في أقل من يومين، صدرت عن الجانب المغربي والإسباني سلسلة ردود فعل متقابلة، تنبئ بدخول التوتر منعطفاً حاسماً، تتباين التقديرات بشأن مستقبله، وهل يدفع في اتجاه تسوية ما، أم يتجه لمزيد من التصعيد؟
والواقع أن تصور مستقبل هذا التوتر يتوقف على معرفة إلى أين وصلت محطة التوتر، وما الأوراق الجديدة التي بدأ يستعملها الطرفان في إدارة الصراع، ومن الطرف الذي يمتلك رؤية مرتبة في خطواته في إدارة الصراع؟ وما الحسابات الدقيقة في معادلة الصراع؟
إسبانيا، على ما يبدو، من موقفها وردود فعلها، لا تزال تتصرف من موقع رد الفعل. ولذلك، بقي خطابها ممسكاً بقضية الهجرة، وكيف أقدم المغرب على استثمار هذه الورقة ضدها وضد أوروبا، محاولة في ذلك جر الاتحاد الأوروبي إلى صفها حتى تضع المغرب في الركن الضيق، وتغطي على حقيقة الأزمة، بافتعال أزمة أكبر، كما ولو كانت المشكلة هي مشكلة بلد يستعمل الهجرة لتهديد أوروبا. ولذلك، لا يتجاوز خطابها اللعب على ثنائيتين، الضغط بهذا الملف أي استعمال الاتحاد الأوروبي ضد المغرب، وفي الوقت ذاته، محاولة إقناع المغرب بأنه لن يجد شريكاً يدافع عنه وعن مصالحه لدى الاتحاد الأوروبي أكثر من إسبانيا.
أما المغرب، فسلوكه السياسي والدبلوماسي يؤشر إلى أنه يخوض معركة مرتبة الخطوات، بدأت باستعمال المعلومة الاستخباراتية (تواطؤ إسبانيا في إدخال زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي لأراضيها بهوية وجواز سفر مزورين)، ووضعها في حرج الموقف مع الرأي العام الإسباني، ومع الجهاز القضائي الإسباني، ومع القوانين والقيم الأوروبية، ثم التلويح باستعمال ورقة الهجرة (إخلاء الجيش والأمن المغربي من المراقبة الحدود مع مدينة سبتة المحتلة، مما تسبب في نزوح أكثر من 8000 مغربي إلى سبتة في ظرف 48 ساعة)، حتى يضغط على إسبانيا، ويمنعها من التورط مرة أخرى في تهريب غالي من أراضيها، بعدما رصدت أجهزة الاستخبارات المغربية معطيات دقيقة بوجود خطة لتهريبه بمشاركة جنرالات من الجيش الجزائري وتحرك طائرة جزائرية للقيام بهذه المهمة.
المغرب رتب الخطوة الثانية بذكاء، وذلك بعد أن اضطرت إسبانيا إلى إخضاع إبراهيم غالي للمتابعة القضائية. بلاغ خارجيتها سجل أخذه العلم بهذه الخطوة، وكون السلوك الإسباني، يعتبر دليلاً يثبت تحايل الموقف الإسباني، وكونه أصبح شريكاً غير جدير بالثقة، لكونه يقوم بطعن شريكه من الظهر في الخفاء، ويعلن في العلن شيئاًَ آخر.
بلاغ وزارة الخارجية المغربية وضع النقاط على الحروف، وأثبت بالدليل أن السلوك الإسباني متناقض وتحايلي، وأنه في الوقت الذي يدخل ضمن عناصر الشراكة الامتناع من التعامل مع الانفصاليين الكاتالان، فإنه، لا يأبه بخرق هذه الشراكة، بالتعامل الخفي مع انفصاليي المغرب (جبهة البوليساريو)، فيدرج البلاغ حيثيات تفصيلية تتعلق بجملة طلبات إسبانية وجهت للرباط تخص عدم التعامل مع وفود استثمارية من إقليم كاتالانيا، وكيف استجاب المغرب لذلك، وكيف دافع عن وحدة الأراضي الإسبانية، ووقف وقفة قوية ضد أي نزوع انفصالي يمس وحدتها الترابية، بل إن البلاغ تحدث عن دعم المغرب القوي لإسبانيا زمن الأزمة، وكيف أعطى امتيازات كثيرة للمستثمرين وكذا للمواطنين الإسبان الذين ضاقت بهم سبل العمل، ففتح المغرب الباب أمامهم للخروج من الأزمة.
في السابق، تجنب وزير الخارجية المغربي أن يفصح على وجه التحديد عما يريده المغرب من إسبانيا للخروج من هذه الأزمة الدبلوماسية، وكان يرد على تساؤلات الصحفيين بأن المشكلة افتعلتها إسبانيا، وهي التي عليها أن تحلها. لكن، مع البلاغ الأخير، وبعد أن كسب المغرب جولة مهمة في إدارة التوتر الدبلوماسي مع إسبانيا (محاكمة غالي على أراضيها والتخلي عن سيناريو تهريبه)، بدأ المغرب يبين بوضوح مطالبه، وأن المشكلة ليست في وجود شخص انفصالي على أرضها، وإنما المشكلة هي أعمق من ذلك، إذ تتعلق بمفهوم الشراكة، وكيف تعرفها إسبانيا، وكيف تمارس الازدواجية في هذا الفهم، فتطلب من المغرب مقتضيات تعتبرها من صميم الشراكة، وتمتنع عن الالتزام بها إذا تعلق الأمر بمصالح المغرب.
وقد استبق المغرب بهذا الجواب أي قرار يمكن أن يصدر عن المحكمة العليا الإسبانية بعدم متابعة غالي، وبالتالي السماح له بمغادرة إسبانيا.
الجولة قبل الأخيرة للصراع وضحت فيها المطالب، فالمغرب أصبح يطالب بأن يتم تعريف الشراكة بتعريف موحد، يلزم الطرفين معاً، وأنه إذا كان من شروط هذه الشراكة ومقتضياتها -حسب التعريف الإسباني- هو أن يلتزم المغرب بعدم تقديم أي دعم للانفصاليين في إقليم كاتالانيا، فعلى إسبانيا أن تلتزم بالمثل، وتمتنع عن تقديم أي دعم للبوليساريو، وأن تدعم الوحدة الترابية للمغرب، وتساير بذلك الموقف الأمريكي المعترف بسيادة المغرب على صحرائه.
والحقيقة أن إسبانيا كانت تدرك جيداً مطلب المغرب، ولذلك، لم تتردد وزيرة خارجيتها في التأكيد على أن موقف بلدها من الصحراء لن يتغير، لكنها، أمام اهتزاز صورتها أمام الرأي العام الإسباني، بسبب ثبوت تورطها وضلوعها في إدخال إبراهيم غالي لأراضيها بهوية وجواز سفر مزورين، حاولت أن تختبئ وراء ورقة الهجرة، وتستعمل الاتحاد الأوروبي ليكون ظهيراً لها في معركتها مع المغرب.
لكن، المغرب انتبه جيداً لهذا التكتيك، فكانت الخطوة الموالية، التي قتلت أوراق إسبانيا، فوجه الملك محمد السادس تعليماته إلى وزير الداخلية ووزير الخارجية القاضية بإعادة جميع القاصرين المغاربة غير المصحوبين بذويهم بدول الاتحاد الأوروبي إلى المغرب.
ذكاء المغرب في إدارة الصراع دفعه، ليس فقط لإقناع أوروبا بأنه سيتحمل مسؤوليته في إعادة القاصرين الذين نزحوا إلى سبتة، وبذلك، يعطل ورقة تستعملها إسبانيا ضد المغرب، بل اتجه إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو منع إسبانيا من استعمال القاصرين ضد المغرب، وذلك، بوضعها أمام مسؤوليتها في حالة ما إذا ما قررت عدم إعادتهم للمغرب، كما حققت أكثر من هدف تحييد الاتحاد الأوروبي بهذه الخطوة، فكان توسيع الدائرة (إعادة القاصرين في كل دول أوروبا وليس فقط في سبتة) بمثابة ورقة مهمة لتحويل وجهة الدعم والإسناد الأوروبي، وذلك من إسبانيا إلى المغرب، ومحاولة وضع مدريد في حالة عزلة.
ما من شك أن هذه الورقة ستفقد إسبانيا أوراقها في إدارة الصراع مع المغرب، ولن يكون أمامها سوى أن تبقى في موقع المنتظر للخطوة المغربية التالية، ما دام المغرب غير مكتف بخطوة محاكمة غالي.
الأوراق المغربية المتوقعة ستكون هي الأخرى مرتبة، والتقدير أن أول ورقة سيتجه إليها هي وقف التنسيق الأمني، وذلك حتى يدفع بالصراع السياسي الداخلي في إسبانيا إلى مداه، ويتحقق هدف إسقاط حكومة بيدرو سانشيز، ذلك، أن الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسبانية، فضلاً عن النخب السياسية التقليدية وذات الخبرة، تدرك وتقدر الدور الذي يلعبه المغرب في تأمين إسبانيا من الإرهاب ومن خطر الجريمة العابرة للحدود، ومؤكد أنها لن تسمح لحزب هاو في السياسة (بوديموس)، أن يدير السياسة الخارجية لإسبانيا بشكل يعرضها للخطر، ويفسد علاقتها بأقوى شريك إقليمي لها في المنطقة.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً، هو سقف تطلع المغرب هو فقط إسقاط حكومة بيدرو سانشيز وتلقين حزب بوديموس المعادي للوحدة الترابية درساً بليغاً في السياسة الخارجية، أم أن أفقه الاستراتيجي يمتد لما هو أبعد من ذلك، وأن المغرب يمد عينه من خلال صراعه مع إسبانيا إلى موقف أوروبي داعم لوحدته الترابية ومنه بشكل كامل لمشكلة النزاع حول الصحراء.
يبدو من أسلوب المغرب المرتب في إدارة الصراع مع إسبانيا أن عينه على تحقيق الهدفين معاً، فإسقاط حكومة سانشيز سيكبل أي حكومة مقبلة في إسبانيا، ويجعلها مقتنعة أن أمنها وشراكتها مع المغرب متوقفان على تغيير موقفها من قضية الصحراء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.