"مسيرة الأعلام" ليست اللغم الوحيد الذي حرص نتنياهو على زرعه في طريق حكومة نفتالي بينيت، فمن غزة إلى لبنان وإيران وسوريا تواجه إسرائيل ملفات مشتعلة.
ولا يمكن الجزم بعد بأن اللغم الأول، "مسيرة الأعلام"، قد تم نزع فتيله بنجاح، فقد تسببت المسيرة الاستفزازية التي وصف يائير لابيد وزير الخارجية في حكومة بينيت ما حدث فيها بأنه "وصمة عار" على إسرائيل، في كسر مؤقت لإطلاق النار بعد شن جيش الاحتلال هجمات على قطاع غزة فجر اليوم الأربعاء 16 يونيو/حزيران.
وكان نحو 5 آلاف مستوطن قد شاركوا الثلاثاء 15 يونيو/حزيران في "مسيرة الأعلام" الاستفزازية بالقدس، واقتحموا منطقة باب العامود، أحد أبواب البلدة القديمة في المدينة، مرددين هتاف "الموت للعرب"، قبل أن يتوجهوا نحو "حائط البراق".
حكومة "التغيير" قد لا تغير شيئاً
الآن وقد أطاحت حكومة جديدة بمسيرة نتنياهو، أطول رؤساء وزراء إسرائيل بقاء في المنصب، بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية في رصد مدى قدرة أو رغبة تلك الحكومة التي وُصفت بأنها "حكومة التغيير" على إحداث تغييرات حقيقية في الملفات الأساسية في السياسة الخارجية للدولة العبرية.
ونشرت صحيفة Haaretz الإسرائيلية تقريراً أعدّه عاموس هرئيل، المراسل العسكري ومحلل شؤون الدفاع بالصحيفة، بعنوان "تحديات بانتظار بينيت في غزة ولبنان"، ألقى الضوء على مدى محدودية ما قد تُحدثه تلك الحكومة غير المتجانسة من تغيير على السياسات التي وضعها نتنياهو خلال أكثر من 12 عاماً متواصلة كرئيس للوزراء.
بالنسبة لرئيس الوزراء نفتالي بينيت، ووزير الخارجية يائير لابيد، ووزير الدفاع بيني غانتس، يُتوقَّع بروز تحديات أكثر استراتيجيةً من الآن فصاعداً. وتتعلق هذه التحديات بكل الساحات الرئيسية التي تنخرط فيها إسرائيل: إيران وسوريا ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة. وفي كل هذه الساحات ستعتمد القوة التي ستُظهِرها إسرائيل ومجال المناورة الذي ستحصل عليه على علاقاتها مع الإدارة الأمريكية.
فقد حقق نتنياهو خلال سنواته الـ12 المتتالية في المنصب نجاحاً كبيراً من وجهة نظره تجاه قضية فلسطين، لكنه أيضاً تسبّب في إخفاقات خطيرة في الملف الإيراني، وهي الإخفاقات التي يرفض الاعتراف بها.
كيف استفاد نتنياهو من اضطرابات المنطقة؟
استفاد نتنياهو بشكل كامل من التطورات حوله -الربيع العربي وما أعقبه من صعود إدارة ترامب في الولايات المتحدة- كي يضع حداً للمفاوضات الدبلوماسية مع السلطة الفلسطينية بشكل كامل. وقد خاض حروباً متعددة على غزة وكادت حرب عام 2014 تتحول إلى حرب شاملة. وفي الضفة الغربية المحتلة استمرت السلطة الفلسطينية في العمل كمقاول فرعي للدفاع عن إسرائيل، وساعدتها في إحباط هجمات حماس، بحسب تقرير الصحيفة الإسرائيلية.
كما استغل نتنياهو تراجع اهتمام المجتمع الدولي بما يجري في الأراضي الفلسطينية، فزاد في عهده عدد المستوطنين في الضفة الغربية بواقع 200 ألف مستوطن آخرين. لم تجرِ إضافة مستوطنات جديدة، لكن لم يجرِ كذلك إخلاء أي موقع استيطاني، بل وجرى إضفاء الطابع القانوني على بعض المواقع الاستيطانية الأقدم.
وطوال هذه الفترة، ازداد تأثير قادة المستوطنين في اللجنة المركزية لحزب الليكود وفي أروقة الحكومة. وقد تُرجِمَ هذا إلى تدفق مستمر للتمويل وتأثير على عملية صنع القرار.
ومن المستبعد أن يتغير هذا في عهد الحكومة الجديدة أيضاً، إذ نشأ نفتالي بينيت في كنف حركة غوش إيمونيم، في حين يُعرَف عن أفيغدور ليبرمان وجدعون ساعر موقفهما الداعم للمستوطنات. ولا يملك وزراء اليسار في حكومة الوحدة أي فرصة حقيقية لإحباط أي شيء يتوافق عليه المستوطنون ووزراء الجناح اليميني والجيش سراً.
لكنَّ نتنياهو فشل في تحقيق طموحاته بشأن القضية النووية الإيرانية. ومن الصعب المجادلة في هذه الحقائق: باتت إيران أقرب إلى الوصول لقنبلة نووية اليوم مقارنةً بما كانت عليه في 2009، حين عاد نتنياهو إلى السلطة. وقد استجاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالفعل لضغوط نتنياهو وانسحب من الاتفاق النووي في 2018، لكنَّ العقوبات الاقتصادية التي جددها الأمريكيون والأعمال السرية التي تُنسَب لإسرائيل لم تُوقِف تقدم البرنامج النووي، بل على العكس، هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّ هذه الأمور حفَّزت الإيرانيين لانتهاك الاتفاق.
وربما تركت سرقة الموساد للأرشيف النووي من طهران انطباعاً جيداً لدى ترامب، لكنَّها لم تؤثر على مسار المشروع، ويمكن النظر إلى ذلك باعتباره مثالاً تقليدياً على أوجه ضعف نتنياهو: خطاب شرس لا تدعمه النتائج الفعلية.
بينيت قليل الخبرة
يتمثل الوجه الرئيسي لضعف بينيت في خبرته المحدودة نسبياً. فبضع سنوات من عضوية الكنيست وستة أشهر أخرى في وزارة الدفاع، شاب معظمها نزاعات حمقاء بدأها نتنياهو، ليست كافية كي تُحضِّر شخصاً بشكل كامل من أجل المسؤولية الثقيلة التي تنطوي عليها قيادة دولة معقدة مثل إسرائيل.
تعرَّض نتنياهو للانتقاد بسبب خطابه المسموم في الكنيست، والذي ادَّعى فيه أنَّ أعداءنا مسرورون بالحكومة الجديدة، لكن من الصعب استبعاد سيناريو تخرج فيه الأمور عن السيطرة قريباً، ويتعرض وقف إطلاق النار مع غزة لضغوطات تؤدي إلى كسره، وهو ما سيمثل بلا شك اختباراً صعباً للحكومة الجديدة. وتؤدي حقيقة أنَّ الحكومة مُؤلَّفة من أحزاب شديدة التنوع الأيديولوجي، وتضم للمرة الأولى حزباً عربياً، إلى تعقيد الوضع أكثر.
وتتمثل علامة استفهام أخرى في العلاقة مع الولايات المتحدة. قدَّم ترامب دعماً غير مشروط لإسرائيل، ما عزز صورة القوة الإسرائيلية في المنطقة. فكانت إيران وحزب الله حريصين على تجنب الاحتكاك المباشر بإسرائيل، لأسباب ليس أقلها أنَّهما لم يعلما أي نوع من الصكوك المفتوحة وقَّعه ترامب لنتنياهو كي يستخدمه ضدهما.
ومثلما اعترف نتنياهو بشكل غير مباشر في خطابه بالكنيست يوم الأحد، 13 يونيو/حزيران، كانت العلاقة بينه وبين بايدن أكثر فتوراً. وسرعان ما احتضن بايدن بينيت، فاتصل به على الفور بعيد أداء الحكومة لليمين. وعلى عكس ما تزعمه المعارضة من الصعب تصوُّر أن يضغط الرئيس المتمرس على رئيس الوزراء الشاب للمضي قدماً برؤية حل الدولتين. مع ذلك لن تكون العلاقة بينهما شبيهة بأي شكل من الأشكال بدعم ترامب المطلق لنتنياهو.
تُعَد القضية الأكثر إلحاحاً في الأجندة الدبلوماسية للحكومة الجديدة هي قطاع غزة. إذ دعا وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه عبر الوسطاء المصريين إلى مجرد الهدوء مقابل الهدوء، ولم تجرِ حتى الآن إضافة أي شيء آخر إلى هذا الاتفاق. وقد أبقت الحكومة السابقة بعض القيود على المعابر مع غزة كما هي، في محاولة لتسريع حل مشكلة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين، لكن بدون وجود اتفاق أوسع نطاقاً، ستشتعل الأمور مرة أخرى قريباً.
ذكر بينيت بالفعل أنَّه سيُبقي على سياسة نتنياهو بخصوص إيران. وتتجه واشنطن عملياً نحو توقيع تجديد الاتفاق النووي، ويُعَد بينيت أقل اهتماماً بالقتال ضده من سلفه. ويشير التقييم المنطقي إلى أنَّ إسرائيل ستحتج على الاتفاق، لكنَّها من ناحية أخرى ستضبط نفسها (ومن المحتمل جداً أنَّ هذا ما كان نتنياهو نفسه سيفعله كذلك)، لكنَّ التحدي الأمني الحاسم الذي قد يقع على عاتق بينيت ولابيد وغانتس، ربما بحلول العام المقبل، يتعلق بمشروع الأسلحة الدقيقة لحزب الله. فبمجرد أن يكون لدى الحزب القدرة الصناعية لتصنيع الأسلحة الدقيقة على الأراضي اللبنانية، ستواجه إسرائيل معضلة مستعرة: هل يجب عليها أن تدمر هذه القدرات وتخاطر بنشوب حرب؟
وفي خضم أزمة اقتصادية، سيتعين على الحكومة التعامل مع مطالب متزايدة لميزانية الجيش، من أجل ملء مستودعات الأسلحة بعد الجولة الأخيرة من القتال في غزة ولتحقيق الخطة الطموحة الممتدة لعدة سنوات لرئيس الأركان العامة، أفيف كوخافي. وسيكون على بينيت قريباً القيام بتعيينين كبيرين: الأول، تعيين مستشار جديد للأمن القومي، ثُمَّ رئيس جديد للشاباك.
لكنَّ الحكومة الجديدة تبشر بفرصة لإصلاح علاقات رئيس الوزراء مع كبار المسؤولين. وتشير حقيقة أنَّ نتنياهو نجح في التنازع مع كل قادة الأجهزة الأمنية الذين خدموا في عهده تقريباً، إلى عمق الخلاف، غير أنَّ بينيت يبدأ من نقطة مختلفة تماماً، وهي نقطة أكثر إيجابية حتى الآن.