شخصياً أعتبر هذا الكتاب من صفوة الكتب التي طالعتها في مجال الفكر والفلسفة، بحيث يشرح كاتبه موضوعاً فلسفياً معقداً بأسلوب مبسط وسلس.
يضيء هذا الكتاب على الدلالة الأصلية للفظة الميتافيزيقا، ويقدم جرداً للتطور التاريخي الذي عرفه هذا المفهوم، فيحدثنا بداية عن نشأة هذا المفهوم بمحض المصادفة بدليل أن أرسطو الذي ينسب إليه لم يستعمله وإنما لم يعرف طريقه للتداول إلا في العصر الهلينستي (الذي امتاز بتدويل المعارف اليونانية ونشرها على مستوى عالمي) عندما عمل أحد رؤساء المدرسة المشائية بروما على نشر وترتيب كتابات أرسطو فوجد أن بعض البحوث لم يختر لها المعلم الأكبر عنواناً محدداً، وتصادف أن وجدت في الترتيب بعد كتابات أرسطو بشأن مواضيع الطبيعة (الفيزيقا)، ومن هنا جاءت تسمية ميتافيزيقا، أي ما بعد الطبيعة.
وقد ارتبطت نشأة الميتافيزيقا عند فلاسفة اليونان القدماء بالأنطولوجيا، إذ كانت تحيل إلى البحث في الخصائص الكلية للوجود، أو كما قال أرسطو البحث في الوجود بما هو وجود بمعنى المواضيع التي تتجاوز الظواهر المحسوسة والمرئية كالوجود الإلهي الذي يعتبر العلة الأولى للوجود، والنفس والروح.
كما يقتضي البحث في أصل الوجود وطبيعته التمييز بين الظاهر غير الحقيقي وما وراء الظاهر أو الجوهر حيث تكمن الحقيقة، وصدوراً من هذا فإن التفكير الميتافيزيقي لا يكتفي بالمعرفة الظاهرية التي تزودنا بها الحواس، لأنها تظل قاصرة عن الوصول إلى مستوى المعرفة الفلسفية والعلمية ما دام أن دورها يقتصر على الوصف والإدراك، لذلك العقل هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من الغوص وراء الظاهر ومن ثم استجلاء الحقيقة، لذا فإن الخاصية الأساسية للتفكير الميتافيزيقي هي توسله بالمنهج العقلاني والعلمي بوصفه الطريق الحتمي للوصول إلى الحقيقة.
ولم يطرأ تغيير على المعنى الأصلي الذي ألصقه فلاسفة اليونان بالميتافيزيقا طيلة القرون الوسطى، حيث ظل فلاسفة الإسلام والمسيحية أمناء له، لكنه ما لبث أن شهد تطوراً نوعياً في الفلسفة الحديثة على يد رموز عصر التنوير كلوك وهوبز وكانط وديكارت الذين نقلوا التفكير الميتافيزيقي من طور الأنطولوجيا إلى طور الأبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، بحيث طرحوا جملة من الأسئلة بخصوص مصدر المعرفة (هل هو الحواس والتجربة أم العقل أو هما معاً)، وطبيعتها ومداها أو حدودها (هل الإنسان مهيأ لمعرفة كل شيء، أم إن قدرته على إدراك المعرفة محدودة بحدود العقل البشري؟).
وصولاً إلى الفلسفة المعاصرة، حيث ستعمل الفلسفة الوجودية التي نشأت في القرن 19 ويعد من أبرز روادها سارتر وهيدجر وكامو ونيتشة على تطوير موضوعات الميتافيزيقا من خلال الانتقال من دراسة الوجود الكلي المجرد وغير المحسوس إلى دراسة الوجود العيني المتصل على وجه التحديد بالذات البشرية والمشكلات المرتبطة بها كالحياة والموت.
وتصدر الفلسفة الوجودية المعاصرة من منطلق أساسي وهو مركزية الفرد باعتباره ذاتاً متفردة لا مثيل لها، ومن ثم فهي تميز بين الذات الحقة التي تصنع ماهيتها الخاصة، حيث تفترض الوجودية أن وجود الإنسان يسبق ماهيته بخلاف ما تقول به النزعات القدرية والحتمية من جهة، والذات الزائفة التي تذوب في الكلي وتنساق مع ميول وتقاليد الجماعة مما يفقدها هويتها المتفردة وأي معنى لوجودها من جهة ثانية، كما تؤكد الوجودية على أن العلاقات الاجتماعية يتعين أن تحفظ للفرد تفرده واستقلاليته.
وفي الفصل الختامي للكتاب، يعطي المؤلف نماذج للمشكلات الميتافيزيقية كالأدلة على وجود الله، بحيث أشار إلى انقسام الفلاسفة بين فريق اعتمد الأدلة العقلية باعتبار أن العقل هو طريق الإيمان، كما قال بذلك ديكارت، وفريق آخر انحاز إلى الأدلة اليقينية بوصف الإيمان مسألة قلبية خالصة وأن العقل قد يقود إلى نقيض الإيمان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.