منذ مدة ليست بالطويلة انتشر مقطع لطبيب فرنسي وهو يقترح على الحكومة الفرنسية تجربة اللقاح الجديد الخاص بكورونا في إفريقيا. وطبعاً المقطع أثار ثائرة الأفارقة وخرجت الصيحات من القارة السمراء تندد بما قاله الطبيب وذهب البعض إلى حد رفع دعوى على الطبيب الفرنسي.
هذه النظرة الاستعلائية وهذه الدونية التي ترافق كل ما هو إفريقي تجد لنفسها تبريراً في الكتاب المقدس وفي كتابات بعض الفلاسفة والمؤرخين.
جاء في سفر التكوين 9: 20-27 ما نصه:
"وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه وأخبر إخوته خارجاً. فأخذ سام ويافت الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وستر عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعله به ابنه الصغير. ملعون كنعان، عبد العبد يكون لإخوته".
يقول ابن خلدون في هذا: "وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطابع الكائنات أن السودان وهم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه… وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير…".
ونحن إذ نذكر رأي ابن خلدون نود أن نشير إلى مروره مرور الكرام على هذا الافتراء وهذا التدليس والادعاء بكون أبناء حام عبيداً لباقي الأجناس لدعوة سيدنا نوح، وليس يقبل عاقل أن رسولاً من الله يدعو على نسل بأكمله لخطأ أبيهم، فما بالك أن نتقبل أن الله جعل قوماً عبيداً لآخرين وهو قائل في كتابه الكريم: "يا أيها الناس إن خلقناكم من نفس واحدة وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
لسنا في موضع يسمح لنا بمقارنة النصوص بعضها ببعض ولسنا نشنع على أحد دينه ولا نشكك في نصوص يؤمن بها الناس، بل نورد هذا بهدف نبيل وهو الدفاع عن إنسانية الجميع، والرد على من يستهين بأي مخلوق لشكله أو للونه أو عرقه.
هكذا إذا نوجد نحن، ندافع عن الكل، أوصانا ديننا بأن ننصر المظلوم، نرأف بالضعيف، أن نقف بجانب الحق، ألا نخاف في الله لومة لائم.
لكن وللأسف ليس كل الناس يؤمنون بهذا، حتى من بني جلدتنا، وسأستشهد بحدثين، وإن كان بالإمكان أن أستشهد بألف ألف حادث.
في سنة 2015 حدث أن تم إطلاق النار على مقر صحيفة فرنسية "شارلي إيبدو"، مات خلال هذه العملية بعض الأشخاص وجرح آخرون، آنذاك أطلقت حملة دولية "أنا شارلي Je suis charlie" تفاعل مع هذه الحملة مشهورون كثر بل ورؤساء دول، فمن منا ينسى المسيرة التي شارك فيها الرئيس الفلسطيني عباس وصديقه رئيس الكيان الصهيوني نتنياهو بالإضافة إلى ملك الأردن عبدالله الثاني ووزراء خارجية عرب، وميركل، وهلم جرا.
خرجت المسيرات في أنحاء العالم العربي، وأشعلت الشموع وانتحب الناس، وتلحفوا الأسود من الثياب، وهكذا عاش العالم بأسره مأساة شارلي.
قبل يومين أي 7 يونيو/حزيران، بمقاطعة أونتاريو الكندية، عائلة مسلمة تلقى حتفها في حادث دهس نفذه شاب بواسطة شاحنة، حيث قال شهود عيان إن الشاحنة صعدت الرصيف واتجهت نحو العائلة، الأمر الذي أكد نية مسبقة في تنفيذ العملية الإرهابية، وهو ما لم ينفه الشخص الذي لم يتجاوز للأسف الشديد العشرين ربيعاً.
شاب عشريني في أوج عنفوان الحياة يقتل أناساً مسالمين بطريقة وحشية تنم عن حقد دفين وعدوانية قل نظيرها، وربما عن جهل مغرق أولاً بهدف هذه الحياة ومعناها، وثانية بما يحدث في العالم.
هذا الشاب وقبله وربما بعده؛ كلهم بلا استثناء أناس سطحيون إلى أبعد الحدود، سطحيتهم واتباعهم الأعمى لوسائل التواصل الاجتماعي جعلهم يؤمنون بتفوقهم على باقي الأجناس وبكون الآخر -خاصة المسلم- كائناً غريباً يجب استئصاله، وذاك بكل الطرق الممكنة؛ وها هنا يمكن أن نعقد مقارنة بسيطة بين ما حدث للبولنديين والنمساويين على يد النازية الألمانية.
في كتابها "تفاهة الشر" تطرح حنة أرندت فكرة شاذة مازالت محط اهتمام الكثيرين، حنة ترى أن أيخمان الذي حوكم بتهمة إبادة اليهود لم يكن شريراً بطبعه "كنت مندهشة بمدى سطحية أيخمان، ما جعل إرجاع أفعاله الشريرة إلى مستوى أعمق من الدوافع أو الجذور أمراً مستحيلاً، بالطبع كانت الأفعال وحشية، لكن الفاعل كان عادياً جداً وتافهاً، ليس بالشيطان أو بالوحش".
تلقف المجتمع المثقف وخاصة اليهود هذا الكلام بمعارضة شديدة، الحد الذي هدد حياة الكاتبة، وحتى اليوم رغم أن البعض يعتبرها أحد أهم مفكري القرن العشرين، لا تلقى كتاباتها الترحاب لدى الكيان الصهيوني باعتبارها عدوة للصهيونية، وهذا ليس لحديثها عن تفاهة الشر بل عن دور الصهيونية في موت آلاف اليهود وعلاقتها بالنازيين.
إذا ما شرحنا عقلية هذا الشاب العشريني فإننا سنُصدم بالتأكيد لتفاهته، فلن تجده مطلعاً ولا ذا شخصية وربما كان شخصاً انطوائياً منعزلاً عن العالم، لكن الذي فعله يبدو كلحظة عابرة من لحظات تفاهته، فلنقل إنها إحدى مغامراته التي لا يتوقع نهايتها، وها هنا يذكرنا الوضع ولا بد برواية "الغريب" للفرنسي ألبير كامو.
دون سابق إنذار يقتل بطل الرواية رجلاً آخر دون معرفة سابقة ودونما إحساس بتأنيب الضمير؛ وقبلها يتلقى خبر وفاة والدته فلا يتحرك فيه شيء، إنها العدمية في أبهى تجلياتها.
هذا الغباء لا يختلف كثيراً عن غباء أولئك الذين يفجرون أنفسهم في الأبرياء ظناً منهم أن ذلكم يرضي الله تعالى، إنهما وجهان لعملة واحدة.
السطحية إذاً والعدمية يفسران هذا الفعل الشنيع الذي أقدم عليه هذا الشاب الكندي، سطحية وعدمية حجبتا نور الحقيقة عن عينيه، وأقنعتاه بقتل عائلة بريئة، بدهس أم وأب وأبنائهما دون شفقة ولا رحمة، دون أن يستحضر إنسانيته التي تميزه عن باقي الكائنات، ولربما حتى بعض الكائنات فيها من الإنسانية ما ليس في الإنسان.
بأي ذنب قتل هؤلاء؟ بأي تهمة هي تم إعدامهم أثناء نزهة عائلية؟ بأي ضمير سيحيا هذا الفتى بقية حياته؟ إعدامه لن يحصل غالباً، ثم السؤال الأهم كيف يمكننا أن نوقف هذه الحوادث الأليمة؟
لا أملك أي إجابة عن هذه التساؤلات، بينما يمكنني وببساطة أن أجيب عن سؤال آخر لموضوع هو بيت القصيد في هذا المقال: لماذا لا يتضامن العالم مع المسلمين كما يتضامن مع البقية؟
ليس الزمان بزمان المسلمين، في كل بقاع الدنيا يتعرض المسلمون للضرب والإهانة والقتل، في بلاد الإسلام تهان الرموز الإسلامية وينتقص من شرائعه، ويصد كل باب من شأنه الحفاظ على الهوية الإسلامية، تهدم المساجد ولا تمس الكنائس، يسمح بإقامة حفل راقص بحضور مغنين أمريكيين ويضيق الخناق على العلماء، ويمنع مسلمون من الحج، والحوادث في هذا الصدد كثيرة لا مجال لسردها.
لن يتضامن الرؤساء ولن ينظموا مسيرة في لندن – أونتاريو الكندية، لن يضعوا الورود، لن يضطر عباس والشلة للسفر، فالجو بارد وكندا بعيدة!
لماذا لن يحدث التضامن الذي ينشده على الأقل ذاك الطفل الناجي، الذي قدر له أن يعيش بذكريات أليمة؟
لأن الإسلام اليوم هو من يحارب، الإسلام اليوم هو العدو، هو الشيوعية في القرن الماضي؛ والإسلاموفوبيا اليوم "مكارثية الستينات"، فمحاربة الإسلام تجلب المناصب والتشريفات، والعداء لكل ما هو إسلامي قد يرتفع بالمرء من القاعدة إلى رأس الهرم.
لن يخرج عباس لأن موت المسلمين يحدث كل يوم، يقع في فلسطين دائماً، في الصين يسجن مليون مسلم من الإيغور ويستغلون أبشع استغلال، ولا أحد يتحدث، تخيل لو أنهم مسيحيون!
لقد عاد الموت، كما يقول تميم البرغوثي. التضامن مع المسلمين لن يظهر (القادة) و(المثقفين) بمظهر المنفتح الإنساني الذي يسعى للسلم وينشد عالماً وردياً بدببة بيضاء، والتضامن مع المسلمين لن يرضي السادة أولي النعمة، بينما التضامن مع قطة مسيحي أو يهودي وربما كلب صيني يحيط المرء بهالة من التنوير، ويرتفع به نحو مصاف علية القوم، بينما التضامن مع المسلمين قد يجر عليه غضب الناس؛ ومن يدري قد يتهم بالتعاطف مع الإسلام وهذا لا شك ذنب لا يغتفر، والتضامن مع المسلمين لن يكسب عباس سنة أخرى في الحكم، والمثقف لن يجد في الحدث مادة دسمة لكتابة مقال عن شر الإسلام وشريعته وضرورة حذف بعض الآيات، ولن يدفع له لقاء مقال يتضامن مع المسلمين والعكس. ولقد استشهدنا ذات مرة بما قاله الأستاذ حافظ الميرازي عن بعض الكتاب العرب الذين تلقوا مكافآت سخية جراء كل مقال يطعن في الإسلام.
سيقول القائل "أنتم مهووسون بنظرية المؤامرة".
لسنا بهوس ولا لوثة جنون قد اعترت عقولنا، إنما هي الأحداث بينت أن هناك مشروعاً عالمياً لمناهضة كل ما هو إسلامي، وهذا نستشهد عليه ابتداء بـ"وصية إليزابيث" ومروراً بـ"وثيقة كامبل" وانتهاءً بخطة "الدين الإبراهيمي" التي يروج لها بعض الشيوخ المحسوبين على الأنظمة التيورتالية بالعالم العربي خدمة للكيان الصهيوني والرأسمالية العالمية.
لا يمكن أن نغفل التضامن الذي لقيه المسلمون من الرئيس الكندي الشاب، لطالما سجل مواقف تحسب له مع كل الطوائف، رغم أن هذا يبقى واجبه كرئيس للدولة.
خلاصة القول:
– إن الحداثة التي يتغنى بها الغرب قد فشلت فشلاً ذريعاً في ضمان حياة أفضل للإنسانية؛ بل تسببت في ارتفاع حالات الإرهاب بما أنتجته من أفكار وأدوات.
– المسلم اليوم "إرهابي محتمل" حسب دين بوش الابن ومن وراءه، لهذا كل عمل هو ضد المسلم لن يشجبه إلا المسلمون وبعض المحافظين على إنسانيتهم.
إن المشروع العالمي يقضي بإظهار المسلمين كمجرمين لا كضحايا، والإسلام كعدو لا كصديق، هكذا اتفقوا، فباسم محاربة الإرهاب احتل العراق ونهبت أفغانستان، وباسم دعم الجماعات المتطرفة يتم ابتزاز الدول العربية، وباسم الإرهاب يلقى بالعقول النيرة والعلماء الربانية في السجن، هذه الحرب على الإسلام قائمة منذ 11/9، ولن تتوقف إلا بنهب خيرات العالم الإسلامي، وخلق جيل منحل ومنفصل عن تاريخه مرتبط بالغرب مستهلك لمنتجاته وأفكاره الشاذة الهدامة، آنذاك فقط.
ملاحظة: حينما نقول "لماذا التضامن مع المسيحيين واليهود" لا يعني أننا ضد هذا التضامن، نحن ضد الاعتداء على أي إنسان كيفما كان، بل أي كائن يمشي فوق البسيطة، نقول ذلك للشهادة فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.