أصبحت قاعات المحاكم البريطانية ساحة معارك، وسلاحاً قوياً، في النزاعات الضارية بين كبار رجال الأعمال والسياسيين في دول الاتحاد السوفييتي سابقاً.
إذ تستغل بعض الدول الاستبدادية خاصة تلك الواقعة في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق نظام المحاكم البريطانية لمطاردة خصومها، وتحصل منها على قرارات قضائية بتجميد أموالهم أحياناً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
ولكن الأخطر أن بعض شركات المحاماة البريطانية التي تدافع عن مواقف هذه الحكومات في القضايا المثارة في بريطانيا، تستفيد من قدرة هذه الحكومات الاستبدادية في الضغط على الشهود أو حتى محامي خصومهم، وأحياناً يتم إغراؤهم، من قبل شركات استخبارات قضائية توظفها مكاتب المحاماة.
وتحولت لندن لمقر لنزاعات واسعة بين حكومات جمهورية سوفييتية سابقة ورجال أعمال وسياسيين منشقين يقولون إن حكوماتهم تطاردهم لأسباب سياسية، بينما تقول هذه الحكومات إنهم فاسدون.
ورغم النظرة إلى النظام القضائي الروسي على أنه فاسد، مقارنة بنظام العدالة الإنجليزي الذي يحظى بالتبجيل والاحترام حول العالم، فإن القضاة في المحاكم البريطانية لا يمانعون النظر في قبول أدلة تأتي من السجون والمحاكم الروسية.
تحقيق أجرته صحيفة The New York Times الأمريكية ومكتب الصحافة الاستقصائية (Bureau of Investigative Journalism)، يتضمن مراجعة مئات الصفحات من وثائق القضايا والسجلات المسربة وأكثر من 80 مقابلة مع المطلعين والخبراء والشهود، كيف تستغل النُّظم الاستبدادية محاكم لندن لشن حروب قانونية ضد الأشخاص الذين فروا من بلادهم بسبب خلافات سياسية أو مالية.
خلال أربع سنوات من السنوات الست الماضية، تورط متقاضون من روسيا وكازاخستان في قضايا مدنية داخل المحاكم البريطانية أكثر من أي جنسية أجنبية أخرى. وغالباً ما تكون تلك القضايا بين الحكومات الاستبدادية، أو الكيانات والهيئات التابعة لهذه الحكومات، ضد كبار رجال الأعمال الأثرياء الذين لم يعودوا من أصحاب الحظوة وفرّوا من بلادهم، حسبما ورد في تقرير The New York Times.
لماذا تلجأ الدول الاستبدادية إلى المحاكم البريطانية؟
يؤدي رفع الدعاوى القضائية في لندن إلى إضفاء الشرعية على مزاعم الحكومات الاستبدادية، التي لا تحظى أنظمتها القانونية بأي احترام أو وزن خارج حدودها. كما يوفر نظام العدالة الإنجليزي أيضاً عدة مزايا: يميل القضاة إلى فحص الأدلة على نطاق واسع وعدم المبالغة في رفض الأدلة، حتى لو كانت من قبل أجهزة أمنية فاسدة أو أنظمة قانونية أجنبية غير موثوقة تماماً.
كما أن شركات الاستخبارات والتحقيقات الخاصة في لندن لا تخضع للتنظيم، وغير مقيّدة إلى حد كبير، ولديها استعداد في بعض الأحيان إلى استخدام أساليب تتخطى الحدود لخدمة العملاء الأثرياء.
لكن ربما أكبر ميزة بالنسبة للحكومات الاستبدادية، هي قدرة المحامين، مثل تمكين موكليهم من ملاحقة خصومهم والنيل منهم؛ من خلال الفوز بما سماه أحد القضاة "سلاحاً نووياً" قانونياً؛ صدور أوامر من المحكمة بتجميد أصول المتهم في جميع أنحاء العالم. تلك الأوامر تشبه العقوبات التي تفرضها الحكومة الأمريكية ضد الإرهابيين أو تجار الأسلحة، إلا أنها تنبثق عن إجراءات مدنية.
ويعرب المشرعون في بريطانيا بشكل متزايد عن قلقهم بشأن النفوذ الروسي، محذّرين في تقرير برلماني العام الماضي من ظهور صناعة متنامية من المتخصصين في لندن، تضم شركات المحاماة وهيئات التحقيق والاستخبارات الخاصة، من أجل "خدمة احتياجات" النخبة الروسية.
شركة استخبارات خاصة تقدم عرضاً مغرياً لمجامية الخصم
لفهم إلى أي مدى قد تذهب شركة الاستخبارات الخاصة في أفعالها للحصول على أدلّة في تلك القضايا المثارة أمام المحاكم البريطانية، يمكن الاسترشاد بمثال ما حدث مع ناتاليا دوزورتسيفا، المحامية الروسية مع Diligence البريطانية.
في عام 2017، كانت دوزورتسيفا جالسة في بهو فندق في نيس بفرنسا، وانضم إليها تريفور ويليامز، رئيس شركة Diligence في لندن. وبين نغمات البيانو، أثنى ويليامز على دوزورتسيفا وقدّم لها عرضاً مغرياً من أجل الانقلاب على عميلها، بوغاتشيف، المقيم وقتئذ في فرنسا لتجنب حكم بالسجن لمخالفته أمر التجميد الصادر في لندن عام 2014.
وعرض عليها ويليامز قائمة الخيارات: ذهبية، أو فضية، أو برونزية. وقال إن كل خيار يمثّل مستوى معيناً من التعاون، ومن المكافآت في المقابل.
للحصول على المكافأة البرونزية، سيتوجب على دوزورتسيفا إخبار ويليامز بكل ما تعرفه عن موكلها، بينما يتطلب نيل المكافأة الفضية تقديم إفادة خطية. بينما يستلزم نيل المكافأة الذهبية ذهاب دوزورتسيفا لتقديم شهادتها ضد موكلها في المحكمة.
في العالم التنافسي لشركات الاستخبارات والتحقيقات الخاصة، تشتهر شركة Diligence باتباع أساليب احتيالية ومراقبة صارمة للحصول على النتائج المطلوبة، وتعمل في كثير من الأحيان على قضايا تخص شركات المحاماة الكبيرة مثل Hogan Lovells في هذه الحالة.
على عكس العديد من الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، لا توجد لائحة قانونية للمحققين الخاصين في بريطانيا، حتى بعد قضية اختراق الهاتف من قبل صحيفة شهيرة عام 2011، والتي يمكن القول إنها فضيحة التحقيق الخاص الأكثر شهرة في التاريخ الحديث. يلتزم المحققون بالخصوصية والقوانين والإجراءات القانونية الأخرى في السلطات القضائية المحلية، إلا أن تلك القوانين تكون في بعض الأحيان أكثر مرونة في القضايا المدنية التي ترفعها جهات خاصة.
علمت صحيفة The New York Times ومكتب الصحافة الاستقصائية (Bureau of Investigative Journalism) بمحاولة ممثل شركة Diligence تجنيد المحامية دوزورتسيفا بعد الاستماع إلى تسجيل سري لمحادثتها مع السيد ويليامز. وفي النهاية، لم تنقلب دوزورتسيفا على موكلها بوغاتشيف، بل أخبرته سلفاً باجتماعها مع ممثل شركة Diligence ونيتها تسجيل تلك المحادثة.
العرض الذي قدمته شركة Diligence إلى دوزورتسيفا يتعارض مع القواعد الصارمة التي تحكم الملاحقات العامة في إنجلترا، ولكن لا شيء يحظره صراحةً في الإجراءات المدنية المتعلقة بجهات خاصة.
بينما في فرنسا، لا يعتبر عرض دفع مقابل للشهود غير قانوني إلا إذا كان القصد من ذلك تحريض الشهود على تقديم شهادة كاذبة. ومع ذلك، يعتقد بعض الخبراء القانونيين أن دفع مبالغ كبيرة قد يكون دليلاً على تلك النية، الاحتمال الذي نفته شركة Diligence تماماً.
لطالما كان المحامون قادرين على استغلال تلك الثغرات القانونية والحصول على ما يلزمهم من أدلة وأفضلية في قضاياهم مع النأي بأنفسهم عن الأساليب التي تتبعها شركات التحقيقات الخاصة مثل Diligence.
ورفضت شركة Hogan Lovells الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بعلاقتها مع شركة Diligence أو معرفتها بالأساليب التي تتبعها الشركة، بما في ذلك العرض الذي قدمته إلى دوزورتسيفا. ذكرت شركة المحاماة أن استعانتها بـ"عملاء تحقيقات" لم يُنتقد من قبل أمام المحاكم الإنجليزية، وقالت إنها "تتوقع دائماً من كل الشركات أن تعمل في إطار القانون".
تجميد للأموال في أي مكان
مثل الطائرات الحربية المسيّرة، تضرب أوامر تجميد الأموال العالمية أهدافها دون إنذار.
على سبيل المثال، علم بوغاتشيف بتجميد أصوله عندما حاول عميل شركة Diligence ومحامي شركة Hogan Lovells تسليمه أمر التجميد في أحد شوارع لندن. وعندما رفض بوغاتشيف تسلم الأمر، ذهب به المحامي إلى منزل بوغاتشيف.
أدخلت إنجلترا أوامر التجميد في عام 1981، وبحلول عام 1998 حكم أحد القضاة بأن لها نطاقاً عالمياً. وكان التوقيت مواتياً، إذ تدفقت الأموال ورجال الأعمال من روسيا ودول الاتحاد السوفييتي المنهار الأخرى إلى لندن، بافتراض أنها ملاذ آمن لأموالهم.
أصبحت أوامر التجميد الإنجليزية، مدعومة بالاحترام الدولي للمحاكم والنظام القضائي الإنجليزي، لا مثيل لها في القوة والانتشار. أصبح من الممكن استهداف أي فرد بأوامر التجميد حتى لو كان الرابط بينه وبين بريطانيا هشاً وفضفاضاً، كما قضت المحاكم بإمكانية إصدار تلك الأحكام أيضاً على الشركات وصناديق الائتمان والشركاء ذوي الصلة في أي مكان في العالم.
يؤكد العديد من المحامين والقضاة الإنجليز أن أوامر التجميد ضرورية لتقييد المحتالين. ويدافعون عن انفتاح محاكمهم أمام الدعاوى القضائية والأدلة الناشئة في بلدان ذات أنظمة قانونية معيبة، مؤكدين أن تقييم جميع الأدلة، بغض النظر عن مصدرها أو كيفية الوصول إليها، يخدم العدالة بشكل أفضل.
البعض لم يستطِع استرداد أمواله
إذا كانت بعض شركات المحاماة في لندن جنت أرباحاً كبيرة من خلال الدفاع عن نخبة رجال الأعمال والسياسيين وممثلي الحكومات في دول الاتحاد السوفييتي السابق، فقد كانت في بعض الأحيان أقل نجاحاً في استرداد الأموال لهؤلاء الموكلين. في إفادة خطية قدمها رئيس بنك كازاخستان مؤخراً، ذكر أن البنك، بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تمكن من استعادة 45 مليون دولار أمريكي فقط من أصل أكثر من 6 مليارات يزعم أن أبليازوف سرقها.
وذكر تقرير داخلي أعدّه البنك في عام 2014 أن 89% من إجمالي 470 مليون دولار أنفقها البنك في جميع أنحاء العالم على المحامين و"المستشارين" الآخرين كان في لندن فقط.
غالباً ما تكون المعارك القانونية المتجذرة في دول الاتحاد السوفييتي السابق مربحة جداً بالنظر إلى أجور المحامين وشركات التحقيقات الخاصة في بريطانيا.
وهذا يذكرنا بأن الصراعات السياسية في الدول الاستبدادية، مثل كازاخستان وغيرها، غالباً ما ينتهي بها المطاف في قاعات المحاكم البريطانية.