قدم المفكر محمد عمارة في كتابه "السماحة الإسلامية.. حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب" معركة فكرية تهدف لجلاء الغموض عن مصطلحات شائكة. فقد جمع في أسلوب مناقشته للأفكار بين الفلسفة العالية والتبسيط، ليقدمها بطريقة مختلفة عما تناولها سابقوه، خصوصاً أنه يبحث في مصطلحات شائكة بالنسبة للمسلمين خاصة والمجتمع الدولي عامة، فأي انزلاق في أي تعريف يؤدي إلى تشويه هذه المصطلحات في الفكر الإسلامي. إلا أنه استطاع أن يعطي كل مصطلح حقه من الفكر الإسلامي، مؤسساً لهذه المصطلحات بمصطلح مناقض لها تماماً، وهو السماحة الإسلامية.
يقسم الباحث كتابه إلى جزأين، الأول تحت عنوان السماحة الإسلامية. والجزء الثاني حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب، مستنداً فيه إلى 34 ما بين مصادر ومراجع.
السماحة الإسلامية
في هذا الجزء من الكتاب يصف محمد عمارة السماحة في الإسلام بأنها ليست فقط المساهلة واللين في المعاملات والعطاء بلا حدود، بل هي دين مقدس ووحي إلهي وبيان نبوي، أي منهاج الدين والشريعة. وقد بين الكاتب كيف أسس لها القرآن وفقاً لرؤية فلسفية إسلامية للكون والوجود.
كون هذا الوجود يوجد فيه حق هو الله، والخلق أي جميع عوالم المخلوقات. وهناك واجب الوجود وهناك الوجود أي المخلوق لواجب الوجود. وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون الوحدانية والأحدية فقط للحق واجب الوجود، بينما تقوم كل عوالم الخلق على التعدد والاختلاف والتمايز باعتبار هذا قانوناً إلهياً تكوينياً، الأمر الذي يستلزم لبقاء هذه السنة تعايش كل الفرقاء المختلفين، أي سيادة خلق السماحة في العلاقة بين الشعوب. فبدون السماحة يحل الصراع الذي ينهي ويلغي التعددية، حسب الكاتب. لتكون هذه هي الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، وأما عن التأسيس القرآني لها فقد استشهد ببعض الآيات في كل من (سورة الحجرات: 13، الروم: 22، هود: 118 – 119).
انطلاقاً من هذه النظرة يرى الكاتب أن العدل هو معيار النظرة القرآنية وأساس السماحة حتى في رد العدوان وإنزال العقاب، ويستشهد بالآيات (سورة النساء: 135، سورة الأنعام: 152، سورة المائدة: 2، سورة البقرة: 194، سورة النحل: 125- 128).
وتأسيساً على هذا العدل الإلهي أسس القرآن سماحة الإسلام في النظر للمواريث والنبوات والرسالات، كون القرآن لم يأت منافياً لما سبقه، بل مصدقاً له مستوعباً لأركان العقيدة فيها ومصححاً لما طرأ عليها.
ثم يستعرض الكاتب تطبيقات السماحة في الإسلام من خلال ثلاث محطات:
1. التطبيق النبوي للسماحة
2. الخلافة الراشدة
3. في التاريخ الإسلامي
يؤكد الكاتب أن التوتر الديني والطائفي الذي شهده التاريخ الإسلامي ليس له علاقة بسماحة الإسلام، مستشهداً بالأسباب التي ذكرها المؤرخ الاجتماعي جورج قرم في ثلاثة أسباب:
1. المزاج الشخصي المختل للحكام.
2. الظلم والاستعلاء الذي مارسته القيادات النصرانية واليهودية التي قبضت على جهاز الدولة المالي والإداري.
3. استجابة قطاعات من أبناء الأقليات لغوايات الغزاة الغربيين (شعارات القومية).
حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب
تعاني هذه المصطلحات الثلاثة من خلط كبير في المضمون، حسب الكاتب، وخاصة مصطلح الجهاد الإسلامي، ورجح الكاتب السبب في النظر للآخر من خلال الذات، كون هذه النظرة تؤدي إلى صب الآخر في قوالب الذات، أي إلغاء وتجاهل الفروق بين الديانات والثقافات والحضارات، وذلك بدلاً من التمييز بين الأشباه والنظائر التي تجمع النماذج الثقافية والفروق التي تمايز بينها.
يرى الكاتب أن المصطلحات هي بمثابة أوعية يستخدمها ويتداولها الجميع، لكن محتويات هذه الأوعية (مضامين المصطلحات) تختلف وتتمايز لدى أصحاب الأنسق الفكرية رغم وحدة المصطلح.
1. الحرب الدينية المقدسة
في هذا الجزء يعتبر الكاتب بعض العلماء الغربيين الذين قاموا بدراسة الحضارة الإسلامية، وقع معظمهم في خطأ النظر إلى الذات الإسلامية، من خلال منظار المعايير التي حكمت مسيرة الحضارة الغربية (الكنيسة) والتاريخ الحضاري الغربي وما شهده من صراعات.
ثم يسرد فحوى الحرب الدينية المقدسة التي شنها الصليبيون على المسلمين، حيث غلفتها الكنيسة بالدعاوى الدينية، ذلك أنها اعتبرتها حرباً ضد الكفار لتخليص قبر الله (المسيح) من أيدي هؤلاء الكفار. معلنة أنها حرب إلهية لذات الله، وفرسانها يحملون مفاتيح الجنة، وأن دم المسلمين أعظم قربان لله الخالصة. لتحجب مقاصدها الإمبريالية، وكانت فكرة هذه الحروب هي التي قاس عليها الغربيون مصطلح الجهاد الإسلامي.
2. حقيقة الجهاد الإسلامي
ينفي الكاتب صفة الحرب الدينية على الجهاد، فالإيمان تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، وهو سر بين المؤمن وخالقه، لا يتأتى إلا من خلال الفهم والإقناع، ولا يمكن أن يكون ثمرة لأي لون من الإكراه، مستشهداً بـ(سورة الكافرون: 6، وسورة الكهف: 29). بالإضافة إلى أنه لا يمكن حصر الجهاد في القتال فقط، بل هو في كل ميادين الحياة كمجاهدة العدو والشيطان والنفس. ويستفيض الكاتب هنا من خلال تبيان حقيقة الجهاد، مبيناً مفهومه اصطلاحياً في اللغة العربية والقرآن، مستشهداً بذلك من القرآن والسنة وتعاريف العلماء والفقهاء وحتى مفكري الغرب الذين أنصفوا هذا المصطلح.
3. حقيقة القتال في الإسلام
يميز الكاتب بين الجهاد والقتال، كون الأخير شعبة من شعب الأول، فالجهاد أعم من القتال، ثم يبن الكاتب من خلال الشرح المطول والمسند للمنطق أن في الإسلام تشريعاً مضبوطاً يجوز القتال أو يوجبه في بعض الحالات. ذلك أن الإسلام دين ودولة ووطن، والإخراج من هذا الوطن يعتبر موتاً للإنسان مستشهداً بـ(سورة البقرة: 85- 84، 243 – 244). لذا يتطلب الدفاع عنه، فالإسلام لا بد له من وطن حر، وهو شرط لإقامة الدين والقيام بأمانة العمران، وهي المهمة العظمى من وراء استخلاف الله لجنس، لهذا وقف الإسلام القتال عند هذه المواضع:
1. الحفاظ على الدين وحرية الدعوة إليه وتحرير ضمائر المؤمنين به من الفتن.
2. الحفاظ على الوطن من العدوان.
يقر المفكر محمد عمارة بأن الإسلام لا يريد الصراع، فهذا الأخير مبني على المنطق الذي ينهي الآخر، بل مبني على التدافع الذي هو حراك يحل التوازن محل الخلل الذي يصيب علاقة الفرقاء المتمايزين.
لا يمكن أن يتحدث الكاتب عن القتال في الإسلام دون أن يذكر الآيات التي جاءت في (سورة التوبة 1 – 16)، كون هذه الآيات تستعمل كدليل من القرآن للحض على قتال المشركين وإرهابهم أينما وجدوا، ولكن ببراعة يبين الكاتب فقه هذه الآيات:
حيث بين أن الآيات تميز المشركين في ثلاثة توجهات:
1. مشركون يعاهدون المسلمين يحترمون الوعود، الآية 4.
2. مشركون محايدون لا يعرفون الحقيقة ليتخذوا لهم موقفاً، الآية 6.
3. مشركون ينقضون العهد ويقاتلون المسلمين، الآية 12 10، وهذه الفئة هي من يتوجب فيها القتل.
4. حقيقة الإرهاب
يبين الكاتب من خلال هذا الجزء، كيف أن الإسلام برّأ سائر الديانات من أن يكون العنف والإرهاب والإكراه وترويع الآمنين سبيل أي منها إلى الدعوة اليهودية أو النصرانية أو الإسلام.
يعود الكاتب إلى آيات سورة الأنفال، مبيناً أن القرآن دعا المسلمين لإعداد العدة لردع وتخويف المخادعين والغادرين، وهو تخويف يثمر إعداد القوة الرادعة، أي أنه العنف الذي ينفي العنف والإكراه والقتال. فهو كالعقوبة الرادعة إعلانها يمنع ويردع عن الجريمة، ومن ثم يمنع تطبيقها، ولا علاقة لهذا الإرهاب بترويع الآمنين وإكراههم بالعنف والقتال. والإكراه الذي هو معنى مصطلح (الإرهاب Terror-) في الفكر الغربي.
وهنا يكون الإرهاب بمعنى التخويف الرادع للأعداء، هو الضمان لتحقيق الأمن والسلام للجميع.
ثم يستعرض الكاتب الاتهامات التي وجهت للإسلام ودعوته للعنف والإرهاب، من طرف كل من القس بات روبرتسون مؤسس جماعة "التحالف السياسي المسيحي" والكاتب برنارد لويس ومارغريت تاتشر، والتي رد عليها الكاتب بضرب أمثلة في معاناة الشعوب التي مورس عليها الاستعمار في كل من العراق والشيشان وفلسطين وبورما. والحروب الصليبية ومئات الشركات العابرة للقارات، التي تنهب ثروات الشعوب المسلمة، كذلك الاضطهاد والتمييز العنصري الذي يعاني منه المسلمون في الدول الغربية بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 .
ثم ينتقل المفكر محمد عمارة إلى ما سماه التراث اليهودي (فهو يرى أن ما يدعو له اليهود اليوم ليس شريعة موسى عليه السلام). ما جاء فيه من دعوة لقتل الشعوب دون رحمة، وبعض الفتاوى الحاخامية التي تضع هذا التراث الدموي في الممارسة والتطبيق على أرض فلسطين وغيرها من الأمثلة التي استفاض فيها الكاتب.
في الأخير، يقول الكاتب إن المسلمين لو أعدوا العدة التي أمرهم الله بها واتخذوا أسباب القوة والعزة فأخافوا الطامعين في الأوطان والثروات لما حدث هذا الإرهاب الذي أصبحوا أول ضحاياه وأول المتهمين به.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.