ظلّ المغول منذ هزيمتهم الفادحة في معركة عين جالوت على يد قوات المماليك بقيادة المظفّر قطز والظاهر بيبرس، يتحيّنون الفرص للانقضاض على المماليك والثأر لهزيمتهم، ولم يتغيّر هذا عندما أصبحت دولة المغول دولة مسلمة على يد الخان محمود غازان، حفيد ابن هولاكو. في هذا التقرير نروي لكم قصّة مثيرة من قصص المغول وعلاقتهم بالمسلمين، ممثّلين في دولة المماليك في مصر والشام.
المماليك يهزمون المغول مراراً وتكراراً!
خسر المغول لأوّل مرّة تقريباً في العالم الإسلامي عام 1260 في معركة عين جالوت. كان هولاكو القائد المغولي قد أرسل رسلاً للسلطان المملوكي قطز، يُنذره فيها من مصير زملائه الملوك والسلاطين السابقين، بل من مصير الخليفة العباسي نفسه الذي قُتل بطريقةٍ مُهينة. وكان الرد المملوكي واضحاً: قطع رؤوس الرُّسل. ما يعني أنّ السيف هو الذي سيفصل بيننا. وقد فصل بين المسلمين والمغول فعلياً في عين جالوت.
بانتصار عين جالوت بسط المماليك سيطرتهم على الشام إضافةً إلى مصر، في أوج توسُّع الدولة التي وصلت سيطرتها إلى حدود العراق، إضافةً إلى أطراف ووسط الأناضول.
ظلّت هزيمة عين جالوت كابوساً لخانات المغول المتتالين، يحاولون مسح عارها بحروبٍ ومعارك أكثر، وبينما دولة المماليك تزداد قوةً وتوسعاً وتقضي على كلّ الممالك والإمارات الصليبية المتبقية في ساحل الشام، كان مغول فارس يحاولون اقتناص الفرص للقضاء على المماليك وغسل عار هزيمة عين جالوت.
لكنّ أيّاً من تلك المساعي لم يفلح، فقد كانت مصر في ذلك الوقت ركيزة العالم الإسلامي ومركزه، والقوّة الضاربة للمسلمين جميعاً.
حاول أباقا خان بن هولاكو غسل هزيمة جيوش أبيه من خلال معركتين كبيرتين خسرت فيهما جيوشه أمام الظاهر بيبرس، فقد مثّل الظاهر بيبرس كابوساً مخيفاً لأعدائه، الصليبيين أولاً والمغول ثانياً. ولم يخسر أمام عدوّيه معركةً قطّ.
حاول أباقا خان أن يجرّب حظّه مرةً أخرى مع السلطان المنصور قلاوون، لكنّه هزيمته كانت فادحةً في معركة حمص الثانية التي اعتبرها المؤرخون "معركة عين جالوت الثانية"، لما كان للهزيمة من أثرٍ كبير على المسلمين والمغول معاً. ويمكنك القراءة عن هذه المعركة من (هنا)
فقد أصيب في تلك المعركة قائد المغول منكوتمر، أخو أباقا خان، وما هي سوى شهور حتّى توفي أباقا لإدمانه على الشرب وشعوره بأنّ هزيمة جيوشه الفادحة خسّرته كثيراً، خصوصاً أنّه لم يحقق حلمه بالثأر لهزيمة جيوش أبيه في عين جالوت.
وبعد وفاة أباقا خان دخلت دولة المغول في فارس صراعاً على خليفته، وفي النهاية تولّى أحمد تكودار بن هولاكو السلطة. كان تكودار مسلماً، عاطفته الإسلامية كبيرة، لكنّ هذه العاطفة التي حاول ترجمتها بحماية المسلمين في مملكته وتدشين علاقة طيبة مع دولة المماليك، انتهت بانقلاب المغول عليه وقتله، فلم يستسغ المغول تصالحاً تاماً مع أعدائهم التاريخيين، الذين أذاقوهم طعم مرارة الهزيمة معارك حاسمة.
بعدما انقلب المغول على أحمد تكودار، تولّى أراغون بن أباقا خان، وحوّل وجهة الدولة من جديد نحو العداء تجاه المماليك، وما إن توفِّي حتّى بدأ الصراع على السلطة لعدّة سنوات، حتّى وصل في النهاية الحكم لابنه محمود غازان عام 1295. ولم يكن هولاكو الذي أذاق المسلمين من وحشيته أصنافاً، يعرف أنّ أحد أبنائه سيصبح مسلماً، وأنّ حفيده سيصبح اسمه محمود غازان.
والآن لنحكي لكم قصّة محمود غازان، وهل كان مسلماً حقاً؟!
محمود غازان يصل إلى العرش المغولي بعد عمّه
ولد محمود غازان عام 1271، أي في نفس العام الذي هُزمت فيه جيوش جدّه أباقا خان على يد الظاهر بيبرس في معركة البيرة. ولد غازان في إيران، ولم يكن يعرف والده حين ولد ابنه في نفس عام هزيمته الكبرى على يد بيبرس أنّ ابنه سيكون أحد أبرز حكام الإلخانات المغول الذين حكموا إيران. بل لم يكن يعرف أنّ أول انتصارات المغول على دولة المماليك ستكون على يديه. يمكنك القراءة بالتفصيل عن معركة البيرة من (هنا).
قضى غازان طفولته المبكرة برفقة جده أباقا خان وتربَّى على الديانة البوذية، التي كان يعتنقها أبوه وجده. وعندما تولى أبوه العرش في عام 1284، عَيَّن محمود غازان نائباً عنه في مقاطعات شمالي شرق بلاد فارس، حيث أقام لمدة 10 سنين تالية.
كان أول احتكاكات محمود غازان العسكرية عندما دافع عن حدود دولة والده ضد مغول الجغتاي من آسيا الوسطى، ثم ضد القائد نوروز الذي كان أحد ملازميه قبل أن يتمرّد وينضم إلى مغول الجغتاي.
بعد وفاة والده تولّى عمّه كيخاتو عرش الإلخانات بين عامي 1291 و1295. وجمعته علاقة طيّبة بعمّه. لكنّ عمّه لم يستمرّ في الحكم كثيراً، فقد انقلب عليه ابن عمه بايدو وجرده من الحكم واغتصب العرش، وهنا دخل محمود غازان في حربٍ مفتوحة مع بايدو. نصحه بعض مقربيه باعتناق الإسلام لمواجهة بايدو. وهكذا حين أعلن محمود غازان إسلامه، أسلمت قواته، وربما انضمّت له بعض القوات المسلمة الأخرى، وهكذا أصبح الصراع بين محمود غازان المغولي المسلم وبايدو ابن عمّ أبيه. حسم غازان الحرب وأسر بايدو ثمّ أعدمه في نفس يوم دخوله مدينة تبريز عاصمة الدولة الإلخانية.
هل كان محمود غازان مسلماً حقاً؟!
كما سبق أن ذكرنا، فقد أسلم محمود غازان أثناء صراعه مع بايدو، وقد كانت تلك خطوةً سياسية فيما يبدو. ومن المهم هنا أن نذكر أنّ محمود غازان كان قد تمّ تعميده مسيحياً وهو صغير، ثمّ بعد ذلك اعتنق البوذيّة، ثمّ أثناء صراعه مع بايدو اعتنق الإسلام، وما إن تولّى الحكم حتّى أعلن أنّ الدين الإسلامي هو الدين الرسمي لدولة الإلخانات المغولية في فارس.
كانت خطوة اعتناق محمود غازان للإسلام خطوةً سياسية بامتياز، ووفقاً لما ذكر المؤرخ محمد سهيل طقوش في كتابه عن تاريخ دولة المماليك في مصر والشام، فيبدو من رسائل محمود غازان إلى سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون، أنّه يرى نفسه قائداً للعالم الإسلامي بدلاً عن سلطان المماليك، وبهذا فقد كانت خطوته باعتناق الإسلام سياسية، وسيظهر هذا لاحقاً في المجازر التي سيرتكبها جيشه في بلاد الشام.
كان محمود غازان عنيفاً مثل جدّه أباقا خان وجدّ أبيه هولاكو، في العام الأوّل من حكمه أعدم ما يزيد على 5 أمراء من العائلة المالكة بسبب تواطئهم.
وبالرغم من أنّ غازان كان قد أصبح الآن حاكماً مسلماً لدولة إسلامية، لكنه استكمل النزاع الموروث من سلالته مع المماليك.
كانت حالة دولة المماليك في ذلك الوقت قد ضعفت. فالأمر الدائم الذي كان مميزاً لدولة المماليك على الرغم من كونها القوة الضاربة في كل العالم الإسلامي، إلا أنّها كذلك كانت كثيراً ما تتخلّلها فترات ضعف وانهيار، وكانت أبرز هذه الحالات عندما يموت السلطان ويتصارع قادته على العرش.
كانت فترة تولي محمود غازان هي فترة صراع داخل المماليك، بعد وفاة الأشرف خليل بن قلاوون وتولية أخيه الصغير محمد. كان محمد لا يزال صغيراً عمره 8 سنوات، وكانت مقاليد الحكم مقسّمةً بين الأمراء، وهو ما أغرى فيما يبدو محمود غازان لغزو بلاد الشام.
كانت العلاقات متوترة بطبيعتها بين دولة الإلخانات المغول وبين دولة المماليك للتاريخ الدموي بينهما، وعندما أرسل محمود غازان وفده للسلطان الناصر محمد بن قلاوون في القاهرة، أهان السلطان الوفد وسجنه، لأنّه لم يقتنع بنية غازان السلمية، فانتهزها غازان فرصةً لغزو بلاد الشام، وتحرّك بحملةٍ كبرى تجاه بلاد الشام.
وصلت قوات المغول بقيادة محمود غازان إلى حلب عام 1299، فتحرّك السلطان الناصر وقادته على وجه السرعة عندما وصلتهم الأنباء. لكنّ السلطان كان صغيراً وضعيفاً ولا يتحكّم في أمور الدولة، وما إن وصل الجيش المملوكي غزة حتى اكتشف السلطان مؤامرةً للإطاحة به، ورغم أنّه قضي على المؤامرة إلا أنّ الجيش ظلّ مفككاً.
وصلت قوات المغول بقيادة محمود غازان إلى حلب عام 1299، فتحرّك السلطان الناصر وقادته على وجه السرعة عندما وصلتهم الأنباء. لكنّ السلطان كان صغيراً وضعيفاً ولا يتحكّم في أمور الدولة، وما إن وصل الجيش المملوكي غزة حتى اكتشف السلطان مؤامرةً للإطاحة به، ورغم أنّه قضي على المؤامرة إلا أنّ الجيش ظلّ مفككاً.
التقى الجيشان في معركةً كبيرة قرب مجمع الورود بين حمص وحماة، ورغم أنّ المعركة كانت ضخمة وكاد أن يُهزم فيها محمود غازان، إلا أنّه انتصر في النهاية، فانسحب السلطان الصغير إلى دمشق، ومنها للقاهرة.
ورغم انتصار غازان، إلا أنّه خشي مطاردة الجيش المملوكة خوفاً أن يكون المماليك قد أعدوا كميناً للإيقاع به. لكنّ لا أحد من المماليك كان قد أعدّ كميناً لغازان. وكعادة المغول، سواء كانوا مسلمين أو لا، فقد بدأوا في نهب وتدمير حمص وما حولها.
وما إن انسحب السلطان إلى القاهرة حتّى أرسل الدمشقيون وفداً لمحمود غازان، كان من أعضاء الوفد العالم ابن تيمية. أخبر محمود غازان الوفد أنّه جاء هنا فقط لـ"تأديب المماليك لخروجهم عن الدين وظلمهم للعباد"، وتعهّد لهم ألا يجدوا سوءاً من قواته.
لكن ما إن دخلت قوات المماليك دمشق حتّى غدرت بأهلها وبدأت في السلب والنهب دون وازع.
عاد محمود غازان إلى عاصمته تبريز بعدما ولّى أحد أمراء المماليك نائباً له على الشام، ثمّ ترك له حاميةً مغولية، لكنّ الأمير المملوكي سرعان ما طرد الحامية وغير ولاءه وراسل سلطان المماليك الناصر محمد.
وما هي سوى عدّة شهور حتّى تحرّك غازان مرةً أخرى عام 1300 تجاه بلاد الشام، فعمّ الذعر بلاد الشام. لكنّ السلطان المملوكي كان قد أعدّ العدّة جيداً للقاء غازان.
تحرّك الجيش المملوكي باتجاه حلب، لكنّ المناخ كان شتوياً وصعباً، فقد هطل المطر بغزارة وكثر الوحل واشتدت البرودة، وهلك كثير من جند المغول ونفقت الدواب والخيل، فاضطر محمود غازان للعودة إلى تبريز العاصمة.
وفي عام 1303 وقعت معركةٌ أخرى بين القوتين، فقد قرر غازان غزو الشام مرةً أخرى، فهي حلمه وحلم أجداده الذي لم يمُت قطّ. لكنّ غازان نفسه قد انسحب إلى بلاده، ويبدو أنّه واجه تهديداً على حدوده الشرقية، فترك مهمّة حروب الشام لقائده قتلغ شاه.
كان جيش قتلغ شاه قد وصل 80 ألف جندي ويقال إنّه كان 100 ألف. أرسل قتلغ شاه فرقة عسكرية مغولية ناحية حماة بهدف النهب وفرض الهيبة في نفوس السكان، لكن تصدّى لهم نائب مدينة طرابلس (في لبنان الحالية) في منطقة اسمها "عُرض".
تصدّى لـ4 آلاف مغولي بـ1500 جندي فقط، وأخذهم على حين غرّة وانتصر في المعركة، بعدما أسر 1800 مغولي وأنقذ 6 آلاف أسير مسلم من التركمان. وكان هذا النصر كبيراً معنوياً وإن كان صغيراً نسبياً مقارنةً بجيش المغول البالغ 80 ألف مقاتل والقابع في الشام.
لكنّ قتلغ شاه كان على موعدٍ مع القدر، فقد تلاقى هو والمماليك في معركة شَقحّب الفاصلة، والتي هُزم فيها المغول هزيمةً كبيرة تعتبر فضيحةً مثل معركة عين جالوت ومعركة حمص الثانية. يمكنك القراءة بالتفصيل عن معركة شقحب من (هنا)
وقد تسبّبت تلك الهزيمة الضخمة في تفكيك سلطة محمود غازان نفسه على المغول، وما هي إلا فترة قصيرة حتّى أصيب محمود غازان بمرض توفي به عام 1304، وعمره 33 عاماً فقط.
وما أشبه نهاية غازان بنهاية جدّه أباقا خان، حين هزم هزيمة نكراء في معركة حمص الثانية، فمات بعدها بفترةٍ قصيرة.
أمّا السلطان الشاب محمد الناصر بن قلاوون، فقد أعطاه النصر شرعيةً كبيرة أمام أمرائه المتنفذين في دولته، وحكم حتى عام 1341، في فترة من أكثر فترات حكم المماليك ازدهاراً وقوةً وعنفواناً.
محمود غازان يتحالف مع الصليبيين
كما ذكرنا سابقاً، كان إسلام محمود غازان خطوةً سياسية أكثر منها خطوة دينية حقيقيّة، فقد سعى لتكوين حلف مغولي- صليبي لمواجهة المماليك، ويبدو أنّه لم يكن يمانع من التخلِّي عن الأماكن المقدسة في فلسطين للصليبيين لو انتصر على المماليك ضمن تحالفه مع الصليبيين.
وقد ذكر في رسالةٍ له للبابا بونيفاس الثامن بتاريخ 12 أبريل/نيسان عام 1302، خطةً مفصلةً لغزو بلاد الشام، وقد سبق أنّ قدمها نفسها لأمراء أوروبا، ويقول في هذا الرسالة:
"أما في الوقت الراهن، فإننا نعد قواتنا بالطريقة المذكورة تماماً (في الخطة). وأنتم أيضاً يجب عليكم تجهيز قواتكم، وإرسال خطابات لحكام مختلف البلاد وألا تخلفوا الميعاد. وإن شاء الله سنجعل نحن (يقصد نفسه) العمل العظيم (أي الحرب على المماليك) هدفنا الأوحد".
ورغم أنّ تلك النهاية لم تكن مطلقاً النهاية التي يتوقّعها محمود غازان في غزوه لبلاد الشام، إلا أنّه كان أيضاً قائداً استثنائياً، قوياً شجاعاً محنكاً. ويقال إنّه إلى جانب لغة المغول المحلية، كان لديه معرفة باللغة العربية واللغة الفارسية، والهندية، والكشميرية، والتبتية، والصينية، والفرنسية.
كما كانت هوايته الخاصة هي صنع السروج وألجمة الخيول، والمهاميز، والدروع والخوذات. وكان يمكنه الطرق والخياطة والتلميع، وفي هذه الأنشطة كان يقضي وقت فراغه من الحرب.