يدخل الشامان غيبوبة تقوده إلى عوالم تسكنها الآلهة والشياطين وأرواح الأسلاف، يتحدث إليهم ويتجول هناك ثم يستيقظ من غيبوبته ويعود إلى كوكبنا المتواضع، ليستخدم قواه وقدراته السحرية لعلاج البشر وحل مشاكلهم والتنبؤ بمستقبلهم… هذا ما يعتقده المؤمنون بـ"الشامانية".
فلنلقِ نظرةً على هذا الدين البدائي الذي لا يزال منتشراً إلى يومنا هذا في بعض الأماكن حول العالم:
الشامانية.. من كهوف أسلافنا إلى العالم الحديث
تختلف طقوس الشامانية وممارساتها من ثقافة إلى أخرى، وفي حين أنها تشكل ديانة ومعتقداً راسخاً في بعض الثقافات إلا أنها مجرد ممارسة شائعة في ثقافات أخرى، لكنها في جميع الحالات تتمحور حول شخصية "الشامان"، وهو شخص مختار يعتقد المؤمنون به أنه يمتلك قدرات خاصة تتضمن شفاء المرضى والتواصل مع العالم الآخر، بل ومرافقة أرواح الموتى إلى ذلك العالم.
تروي لنا عديد من الرسومات التي خلفها أسلافنا في الكهوف قصصاً عن "الشامان"، الذي كانت وظيفته على ما يبدو في ذلك الوقت تجمع ما بين الطب والشعوذة، فقد كانت الأرواح الشريرة والشياطين المُلام الأول على الأمراض التي تصيب البشر في تلك الحقبة؛ لذلك لم يكن البشر العاديون جديرين بمعالجة هذه الأمراض، ولا بد من تدخل شخصية ذات قوى خارقة مثل الشامان.
لا ندري تحديداً أين ومتى تطورت الشامانية لتصبح ديانة قائمة بذاتها، لكن يعتقد أن موطنها الأصلي في سيبيريا وآسيا الوسطى، كذلك فقد مارسها السكان الأصليون للأمريكيتين، وانتشرت في بعض المناطق في إفريقيا كذلك، وعلى الرغم من بدائية هذه الديانة فإنها لا تزال موجودة إلى يومنا هذا في مناطق متفرقة حول العالم.
لا يمكنك أن تقرر أن تصبح شاماناً.. الأرواح هي من تختارك
يحظى الشامان بمكانة اجتماعية مرموقة في عشيرته، لكن لا يمكن لأي أحد كان أن يصبح شاماناً، فـ"الأرواح" هي التي تختار من سيقوم بالتواصل معها.
غالباً ما يتم اختيار الشامان في مرحلة المراهقة، وقد يكون ذكراً أو أنثى، ويعتقد أن روح الشامان الميت تسكن في جسد الشامان الجديد، وهكذا يتم اختياره.
وفي حال كان أحد أبناء القبيلة لديه عيب جسدي ما، مثل العرج، أو امتلاكه لإصبع إضافي على سبيل المثال، فهذا يعني أنه مرشح قوي لاختياره من قبل الأرواح ليكون الشامان القادم.
ومن الممكن أن تظهر الأرواح في حلم أو رؤية لتعلن عن الشامان الموعود، وفي حال رفض أحدهم تولي منصب الشامان بالرغم من أن الأرواح اختارته، يخضع لتعذيب شديد حتى يرضخ لرغبة الأرواح في نهاية المطاف.
ومن الشائع أن يدخل الشامان الجديد بحالة هستيرية ويعاني من الإغماء بشكل متكرر عند اختياره، وقد يستمر ذلك لأسابيع.
ولا يتم تعليم عقائد الشامانية للشامان الجديد، إذ يعتقد أن "الأرواح" يقومون بهذه المهمة، وبكل الأحوال فإن أولئك الذين يتبعون الديانة الشامانية يعرفون جميع طقوسها وممارساتها.
مهام الشامان: العارف بكل شيء
كلمة شامان مشتقة أصلاً من اللغات التونغوسية، وهي أسرة لغات انتشرت في شرق سيبيريا وشمال شرق الصين، وتعني الكلمة حرفياً: "الشخص الذي يعرف كل شيء".
وبالتالي –كما يقترح الاسم– يجب على الشامان معرفة كل شيء، معرفة ما يحتاجه البشر في حياتهم اليومية والتنبؤ بما سيحدث لهم في المستقبل.
تختلف مهام الشامان من ثقافة إلى أخرى، لكنه عادة ما يكون معالجاً طبياً كذلك، ويوفر لمرضاه العلاج الفيزيائي، والعلاج بالأعشاب والمراهم وعظام الحيوانات ودمائها في بعض الأحيان، كما يستخدم التمائم والتضحيات والتعويذات لطرد الأرواح المسببة للأمراض.
ويقوم الشامان بدور الوسيط ما بين البشر وعالم الأرواح، كما قد يرافق الموتى إلى العالم الآخر. وتعتبر مساعدة الشامان مهمة في ممرات الحياة الثلاثة الأساسية وفقاً للشامانية: الولادة والزواج والموت.
ولا يتساوى جميع من أدوا دور الشامان مع بعضهم البعض في الكفاءة، إذ يتوجب على كل شخص أن يصعد شجرة موجودة في العالم العلوي عندما يصبح شاماناً، البعض يتسلق الأغصان السفلية للشجرة والبعض الآخر يتمكن من الوصول إلى المنتصف والقلة فقط هم من يصلون إلى أعلى هذه الشجرة الخيالية، ليكونوا بذلك في أعلى منصب قد يصل إليه الشامان.
أشكال الوحي
يستطيع الشامان التواصل مع الأرواح من خلال الوصول إلى مرحلة النشوة بعد ممارسة طقوس معينة، عندما يصل إلى تلك المرحلة يدخل أحد الأرواح من العالم الآخر في جسد الشامان لتوحي إليه أمور الحاضر وخفايا المستقبل، أو يتمكن الشامان عبر الوصول إلى النشوة من السفر بروحه إلى عالم الأرواح ليلتقي فيه من يشاء.
وفي حالة دخول أحد الأرواح إلى جسد الشامان، يصاب الرجل بأعراض مثل الارتجاف والهستيريا التي تنتهي بفقدانه للوعي، وبعد خروج الروح من جسده يعود الشامان لحالته الطبيعية ويستعيد وعيه.
أما في حالة خروج روح الشامان من جسده للتجول في عالم الأرواح فيدخل الشامان بفترة من النشاط الجسدي شبه المنعدم ويكون فيما يشبه الغيبوبة، وعندما يستيقظ منها ويستعيد وعيه يعود ليروي تجاربه في عالم الأرواح.
طقوس الشامانية
تختلف الطقوس التي يمارسها الشامان والأدوات التي يستخدمها من ثقافة لأخرى، لكنه غالباً ما يرتدي ألبسة يحاكي فيها حيواناً معيناً غالباً ما يكون غزالاً أو طائراً أو دباً. مثل غطاء رأس مصنوع من قرون أو ريش الطيور أو أحذية مصنوعة من حوافر الغزلان، ومخالب الطيور.
وغالباً ما يمارس الشامانيون طقوساً خاصة
على أنغام قرع الطبول مجتمعين حول النار ينشدون أغاني معينة لاستدعاء الأرواح يقوم الشامان بأداء الأغنية والترانيم في الغالب، تختلف من ثقافة إلى أخرى، لكن معظمها يتضمن قرع الطبول ورقصات معينة وأناشيد وتضحيات، كما يتم حرق أعشاب عطرية ذات رائحة نافذة في تلك الطقوس، وفي بعض الحالات يوزع الشامان جرعات من الأعشاب على الحاضرين؛ ليتمكنوا كذلك من التواصل مع العالم الآخر.
أعشاب مخدرة وأمراض عقلية
لا عجب أن يعتقد الشامان أنه تواصل بالفعل مع عالم الأرواح، فقد ثبت أن العديد من الأعشاب التي يستخدمها الشامانيون في طقوسهم تحتوي على مواد مخدرة أو مواد كيميائية تسبب الهلوسة.
ووفقاً لما ورد في موقع National Geographic، فقد وجد في حقيبة شامانية عمرها قرابة ألف عام على نبات آياهواسكا وهو نبات ينتج عن تناوله هلوسة قوية.
وتشكل تلك الحقيبة المصنوعة من 3 أنوف ثعالب مخيطة بعناية معاً أقدم دليل أثري في العالم على استهلاك هذا النبات.
وبعيداً عن نبات آياهواسكا، استخدم الشامان في عدة ثقافات العديد من الأعشاب الأخرى من بينها الكوكايين.
وفي أحد التفسيرات لظاهرة الشامانية، اقترح بعض العلماء أن حالة النشوة التي يصل إليها الشامان ناتجة عن إصابته بالذهان، وهي حالة يصاب فيها الشخص بخلل عقلي تنتج عنه نوبات هلوسة، ويتعلق بمعتقدات وهمية.
ويضيف الخبراء أن العوامل الاجتماعية التي ينشأ فيها الشامان تزيد من احتمالية إصابته بالذهان، خاصة أنه يتم اختياره في مرحلة المراهقة غالباً، ويخضع للتعذيب في حال رفضه أداء هذا الدور.
الشامانية اليوم
لا يزال بإمكاننا العثور على آثار الشامانية بين الشعوب التي تحولت إلى ديانات أخرى، كما في الشعوب الفنلندية الأوغرية، الذين أصبحوا مسيحيين، والشعوب التركية في آسيا الوسطى وآسيا الصغرى الذين تحولوا إلى الإسلام، والمغول الذين تحولوا إلى البوذية.
وفي حين أن الديانة القديمة كانت سائدة بشكل كبير في هذه المناطق فيما مضى، إلا أن أتباعها اليوم قلة قليلة، لكنهم موجودون بالرغم من غرابة معتقداتهم في زمن مثل القرن الحادي والعشرين.
لا تزال الشامانية اليوم حاضرةً في مناطق في القطب الشمالي في سيبيريا، كذلك توجد قلة يؤمنون بها في تركيا واليابان والهند والصين وكوريا، وفي حين تعتبر الشامانية ديانة وأيديولوجية راسخة لدى الشامانيين الموجودين في بعض مناطق سيبيريا وإندونيسيا إلا أنها لا تتجاوز كونها مجرد ممارسة ثانوية في مناطق أخرى، وفقاً لما ورد في موقع Britannica.
وفي منغوليا على سبيل المثال اندمجت الشامانية مع البوذية، بحيث لم يعد من الممكن التمييز بين الحدود الفاصلة بين الديانتين.