تناولت في المقال الأول، كيف كان يعيش اليهود المصريون قبل حدوث النكبة الفلسطينية عام 1948، ونشأة الصراع المصري/العربي ضد الكيان الصهيوني، وكيف تشوّهت صورة اليهود المصريين غير المؤيدين للصهيونية بفعل الخطاب السياسي العروبي الشعبوي القائم حينذاك، وكيف صورت السينما اليهودي الصهيوني أخلاقياً في أفلامها، لنستكمل في الجزء الثاني من المقال كيف صورت السينما المصرية اليهودي الصهيوني عسكرياً، وإلى أي مدى ارتبط دعم السينما المصرية للقضية الفلسطينية بتغيّر سرديات أنظمة الحكم المتتالية تجاه كلٍ من إسرائيل وفلسطين.
العسكري الإسرائيلي في السينما المصرية
لم تغفل السينما المصرية عن أكثر الحيل استخداماً بواسطة الموساد الإسرائيلي لخداع ومعرفة المعلومات أثناء الحرب، وهي تجنيد الجواسيس وسط الطرف الآخر من المعركة. أفلام كثيرة تناولت تلك الحيلة، من أشهرها فيلم "الصعود إلى الهاوية" الذي تم بثه بعد انتصار أكتوبر/تشرين الأول بخمس سنوات عام 1978، من إخراج وتأليف كمال الشيخ وصالح مرسي، وبطولة محمود ياسين "المقدم خالد سليمان" ومديحة كامل "الصحفية عبلة". سَرد الفيلم قصة الجاسوسة المصرية الواقعية "هبة سليم"، والتي سافرت بداية السبعينات إلى فرنسا لدراسة الصحافة، وتمّ تجنيدها من قبل جهاز المخابرات الإسرائيلية، بل قامت بتجنيد ضابط مصري كان مُتيّماً بها، وهي دائمة الرفض له. كشفت المخابرات المصرية قصتهما، وقبضت على الضابط، وقد قبضت عليها فيما بعد، وأُعدمت بتهمة الخيانة العظمى للوطن لصالح العدو عام 1973.
في السينما المصرية، اتسم الضابط الإسرائيلي بالشجاعة والذكاء والمكر، بل الإخلاص من أجل الوصول إلى تدمير أعداء إسرائيل، كشخصية ضابط المخابرات الإسرائيلي "دانيال"، في فيلم "ولاد العم"، الذي خدع زوجته بذكاء شديد، واستطاع أن يخفي هُويّته لعدة سنوات عليها، بل استطاع أيضاً معرفة تعاونها مع الضباط المصري المتواجد في فلسطين، والمكلَّف بإعادتها إلى الأراضي المصرية، وتركه لهما حتى يستطيع بدوره القبض عليه، وبذلك يفوز بضابط مخابرات مصري أسير بين يديّ جهاز الموساد.
حتى في فيلم "الممر" الصادر حديثاً عام 2019، من تأليف وإخراج شريف عرفة، وهو يحكي قصة أبطال الصاعقة من الجيش المصري في أداء ملحمة عسكرية إبان حرب الاستنزاف بعد نكسة يونيو/حزيران 1967. الضابط الإسرائيلي "دافيد أليعازر" وهو قائد الكتيبة الإسرائيلية ضد القوات المصرية، جسده الممثل الأردني "إياد نصّار"، في صورة المقاتل الشجاع الذكي المخلص لإسرائيل والكاره الشديد لأعدائها، لكن تلك البراعة القتالية لن تعلو بالتأكيد على براعة الضباط المصريين الذين جسّدهم الفيلم.
السينما والنظام السياسي
لا ينفكّ إصدار الأفلام المصرية المتناولة لهذا الصراع عن سياسات النظام السياسي القائم وقتها ورؤيته للوجود الإسرائيلي، الأفلام القتالية التي صورت المعارك الملحمية في سنوات الحرب المختلفة، عام 1956، حرب الاستنزاف، حرب أكتوبر/تشرين الأول والعبور 1973، وهي آخر محطات الحرب المصرية/الإسرائيلية.
كانت تلك في جولات الحرب أو بدايات السلام غير الدافئ من الطرفين، لذلك لم يكن لنظاميّ جمال عبدالناصر أو السادات أي اعتراض سياسي على تلك الأفلام، حتى وإن كانت تلك الأفلام من صناعة ثقافية مستقلة، بل كانت مدعومة بشكلٍ رئيسي لتمجيد القوات المصرية الباسلة في خوضها لتلك المعارك.
وحتى في حقبة مبارك خلال الثمانينات والتسعينيّات، لم يكن النظام في حاجة لمنع استمرار صناعة تلك الأفلام، خصوصاً أنها لم تتناول أي إساءة لاتفاقية السلام في كامب ديفيد، أو بداية التقارب المصري الإسرائيلي من الناحية الدبلوماسية، بل تعاطت مع الحرب المصرية الإسرائيلية إبان الخمسينات إلى منتصف السبعينات واستعادة كيف كان الصراع بين الطرفين في الماضي.
تجلّى ذلك في اعتراض نظام مبارك على عرض فيلم "ناجي العلي"، إصدار عام 1991، تأليف بشير الديك وإخراج عاطف الطيب، والذي سَرد قصة رسام الكاريكاتير الفلسطيني المُغتال في شوارع لندن عام 1987 بواسطة مجهول. جسّد شخصية ناجي العلي في الفيلم الفنان المصري نور الشريف، حاكى الفيلم مواقف ناجي العلي في رسوماته وتصريحاته بشأن القضية الفلسطينية، والأنظمة العربية، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، انتقد ناجي العلي بشدّة اتفاقية كامب ديفيد، وسياسات النظام المصري في عهد السادات ومبارك بشأن التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، ما فتح نار الاتهامات في صدر الفنان نور الشريف وصانعي الفيلم من مثقفي السلطة المصرية، بالإضافة إلى الصحف المصرية وتناولها صناعة الفيلم بأجندة ليبية وتمويل من الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي بغرض تشويه النظام المصري.
بداية الألفية، بات الوضع أكثر دفئاً بين النظام السياسي المصري والإسرائيلي، خصوصاً بعد معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن فيما يعرف باتفاقية وادي عربة 1994، وقبلها اتفاقية أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، وفيما بعد مبادرة السلام العربية بقيادة السعودية عام 2002. أدّى ذلك الاستقرار السياسي بين مصر وبعض الدول العربية من جهة وإسرائيل من أُخرى إلى تناول الأعمال السينمائية المصرية القضية الفلسطينية من أبواب التضامن والدعم ورفض التطبيع الثقافي بين الشعوب، بعيداً عن سياسات الأنظمة العربية الحاكمة، واختفاء أحلام ورؤى زوال الوجود الإسرائيلي من المنطقة العربية، كما كانت أفلام آخر ثلاثة عقود من القرن الماضي، مثل أفلام أصحاب ولا بزنس"، و"السفارة في العمارة" وغيرهما".
مع تسلم النظام الحالي للسلطة في مصر بعد يوليو/تموز 2013 وإلى الآن، انتهت حتى سردية التضامن والدعم للقضية الفلسطينية، لتدخل السينما/الدراما المصرية مرحلة صمت تجاه قضايا التحرر العربية لدى الشعوب، نتيجةً للتأميم الفني والدرامي الذي قامت به السلطة الحالية في مصر. لكن، مع ذلك أشرف وأنتج النظام العديد من الأعمال سواء السينمائية أو الدرامية التي تبث استعادة أمجاد القوات المسلحة المصرية أيام تلك الحروب، سواء في أرض المعارك إبان حرب الاستنزاف كما في فيلم "الممر" عام 2019، أو حتى درامياً بتجسيد دهاء المخابرات العسكرية المصرية في القيام بتأمين البلاد من خطط وجواسيس الموساد، كما في مسلسل "الزيبق" 2017، وهذا ما يساعده في ترسيخ سردية الاستثناء التي فعّلها النظام الحالي منذ وجوده.
ترتبط صناعة الثقافة ومنها السينما والتلفزيون في أي بلد ذي طابع استبداديّ بسياسات النظام القائم، إما أن يوجّه النظام تلك الثقافة، بل أحياناً يُشرف بنفسه على صناعتها فيما يخدم سرديته وبقاءه، أو يمنع أي صناعةٍ أُخرى تحاول بث وتجسيد سردية أُخرى غير متوافقة مع ما يريده، وتلك هي أزمة أُخرى تنفجر دائماً بين المثقّفين غير التابعين للسلطة وبين السلطة ذاتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.