ظل المجتمع البشري فترة طويلة محبوساً في ثقافة الكلمة المتمثلة في الأدب، وهو ما أنتج بالتالي نخبة ثقافية أدبية كانت تعكس صورة الواقع في أعمالها بشاعرية، وأخذت دور المعبر عن الشعب وتطلعاته، وحتى إن لم تكن كذلك.
وما إن ظهرت ثقافة الصورة مع التلفزيون، وهو مصطلح من المصطلحات الجديدة في مجالات التناول الثقافي المعاصر، لما تتميز به الصورة من قدرات فائقة وميزات خاصة، جعلتها تعتبر من أقدر وأهم الوسائل الإقناعية، سقطت النخبة الثقافية التقليدية من النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية التي كانت تقود الناس وتؤثر فيهم وتشكل رموزاً حية لهم.
وظهرت علامات ثقافية جديدة خالية من المرجعيات الثقافية، لا تحتاج من الناس معرفة قراءة لغة أو امتلاك مستوى وعي ثقافي معين لمتابعتها، فلذلك انحسر عصر النخبة في مجالاتها التخطيطية السياسية، وبرزت النماذج الجديدة للمشاهير كبديل قيادي.
إننا أمام غالبية شعبية كانت في السابق لا تملك وسيلة حقيقية للتعبير عن ذاتها ولا عن أذواقها وخياراتها، وهي الآن وضعت يدها على وسيلة تعبر بها عن نفسها، في التليفزيون أو السوشيال ميديا، التي أصبحت ملكاً للجميع، مما فتح مجال الاستقبال الحر وغير المراقب، وهذا لا يعني أننا أمام انهيار الخطاب الثقافي التقليدي المزعوم، ولكننا أمام ظهور أصوات لم تكن تظهر في السابق، وأصبحت تستطيع الآن بفضل المدخلات الثقافية الحديثة، وأصبحت تلك الأصوات أن تكشف المخبوء في ذواتها، وما يفسر انجذاب الناس واللهاث وراءها هو أن أصوات النخبة الثقافية التقليدية القديمة لم تكن تعبر حقاً عن ضميرهم واحتياجاتهم، بل تلك الأصوات الآخذة في الظهور حديثاً، لذلك تماهت الجماهير تماهياً تاماً مع حياة المشاهير، نجده يتجلى في العديد من الظواهر.
البرامج الحوارية كسلعة لا تموت
النموذج هو ما يتصدر المشهد لذلك يقبل عليه الناس، فالمشاهير بما لهم من رأس مال كاف من السلطة، يجعل ما يقولونه يستحق الاهتمام حتى قبل أن يتفوهوا به، وهو ما يفسر أن البرامج الحوارية سلعة رائجة لا تفنى أبداً، كالبرنامج الرمضاني شيخ الحارة في السنوات الأخيرة، حتى وإن تغيرت المذيعة التي تقدمه سواء كانت إيناس الدغيدي أو بسمة وهبة، فالبطل هو الضيف\النجم، فالناس تتحرق شوقاً إلى معرفة الكثير عنه، وإلى معرفة الفضائح التي يأتي بها شيخ الحارة، ومن المفترض أن النجم لا يعلمها في مشهد هزلي صادم، وعلى هامش باب الحارة وهو النموذج الأشهر حالياً تطل العديد من البرامج الحوارية مع المشاهير على مدار السنة، أبرزها معكم لمنى الشاذلي وبرنامج صاحبة السعادة لإسعاد يونس، والجمهور مستعد للذهاب وراء ذلك القالب من قناة لأخرى، فتلك السلطة التي يمتلكها الشخص الذي يروي قصة حياته، تداعب رغبة ملايين المشاهدين المتضورين جوعاً إلى النصح والإرشاد.
يرى الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان أنه من الخطأ والتضليل أن ندين ونسخر من إدمان البرامج الحوارية حين نعتبرها أثراً من آثار إطلاق العنان للاشتهاء البشري الأبدي للقيل والقال، والعمل على إرضاء ألوان الفضول الوضيع، فتلك البرامج في عالم يعج بالدروس العملية؛ مما يجعلها مطلباً حقيقياً، فهي لها قيمة براغماتية، حيث إن المرء يحفر في تلك القصص التي تروى عليه ليكتشف الحلول التي استخدمها هؤلاء في تحدي المشكلات التي واجهتهم ويعتقد أنه يواجه شبيهاً لها، ويحلو لباومان أن يعتبر تلك البرامج دروساً عملية عامة بلغة لم تولد بعد، ولكنها على وشك أن تولد.
والبرامج الحوارية تصف أموراً خاصة يفشيها أصحابها على الملأ لإمتاع الناس، وانتزاع استحسانهم وتصفيقهم؛ لذلك فتلك البرامج تضفي شرعية على الخطاب العام حول الأمور الخاصة، فتجعل الأمور التي لا يمكن الحديث عنها قابلة للحديث عنها، والأمور المخزية مشرفة، وتحول السر القبيح إلى شيء يمكن الافتخار به، فبفضل البرامج الحوارية يستطيع النجم أن يتحدث عن أشياء اعتقد أنها خطأً ومشينة، أما الآن فلا داعي بالشعور بالذنب من الناس والخوف من توبيخهم، فمشكلات النجم الخاصة ومشكلات ملايين من متابعيه أصبحت صالحة للنقاش العام، فهي تقتحم ساحة النقاش بوصفها قضايا خاصة، ولكن من طول نقاشها وتكرارها في ساحة العام فإنها تكتسب صفة العمومية في النهاية وتكتسب طابعاً أشد وأقوى.
نموذج الحياة السائلة وفقاً لتسمية باومان الذي نعيشه الآن، هو ما يدفع الناس إلى البحث عن نماذج لا عن قادة، فتجعلهم ينتظرون من المشاهير جمعيهم أن يدلوهم على طريق إنجاز الأمور المهمة، تلك الأمور التي يحبسونها داخل أنفسهم ولا يسرون بها، وطالما أن المشاهير في وسائل الإعلام يتصدرون المشهد العام، أصبح عليهم واجب عام بأن يعترفوا بأسرارهم في سبيل الاستهلاك العام، وأن يضعوا حيواتهم الخاصة للعرض، وألا يمتعضوا إذا قام أحد بهذه المهمة نيابة عنهم، كشيخ الحارة الذي يعرف عنهم كل شيء.
وفي رأي آخر، يذهب الفيلسوف آلان دونو إلى أن تلك البرامج تؤدي الدور الذي كان يؤديه في الماضي صناع الملوك، فبينما كان صناع الملوك في الماضي هم رجال سياسة ودين وحاشية بلاط، فصناع الملوك في الحاضر هو الاستديو التليفزيوني، فلا يهم أن يكون هؤلاء الملوك شخصيات معتبرة أم مجرد هامشيين، لا يهم أن يكونوا ذوي كفاءة أو إنجاز أو ضمير، بل كلما انحدروا وانحدرت حياتهم في مقياس الذوق والأدب والحس السليم، تم تسويقهم بشكل أفضل، ويقدمون للجماهير بوصفهم ملوكاً وتتويجهم على "العرش" من خلال إجلاسهم على كرسي المقابلة وإعطائهم "الصولجان" الميكروفون وتثبيت السماعة على صدورهم "الوسام"، ثم يصبح النجم مخولاً شرعاً لمخاطبة رعيته من الجمهور وتوجيههم.
النجوم العاديون
في السوشيال ميديا، تظهر فئة أخرى اكتسبت طريقها إلى الشهرة والنجومية، إلى جوار فئة نجوم التليفزيون الذين يمتد حضورهم إلى السوشيال ميديا عبر صفحاتهم التفاعلية، والتي تحتل منصة للبوح ومشاركة الحياة الخاصة بدلاً من البرامج الحوارية وإلى جوارها.
وهؤلاء المشاهير يمتلكون سلطة المال والشهرة، فهم يظهرون بمظهر الناجحين بسبب مجتمع استهلاكي دأب على تقليص صور النجاح التي تعرفها البشرية من العمل الجاد، واختزلها فيما يحقق كسباً مادياً واسعاً، فأصبح ذلك المعيار وحيداً في الحكم على نجاح شخصية شهيرة، بل أنتج طبقة جديدة من المشاهير بعيداً عن المجالات الاعتيادية في كرة القدم والفنون والسياسة، وهؤلاء نظراً لحداثة أعمارهم على الأغلب، أصبحوا يشكلون المرشد الروحي الجديد للشباب والمراهقين من رواد السوشيال ميديا، الذين أنهكهم طريق العلم والعمل الجاد، ويتحرقون شوقاً إلى وسيلة بديلة للإثراء السريع الذي تحقق لهؤلاء الذين كانوا مثلهم بالأمس، وأصبحوا في مواقع شهرة وثراء اليوم، وهنا ينجذب الشباب الذي لا مجد له، إلى حلم مجد النجومية السريعة، وهي آلية فاعلة ومؤثرة، لأن احتقان خيبات الأمل المزمن يحتاج إلى مثل هذه المخارج السريعة لتحويل دلالة المصير.
يتعامل الناس في السوشيال ميديا تحديداً، حيث تتاح فرصة لرجع الصدى أكبر من التلفاز، من خلال التعليقات والمشاركة والنشر، مع حياة المشاهير بوصفها ملكاً لهم، أو امتداد للحياة التي أرادوا أن يعيشوها، لذلك فلا يكون من العجيب أن تتصدر العديد من المشكلات الشخصية ساحة النقاش العام مؤخراً، ولنذكر منها مثلاً، حفلات الزفاف التي رأينا تفاعلاً معها بين الإدانة للأخلاقيات والطريقة التي أقيمت بها ومخالفة الثقافة العربية، أو الإعجاب بمثاليتها واستخلاص مواعظ الحب والوفاء والإخلاص من ورائها، كما تمثل في حالة فرح دينا داش أو فرح الممثل محمد فراج وبسنت شوقي، والتفاعل ليس حكراً على الزفاف فهو حكر أيضاً على الانفصال، وهو ما رأيناه في أحداث مثل انفصال المغني عمرو دياب عن الممثلة دينا الشربيني رغم نمذجة علاقتهما من خلال عدد من الكليبات والأغاني والفيديوهات التي جمعتهما، أو معركة رجل الأعمال السعودي تركي الشيخ مع المغنية المصرية آمال ماهر وهي قضية ملتبسة يختلط فيها الشخصي بالتجاري، وننام ونصحو فنجد أن مشكلة مالية لمحمد رمضان تصبح حديث الساعة، ويضُرب بمحمد رمضان مثلاً للشخص الذي لا ينسى أصله مهما زاد ثراء.
إن مجالات التفاعل تلك التي يحدث فيها اتصال بين المشاهير والجماهير، تتجاوز الاندماج والتماهي الفردي وتصل إلى مستوى من التعصب الجمعي للجمهور الذي يحاول في أي جهة من الجهات، سواء كان مع أو ضد موقف النجم، أن يُسقط رغباته ومعتقداته التي يريد أن يدير بها حياته، على حياة ذلك النجم.
لا شك أننا بصدد استبدال فراغ الحياة العادية، بخيباتها ومحاذيرها، من خلال تسويق الحلم الذي تحمله إثارات الشاشة التليفزيونية\الهاتفية التي أصبحت بديلة فعلية عن الواقع مسدود الآفاق والخالي من الإنجازات، كما يقول عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي.
المصادر
– الحداثة السائلة: زيجمونت باومان
– الثقافة السائلة: زيجمونت باومان
– حصار الثقافة: مصطفى حجازي
– الإنسان المهدور: مصطفى حجازي
– نظام التفاهة: آلان دونو
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.