أصبحت الكوفية الفلسطينية رمزاً للنضال من أجل الحرية حول العالم، وذلك منذ عقود طويلة، هذه قصة الرمز الذي يعتبر عَلماً غير رسمي لفلسطين.
موقع Middle East Eye البريطاني نشر تقريراً رصد قصة الكوفية الفلسطينية وبحث في أصلها والروايات المختلفة في هذا الصدد وكيف تحولت إلى رمز للكفاح من أجل الحرية، ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن حول العالم.
الكوفية الفلسطينية عبارة عن قطعة من القماش يبلغ طولها متراً مربعاً، ويرتديها الرجال الفلسطينيون الريفيون، ولطالما كانت رمزاً ومرادفاً للقضية الفلسطينية. واليوم أصبحت هذه الكوفية موضة بين نشطاء حقوق الإنسان والمتظاهرين المناهضين للحرب ونجوم الرياضة والمشاهير بغض النظر عن أجناسهم ودينهم وقوميتهم.
كيف بدأت قصة الكوفية؟
يقول محمد وليد، 49 عاماً، من القدس، إنه يتذكر رؤية والده وأعمامه يرتدون الكوفية في ذكرياته المبكرة. ويضيف: "كانت الأجيال الأكبر سناً ترتديها على رؤوسهم. بدأت أرتديها في سن المراهقة، لكن حول رقبتي. بالنسبة لي، فهي تمثل الكفاح والقضية الفلسطينية".
في حين أن مكانة الكوفية كرمز للأمة الفلسطينية لا جدال فيها، إلا أن أصولها تكمن في الشرق، فيما يعرف الآن بالعراق.
الكلمة نفسها تعني "مرتبطاً بالكوفة"، في إشارة إلى مدينة الكوفة العراقية التي تقع جنوب بغداد على طول نهر الفرات، لكن لا يُعرف سوى القليل عن جذور الكوفية. تشير إحدى الروايات إلى أنها ظهرت في القرن السابع، أثناء معركة بين القوات العربية والفارسية بالقرب من الكوفة. وقيل إن العرب استخدموا الحبال المصنوعة من وبر الإبل لتأمين أغطية رؤوسهم وللتعرف على رفاقهم في خضم المعركة. بعد الانتصار، احتفظ العرب بغطاء الرأس ذلك كتذكير بانتصارهم.
يقول آخرون إن الكوفية، التي يُطلق عليه أحياناً اسم الحطَّة في بلاد الشام، لها أصول تسبق الإسلام ويمكن إرجاعها إلى بلاد ما بين النهرين، عندما كان يرتديها الكهنة السومريون والبابليون منذ حوالي 5000 عام.
تقول آنو لينغالا، مؤلفة كتاب "تاريخ الكوفية الاجتماعي والسياسي" لموقع Middle East Eye: "أصولها مفتوحة للتكهنات. حتى وقت قريب جداً، لم تكن هذه الأنواع من الأشياء تؤخذ على محمل الجد كمواضيع للبحث الأكاديمي. وكان الاستثناء بالنسبة للأشياء المصممة هي تلك التي ترتبط بمكانة النخبة والثروة، بينما كانت الكوفية مرتبطة تقليدياً بالطبقات العاملة".
رغم عدم ارتباطها بالوضع الاجتماعي، فإن جذور الكوفية الحديثة في فلسطين ترجع إلى الفلاحين، أو العمال الريفيين، وكذلك البدو. كانت تلك الجماعات تلبس الكوفية فوق رؤوسهم لتغطية مؤخرة رقبتهم ولحماية أنفسهم من حرارة شمس الصيف وبرودة الشتاء.
وبحسب لينغالا: "تغطية الرأس مبدأ مهم في الثقافة الفلسطينية التقليدية"، وتضيف أن الكوفية وفرت التهوية المناسبة من خلال الجيوب الهوائية الناتجة عن طيات القماش. على الجانب الآخر، يرتدي الفلسطينيون الأكثر تعليماً، أو الحضريون، أو الأفنديون الطربوش، وهي قبعة ذات شعر أحمر داكن نشرها السلطان العثماني محمود الثاني بين العامة، واعتمدها السكان المحليون كشكل قياسي من اللباس.
وكتبت المؤرخة الثقافية جين تاينان عن أهمية وشاح الرأس في كتاب الموضة والسياسة وقالت: "كان لقواعد اللباس في الإمبراطورية العثمانية تأثير في محو الهويات العرقية والدينية".
ياسر عرفات والكوفية
بعد خسارة الإمبراطورية التركية لأراضيها في الشرق الأدنى خلال الحرب العالمية الأولى، والثورة العربية ضد الحكم الاستعماري البريطاني عام 1936، استخدم القوميون الفلسطينيون الكوفية أيضاً كوسيلة لتغطية وجوههم لإخفاء هويتهم وتجنب الاعتقال، مما حفز دعوات فاشلة بين البريطانيين لحظر أغطية الرأس. بدلاً من ذلك، في "لحظة محورية في الثقافة الفلسطينية"، اتحد الفلسطينيون في تبني الكوفية كدليل على التضامن. وظلت الكوفية رمزاً أساسياً للأمة الفلسطينية بعد النكبة وإقامة دولة إسرائيل.
وقالت مها السقا، رئيسة مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم، لموقع Middle East Eye: "تخلى الفلسطينيون من جميع الطبقات الاجتماعية عن الطربوش واتحدوا حول ارتداء الكوفية، مما جعل من الصعب التعرف على الثوار".
بعد سنوات، في الستينيات من القرن العشرين، قام الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بنشر الكوفية بين الجمهور العالمي. فقد كانت كوفيته موضوعة بعناية على رأسه دائماً، مع وضع الطرف الأطول للكوفية على كتفه الأيمن ويقول البعض إنه وُضِع ليشبه خريطة فلسطين ما قبل 1948.
ووفقاً لتيد سويدنبرغ، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة أركنساس الأمريكية، عندما حظرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي العلم الفلسطيني من عام 1967 حتى اتفاقيات أوسلو في عام 1993، اتُّخذت الكوفية كرمز قوي للنضال الفلسطيني.
ويقول سويدنبرغ إن "الرموز المحمولة والمرئية" كانت مهمة للفلسطينيين، مضيفاً أنه مع حظر العلم الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي على مدار 30 عاماً، أصبحت الكوفية "بمثابة التعبير البصري عن الهوية الفلسطينية".
الكوفية والقمح والزيتون وخلايا النحل
يقال إن للخياطة السوداء المميزة على الكوفية الفلسطينية العديد من المعاني الرمزية، ورغم عدم التحقق من أي منها، فإن الفلسطينيين لديهم تفسيرات عديدة.
البعض قال إنها ترمز إلى "شبكة الصيد، أو خلية النحل، أو ضم الأيدي، أو علامات التراب والعرق الممسوحين من جبين العامل". ويقول آخرون إن التصميم يمثل سنابل القمح، في إشارة إلى أريحا، إحدى أولى المدن المعروفة بزراعة الحبوب.
تقول الكاتبة الفلسطينية سوزان أبوالهوى لموقع Middle East Eye إن التصاميم الموجودة على الكوفية "تخاطب شريان الحياة الفلسطيني، بنفس الطريقة التي تكون بها تصاميم التطريز لغة في حد ذاتها، فهي تحكي قصصاً عن الموقع والنسب والمناسبة والمغزى التاريخي".
يشار إلى الخياطة السوداء أحياناً على أنها تصميم لخلية العسل، تقديراً لمربي النحل في المنطقة؛ ويقول بعض السوريين في المناطق الريفية إن النقش يرمز إلى ضم الأيدي وعلامات العرق الممسوح من جبين العامل.
وتضمنت تغريدة حديثة تفسيراً آخر للتصميم، فهو يعد تمثيلاً لأشجار الزيتون في فلسطين، والتي تُظهر "القوة والمرونة".
وتوضح سوزان أبوالهوى أن الزيتون، بجميع أشكاله -زيت الزيتون ومنتجات زيت الزيتون وخشب الزيتون- كانت جوانب مهمة للغاية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للطهي الفلسطيني.
وتضيف "أن أشجار الزيتون لم توفر فقط وسيلة للرزق والدخل، ولكن العناية بالأشجار وموسم الحصاد جسدت أحداثاً اجتماعية ووطنية مهمة في مجتمعنا. فالزيتون حاضر في شعرنا وأغانينا وتطريزنا وطعامنا وتقاليدنا العائلية. وأخيراً، تشير الأطراف الطويلة في الكوفية إلى طرق التجارة التي استوردت وصدرت المنتجات من وإلى فلسطين".
الكوفية يرتديها الجميع
يُعتقد أن الكوفية صُنعت في الأصل من الصوف قبل إدخال القطن من الهند ومصر، ولا تزال الكوفية -التي تسمى أيضاً الشماغ في الأردن وسوريا، والغترة في دول الخليج- عربية بشكل واضح ولكنها لا ترتبط بدين معين، حيث يرتديها المسيحيون العرب والمسلمون والدروز والعلمانيون في جميع أنحاء المنطقة بألوان وتصاميم مختلفة.
في حين أن الكوفية الفلسطينية والسورية لا تزال باللونين الأسود والأبيض، فإن البعض الآخر له أنماطه الخاصة.
تفضل دول الخليج مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر الغترة البيضاء البسيطة، وهي ملابس قطنية خفيفة نظيفة تعمل كحاجز للحرارة على مدار العام. وفي أشهر الشتاء الباردة، تحل الأغطية الثقيلة ذات الظلال الداكنة والهادئة محل أغطية الرأس الصيفية. عادة ما توضع الكوفية على الرأس وتُثبت بعقال أسود، وقد يختار الرجال الأصغر سناً لف الغترة بأسلوب العمامة المعروف باسم الحمدانية.
يرتدي السعوديون والأردنيون شماغاً باللونين الأحمر والأبيض، قيل إنهم تأثروا بالبريطانيين. ويقال إن الجنرال البريطاني جون باجوت جلوب صمم غطاءً للرأس في ثلاثينيات القرن الماضي كوسيلة للتمييز بين العرب الموالين للحكم البريطاني، وفقاً للأكاديميَّين وداد قعوار وعزرا كرمل.
الكوفية رمز الحرية
بدأ الطلاب والنشطاء المناهضون للحرب في جميع أنحاء العالم في تبني الكوفية الفلسطينية كجزء من الحركة المناهضة للحرب في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
ويقول سويدنبرغ إن الكوفية الفلسطينية تجاوزت العالم العربي في ذلك الوقت وأصبحت لباساً مفضلاً لدى المتظاهرين السياسيين ورمزاً للمقاومة، حيث ارتداها مناهضون للإمبريالية، مثل الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو. في ذلك الوقت، كان هناك تعاطف واسع النطاق مع النضالات ضد الاستعمار والمناهضة للإمبريالية في العالم النامي.
أصبحت الكوفية رويداً رويداً الموضة السائدة بعد ذلك. تشير لينغالا إلى مقال في مجلة Time من عام 1988 يناقش الكوفية الفلسطينية وعلاقتها بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت عام 1987. تقول لينغالا: "لم يكن مرتدو الكوفية الذين جرت مقابلتهم على دراية بأي انتماءات سياسية وبدلاً من ذلك ارتدوها كشيء للزينة والموضة".
ظهرت الكوفية أيضاً في معرض Is Fashion Modern؟ عام 2017 في متحف نيويورك للفن الحديث، وقال كبير أمناء المتحف: "الكوفية أصبحت مشبعة بأهمية سياسية عميقة. كما أنها أصبحت إكسسوار أزياء، بشكل منفصل تماماً عن سياقها الأصلي، وتستخدم لمزاياها الجمالية وحدها".
سرعان ما وجدت عائلة الحرباوي، التي تصنع الكوفية التقليدية منذ عام 1961، أن النسخ الأرخص تقوض منتجاتها التي يجري تصنيعها في مدينة الخليل.
وفي مقابلة سابقة، قال عابد، أحد الإخوة الذين يديرون المصنع، لموقع Middle East Eye: "عندما بدأت الكوفية المصنوعة في الصين في الوصول، انخفض الإقبال على منتجاتنا"، ومع تقلص الطلب على الكوفية الفلسطينية، تقلص الإنتاج. واستغرق الأمر 15 عاماً حتى ينتعش مرة أخرى.
وقد أدى هذا "التقليل" الملحوظ للكوفية وتجريدها من قيمها الرمزية إلى اتهامات بالاستيلاء على الثقافة. بالإضافة إلى منتجات السوق الشاملة، قام مصممون متميزون بإنتاج نسخ خاصة، بما في ذلك إصدار دار أزياء Balenciaga في عام 2007، والذي تكلف 3000 دولار.
إن تسويق الكوفية لم يقلل بأي حال من قيمتها الثقافية في نظر الفلسطينيين. على سبيل المثال، أصرت مغنية الراب الفلسطينية البريطانية شادية منصور على ضرورة الاعتراف بالارتباط الرمزي للكوفية بالهوية الفلسطينية، وقد أشارت إلى الكوفية في عملها. ففي عام 2010، أطلقت أول أغنية منفردة لها بعنوان "الكوفية عربية" كتعبير عن الهوية الفلسطينية.
وفاز الفنان الفلسطيني محمد عساف في برنامج المواهب "أراب أيدول" عام 2013 بأغنيته في مدح الكوفية بعنوان "علي الكوفية" والتي أصبحت نشيداً فلسطينياً. وفي الآونة الأخيرة، قام المغني الفلسطيني مهند خلف في أغنيته المعنونة، فلسطين تاج على الرأس، بتقديم راقصين يرتدون الكوفية ويؤدون رقصة الدبكة التراثية.