنوات
مشروعات جمال مبارك
قبل هذا السياق الزمنيّ، لم تكن تلك المشروعات مطروحةً على أجندة الحكومة. يمكن استخدام محركات البحث في ثوان للتأكد من توقيتات إطلاق تلك المشاريع. ومع ذلك، فإنه من غير المعقول أن تكون هذه المشروعات ظهرت من العدم خلال الأسابيع القليلة التالية لانتفاضة سبتمبر/أيلول الثانية.. فمن أين جاءت إذاً؟
شأن معظم المشروعات التي طرحها نظام السيسي، فإنَّ مشروع الريف المصري الجديد ما هو إلا تطويرٌ لمشروع جمال مبارك، نجل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والذي طرحه قبل الثورة بـ4 سنوات، خلال إرهاصات تمرير التوريث، تحت مسمى مشروع "تطوير الألف قرية الأكثر احتياجاً".
في وقت لاحق، حاولت حكومة هشام قنديل في عهد الرئيس مرسي إحياء نفس المشروع، عام 2012، بنفس الاسم، ونفس فكرة التمويل (إعادة ترتيب أولويات الميزانية داخلياً)، مع زيادة عدد القرى، بحيث تتجاوز الـ1100 قرية، والبداية بقرى في محافظتي بني سويف والشرقية؛ غير أنَّ الانقلاب العسكريَّ في يوليو/تموز 2013، عرقل المشروع كغيره من مشروعات تلك الحقبة.
ولما احتاج السيسي إلى المشروع، أعاد إحياءهُ من جديد، ولكن بشكل أضخم، ليشملَ كامل الريف المصريِّ، وبميزانيةٍ مهولة، كعادة مشروعات السيسي، وجدول زمنيٍّ مضغوط للغاية، حاشداً كلَّ مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، كما رأينا، خلف هذا المشروع.
وفي الحقيقة، كثيرٌ من المشاريع القومية التي أطلقها نظام السيسي، وروج أنصاره إلى أنها مشروعات فريدة، هي في الحقيقة تعود إما إلى نظام مبارك، أو إلى خطة جمال مبارك لتقديم نفسه رئيساً محتملاً للبلاد.
مشروعات نظام السيسي تتميز بـ"عسكرةٍ" غير مسبوقة، ورؤية سياسية لإعادة رسم ديموغرافية البلاد على نحو يحولها إلى أحد أكبر السجون المفتوحة ومجتمعات المراقبة في العالم، "بانوبتيكون مصري" دون مبالغة.
ناهيك عن كون بعض هذه المشروعات الأصل فيها هو الاتصال الزمنيُّ بالفعل، بعيداً عن هُوية النظام والرئيس الحاكم، مثل خطوط مترو الأنفاق وتطوير محور قناة السويس؛ فإنَّ أنصار النظام روجوا لاختراع السيسي مشروعات هي في الأصل تعود لسابقيه، مثل مشروع "العاصمة الإدارية الجديدة" الذي كان يخطط جمال مبارك لطرحه باسم "القاهرة 2050″، وإعادة افتتاح مواقع عسكرية كانت موجودة مسبقاً، بعد تطويرها من نظام السيسي، مثل قاعدة "محمد نجيب" العسكرية شمال غرب البلاد، والتي كانت ملتقى القوات الأجنبية المشاركة في مناورات "النجم الساطع" إبان حكم مبارك، وبالتبعيَّةِ مشروع تطوير الريف الذي طرحه السيسي بنسخةٍ محسنة مؤخراً.
عسكرة المجتمع وإعادة رسم الديموغرافيا المصرية أمنياً
بالإضافة إلى توسعة هذه المشاريع ومضاعفة تمويلاتها وسرعة إنجازها، مقارنة بالصيغ الأولية التي طرحها أصحابها في السابق، فإن مشروعات نظام السيسي تتميز بـ"عسكرةٍ" غير مسبوقة، ورؤية سياسية لإعادة رسم ديموغرافية البلاد على نحو يحولها إلى أحد أكبر السجون المفتوحة ومجتمعات المراقبة في العالم، "بانوبتيكون مصري" دون مبالغة.
كما هو معروف، فإنَّ أحد أغراض تدشين العاصمة الإدارية الجديدة على هذا النحو الموجود الآن، هو بُعدها عن العاصمة القديمة شرقاً، وبنيتها الأمنية فائقة التطور ميدانياً ومعلوماتياً بالنظر إلى القاهرة التاريخية، التي يجري- أيضاً- الآن محاولة تطويرها بشكل ينزع عنها خصائصها الاجتماعية والاقتصادية القديمة، ومن ثمَّ استبدالها بنطاقاتٍ وأحيـزة أكثر قابلية للضبط والتنظيم، وهو ما يحدث كذلك مع ما كان يعرف بالعشوائيات الخطرة، التي يعيد النظام تنظيمها لترقى إلى ما يشبه مجتمعات "السجون الخطرة" في الخارج، من حيث جودة الحياة المقبولة نسبياً، والإخضاع للرقابة والسيطرة، بعيداً عن أيِّ تدخل مدني غير مخطط، جيداً كان أم سلبياً، في الأسمـرات وغيط العنب وبشاير الخير.
نتحدث عن وحدات سكنية ثابتة المساحة، مشطبة مسبقاً، ثابتة الارتفاع، محددة المسافات البينية، ذات طلاء موحد، على أرض مملوكة للدولة، غير قابلة للتملُّك من السكان، مُرفقة بواسطة شركات الجيش أو بواسطة شركات مدنية عملت تحت إشرافه، ومزودة بمتطلبات الحياة الأساسية، تعليمياً وصحياً وأمنياً ورياضياً ودينياً واقتصادياً، بشكل مرسوم بدقة، على نحوٍ يجعلها أشبه بـ"المستوطنات"، بيد أن سكانها في الواقع مصريون.
غير أنَّ الأمثلة الأبرز على محاولة مدِّ مجتمعات المراقبة هذه، بامتداد الإقليم المصريِّ، وعسكرتها من حيث التنفيذ والتملك، وإخضاعها للسيطرة من حيث الأنشطة الاقتصادية، مع رفع كفاءة الخدمات الأمنية فيها، هو ما حدث خلال الأعوام السابقة في شمال سيناء، حيث أزال الجيش ما يزيد عن 12 ألف وحدة سكنية وتجارية في نطاق مدينتي رفح والعريش لأسباب أمنية، ويجري الآن العمل على استبدالها بما يعرف بـ"التجمعات البدوية الحديثة" التي تتسم بالحوكمة في الحيازة والتخطيط، والعسكرة في التنفيذ، والضبط في طبيعة الأنشطة الاجتماعية. يقول النظام إنه ينفق 600 مليار جنيه على تغيير ديموغرافية سيناء بغرض تجريدها من خصائصها المُولِّدة للعنف والإرهاب وتشذيبها من جديد، من بينها ما لا يقلّ عن 6 مليارات جنيه للتجمعات البدوية.
وفي الاتجاه الآخر، شمال غرب البلاد، يحدث أنَّ "القوات الجوية" نفسها تدير أكبر مشروع زراعيٍّ في البلاد، والمعروف باسم "مستقبل مصر"، والذي يتفرع عن مشروع "الدلتا الجديدة".. ما علاقة سلاح الجوّ بالمشروعات الزراعية؟
يقول النظام إنَّ المشروع واقعٌ في نطاق قاعدة غرب الجوية التي يوجد فيها 500 فدان من الصوب الزراعية، ويشرف على هذا المشروع قائد سلاح الجو المصري شخصياً، رفقة كل من اللواء أمير سيد أحمد، مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمراني، واللواء إيهاب الفار، رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، أهمّ اسمين في قطاع المقاولات المصري الآن، والمشرفان على أعمال القطاعات المدنية المعاونة في هذا المجال.
وقد بدأ العمل في هذا المشروع الذي يهدف لاستصلاح أكثر من 2 مليون فدان بطرق غير تقليدية في أنماط الزراعة والريّ، بقيمة تصل إلى 300 مليار جنيه، بشكل "غير معلن" عام 2017، حيث لم يُكشف عن هذا المشروع رسمياً إلا مع بدء اجتماعات السيسي بقائد القوات الجوية للاطلاع على مستجدات أحد المشروعات الزراعية على طريق الضبعة، ثم زيارته (السيسي) لهذا المشروع مؤخراً لمتابعة موسم الحصاد.. ليصبح المجتمع مقسماً إلى مشروعات عملاقة، في كلِّ إقليم، في الإسكان أو المقاولات، يشرف عليها الضباط، وتُصمم على نحو يراعي المتطلبات الأمنية، بمبالغ ضخمة للغاية، تصل إلى ميزانية بعض الدول، دون أيّ إشراف رقابيّ، في مصداق عمليّ لمقولة يزيد صايغ عن "جمهورية الضباط".
كذلك، أحكم النظام قبضته على حركة "العمران" في البلاد من خلال القرارات الأخيرة الخاصة بمنع البناء في المحافظات الكبرى، وإجبار المواطنين على "التصالح" على الوحدات المخالفة بأثر رجعيٍّ، ومشاركة القطاع الخاصّ (كبار المطورين العقاريين) في مشروعاتهم العملاقة، كما بدأ في ضبط حركة "السكان" الرافد الثاني للديموغرافيا التي تتألف من عنصريّ الإسكان والسكان، من خلال خطة لتقليل معدلات المواليد إلى 400 ألف سنوياً خلال 10 أعوام، وربط ذلك مستقبلاً بأحقية الدعم من عدمه، مع تسويـغ عدم الشعور بعوائد التنمية عبر عزو ذلك إلى الزيادة السكانية التي ينبغي كبحها، بالتعاون بين مؤسسات الدولة المختلفة، الدينية والإعلامية وأجهزة إنفاذ القانون.
ولن يقتصر الضبط على ذلك؛ فالسيسي يمتلك مشروعاً طموحاً لرقمنة كلّ الخدمات الحكومية، بحيث تصبح حركة الأموال في المجتمع خاضعةً بشكل شبه كامل لرقابة الدولة، بما يضمن تحصيل كلّ جنيه من المواطن على "داير مليم" كما يقولون، كما أنَّ كلّ الاحتياجات الأساسية ستكون مسبقة الدفع، كالكهرباء والغاز والمياة، تطبيقاً لمقولة: "مفيش ببلاش، خلاص، هتدفع هوريك اللي عمرك ما شفته".
ويخطط السيسي إلى ضمان استدامة هذا الضبط المحكم على كافة الأصعدة من خلال برنامج ما يعرف بتأهيل "الشخصية المصرية، والأسرة المصرية"، تعليمياً ورياضياً ودينياً، لتلقين النشء الجديد ثوابت عن: ضرورة احترام كافة مؤسسات الدولة، من أصغر وحدة محلية حتى رئاسة الجمهورية، كما يقول السيسي نصاً، والتحذير من مخاطر "حروب الجيل الرابع" والفكر المتطرف ومواقع التواصل الاجتماعي، والحثّ على الوحدة الوطنية وقيم المجتمع المصري، وتدعيم البرامج الحكومية لتأهيل قدرات الشباب، بحيث يصبح بمقدور هؤلاء الشباب المشاركة في بعض الأنشطة التي تبدو مهمة من الخارج ولكنها فارغة المضمون، إلى آخر هذه العبارات البراقة ذات الحمولة السياسية المحافظة.
لن يترك السيسي أمراً، إلا وسيزجّ نفسه فيه، لإحكام السيطرة على المجتمع، موارد وبشر، عمران ومواصلات، حتى أجساد المواطنين لن يتركها، فلا مكان للبدناء في "الجمهورية الجديدة"، ولعلَّ ما نراه الآن من استبعاد للموظفين، من أصحاب البنية الجسمية غير الرياضية والمُشتبه في سوائهم الأخلاقيِّ والسياسيِّ، لهو أبرز انعكاس لهذه التصورات والمشاريع الشمولية.
يقول السيسي نصاً في أحد مؤتمرات الشباب خلال ندوة تحت عنوان: "استراتيجية بناء الإنسان المصريِّ": "الشخصية المصرية استُهدفت على مدى سنوات، ما أثر بشكل كبير على مجتمعنا، المجتمع المصري يحتاج إلى الحفاظ على الهُوية المصرية"، وفي مناسبة أخرى مشابهة يقول: "إذا كنا نخاف على مستقبل مصر، لا بد أن ننتبه إلى دور الوسائل الحديثة في التأثير على الشخصية، المدرسة لا تستطيع أن تقوم بالبناء بمفردها، فلا بدّ من تكاتف وترابط المجتمع من أجل بناء الشخصية، هناك دور يقع على عاتق المسجد والكنيسة والإعلام والأسرة".
العسكرة والضبط والشمولية كلمات مفتاحية أساسية لتفسير سلوك السيسي في المجتمع عامة، والريف خاصة، والتنبؤ به. يبني السيسي مملكةً عسكرية، حتى لو ادعى أنها جمهورية، تتسم بالاستقرار والاستدامة والمأمونية البنيوية من أي تحركات جماهيرية مفاجئة، حتى لو اتفق الجميع على تنفيذها، فما حدث في يناير/كانون الثاني 2011 غير مقبول تكراره، كما قال السيسي في أكثر من مناسبة.
ويُلخص مستشاره للشؤون النفسية أحمد عكاشة، المخيال المثالي للإنسان المرجوّ في عقل السيسي، فكراً ووجداناً وبدناً، ضمن سياقه الاجتماعيّ التنظيميّ، بالقول: "إن المؤسسة العسكرية المصرية هي الوحيدة التي يتوافر فيها شروط تجاوز الذات والمصداقية والتعاون والانضباط".
بالعودة إلى الريف المصريِّ؛ فإنّ المستهدف، بعد تحديث الريف المصريّ رقمياً وإمدادهِ بالخدمات المعيشية الأساسية، هو إدخاله في منظومة الرقابة المالية والأمنية للسلطة المركزية، وإعادة هيكلة أوضاعه الاجتماعية، بحيث تقلُّ الهجرة منه إلى المدن، ويصبح أكثر تجاوباً مع خطة خفض المواليد المستهدفة، ووقف حركة التمدد العمرانيِّ الأفقيّ فيه؛ خاصة تلك المعتدية على الأراضي الزراعية، وإخضاعهِ إدارياً إلى سلطة الجيش.
نلاحظ هنا أنَّ السيسي تطرق للمرة الثانية إلى العادات الاجتماعية التي لا تعجبه في الريف، والتي يفترض أن تتغير بتغير طبيعة المجتمع هناك، بعيداً عن جهود التوعية النظرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن هناك منظومةً يجري العمل عليها "لحصر وإدارة الثروة العقارية" في البلاد، بهذا الاسم، كانت تجد مشاكل سابقاً في العمل داخل الريف، من المفترض أنها ستتمكن من عمل مسح ميداني شامل لطبوغرافية الريف المصريِّ بواسطة "إدارة المساحة العسكرية" التي تشرف أيضاً في الوقت الحالي على متابعة تنفيذ قرار حظر البناء دون ترخيص، وأنه تحدث عن تفاصيل غاية في الدقة مثل توحيد طلاء البيوت، وصولاً إلى انتداب ضابط لكلِّ قرية، وهو التطور الأخير في سلسلة إجراءات وتعليمات لتوسيع صلاحيات الحكام العسكريين في المحافظات، وتوجيهات بمراقبة كبار الضباط للمشاريع داخل نطاقات عملهم، وتوسيع صلاحيات النيابات العسكرية، وصولاً إلى هذه النقطة: ضابط لكل قرية، والتي لا يُعرف إذا ما كانت ذروة العسكرة المستهدفة أم أنّ هناك مستويات أخرى لم تُعلن بعد.
إذاً فالعسكرة والضبط والشمولية كلمات مفتاحية أساسية لتفسير سلوك السيسي في المجتمع عامة، والريف خاصة، والتنبؤ به. يبني السيسي مملكةً عسكرية، حتى لو ادعى أنها جمهورية، تتسم بالاستقرار والاستدامة والمأمونية البنيوية من أي تحركات جماهيرية مفاجئة، حتى لو اتفق الجميع على تنفيذها، فما حدث في يناير/كانون الثاني 2011 غير مقبول تكراره، كما قال السيسي في أكثر من مناسبة.
سدّ النهضة والعاصمة الجديدة
لمشروع الريف الجديد الذي يتبناه نظام السيسي علاقةٌ مباشرة بكلّ من سدّ النهضة والعاصمة الإدارية الجديدة، فمن جهة، من المعروف أنَّ مصر تعاني من الفقر المائيّ، وهو مصطلحٌ تقنيٌ حقيقيّ وليس مجازاً، بعيداً حتى عن مشروع إثيوبيا لحجز 74 مليار متر مكعب خلف السدّ خلال عدة سنوات من أجل توليد الكهرباء.
بدأت إثيوبيا بالفعل في الملء الثاني، أحادياً، دون التنسيق مع دولتيّ المصبّ، مصر والسودان، ودون التوصل لاتفاقٍ ملزم ينظم عملية ملء وتشغيل السدّ، وفي أحسن الأحوال، فإنَّ النظام المصريَّ متصالحٌ مع ما يُعرف بـ"الضرر غير ذي الشأن" حال التوصل إلى اتفاق مع الجانب الإثيوبيّ. ضرر غير ذي شأن، يعني نقصاً مؤقتا في حصة مصر الثابتة من المياه والبالغة 55 مليار متر مكعب من المياه.
للتعامل مع هذه الأزمة، الشحّ المائيّ الجذريّ وأضرار السدّ الإثيوبيّ، بدأ النظام المصريُّ استثمار أموال ضخمة للغاية في توفير مصادر غير تقليدية من المياه، مثل إعادة معالجة مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر وتبطين الترع وتحديث منظومة الريّ وحظر زراعة الحاصلات المستهلكة للميـاه.
على حدّ قول السيسي، فالساحلُ المصريُّ بات يعتمد بشكل شبه كليّ على معالجة مياه البحر، لا سيما المدن الجديدة، مثل العلمين، ويعمل النظام، أيضاً، على تدشين أكبر محطتيّ معالجة لمياه الصرف الصحي على مستوى العالم، في الإسماعيلية والحمام شمال غربي البلاد لزراعة آلاف الأفدنة في الاتجاهين الشرقي والغربي، شمال البلاد.
ما يخصّ الريف المصريَّ في هذه الخطة لإعادة هيكلة الموارد، هو تبطين الترع والريّ الحديث وتقليل الزراعات المستهلكة للمياه، وبالفعل، بدأ الريف المصريُّ يجني أشواك مشروع سدّ النهضة مبكراً، حيث من المقرر أن تعمل الحكومة، وقد شرعت في ذلك بالفعل، على تبطين 20 ألف كم من الترع، بتكلفة تناهز 70 مليار جنيه، وإجبار المزارعين على تطبيق الريّ المميكن، من خلال قروض ميسرة، لتحويل ما يصل إلى مليون فدان للري بالتكنولوجيا الحديثة، مع عقوبات على المخالفين كما ينصّ القانون الجديد، وتدخل، رسمياً كما تقول بيانات الحكومة، هذه المشاريع المائية، ضمن مشروع تطوير الريف المزمع الشروع فيه، حيث ينتظر أن تكون الخطة المائية اكتملت، خلال 3 سنوات، هي مدة اكتمال مشروع الريف الجديد.
أمّا عن علاقة مشروع الريف الجديد، بالعاصمة الإدارية؛ فإنه بعيداً عن انضواء كلا المشروعين تحت مظلة "إعادة رسم الديموغرافيا المصرية أمنياً" كما سبق شرحه؛ فإنّ لدى النظام خوفاً من أن تؤدي افتتاحاتهُ لمشروعات العاصمة في المستقبل القريب، إلى سخط شعبيّ واسع، استناداً إلى السردية التي كثفتها مقولة المرحوم- بإذن الله- أحمد خالد توفيق عن الهروب من العاصمة القديمة، إلى عاصمة أكثر تطوراً وتحصيناً، مقابل ترك باقي أرجاء الوطن يضربها الفقر والخراب.
ليس ذلك مجرد استنتاج مبني على فهم طبيعة النظام الحالي وأنماط تفكير القائمين عليه، وإنما، أيضاً، هو مخطط معلن للتخفيف من حدة الغضب الشعبي المرتقب من جراء مشاهدة حفلات افتتاح المباني الفارهة والقصور المنيفة التي أُنفق عليها المليارات في العاصمة الجديدة خلال الأسابيع المقبلة.
في مكالمة هاتفيةٍ مع عمرو أديب وأكثر من مناسبة مؤخراً، استبق السيسي هذا الهجوم المتوقع، بالحديث عن كلفة تطوير الريف المصريِّ والقاهرة القديمة، مدعياً أنّ تكلفة تطوير القديم أعلى كثيراً من الإنشاءات الجديدة، خلال زيارته إلى عزبة الهجانة في الثامن من فبراير/شباط الماضي، قال السيسي: "إن تكلفة التطوير والتخطيط الذي يتم في عزبة الهجانة أكبر بكثير من العمل الذي ينفذ لأول مرة"، وفي زيارة أخرى قال مشيراً إلى نفس الفكرة: "إن تطوير القاهرة فقط أنفق عليه 280 مليار جنيه خلال 6 سنوات".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.