كان قطاعا السياحة والطيران من أكثر القطاعات الاقتصادية تأثراً بوباء كورونا بسبب الإغلاقات وإجراءات الوقاية، لكن مع التوصل للقاحات برز مصطلح "سياحة اللقاح" بصورة لافتة.
والمقصود بسياحة اللقاح هو أن يسافر مواطن من دولة إلى دولة أخرى لغرض واحد فقط، وهو أن يحصل على لقاح كورونا في تلك الدولة التي يسافر إليها "سائحاً"؛ إما لعدم توفر اللقاح في بلده أو لأنه لا يقع ضمن الفئات المؤهلة لتلقي جرعات اللقاح.
فمع بداية حملات التلقيح ضد فيروس كورونا، وضعت الدول أولوية منح اللقاح لفئة كبار السن والعاملين في القطاع الصحي، وهو ما دفع البعض للبحث عن بدائل للحصول على اللقاح مهما كانت التكلفة المادية.
وفي مطلع فبراير/شباط الماضي، كان نادٍ بريطاني قد قدم خدمة لرجال الأعمال الإماراتيين للحصول على لقاح "ساينوفارم" الصيني، وذلك في إطار برنامج هدفه تشجيع السياحة إلى بريطانيا، وهو ما ألقى الضوء على بروز "سياحة اللقاحات".
الولايات المتحدة قِبلة "سياحة اللقاح"
وعلى الرغم من الانتقادات العنيفة التي تواجهها حكومات الدول الغنية، وبخاصة الولايات المتحدة، بسبب تكديسها لملايين الجرعات من لقاحات كورونا، في مقابل معاناة غالبية دول العالم، خصوصاً محدودة الموارد منها، لتوفير جرعات اللقاح لمواطنيها، فإن تقريراً نشرته شبكة CNN الأربعاء 26 مايو/أيار ألقى الضوء على ازدهار "سياحة اللقاح" في الولايات المتحدة بصورة لافتة.
وتحدث تقرير الشبكة الأمريكية مع عدد من "سائحي اللقاح" الذين سافروا من بيرو والمكسيك ودول أخرى إلى الولايات المتحدة مؤخراً، ليس سعياً وراء الإقامة هناك أو "تحقيق الحلم الأمريكي"، ولكن للحصول على لقاح كورونا غير المتوفر في بلادهم.
وقال إيلفر إيستلا وهو رجل أعمال من بيرو يبلغ من العمر 49 عاماً للشبكة إنه وعدداً من عائلته قد جاؤوا إلى الولايات المتحدة "ليس سعياً وراء الحلم الأمريكي ولكن بحثاً عن حلم اللقاح".
وحصل إيستلا على الجرعة الأولى من لقاح فايزر في أحد مراكز التطعيم في مدينة سياتل، حيث كان رجل الأعمال البيروفي قد اتخذ قرار السفر إلى الولايات المتحدة في وقت سابق من العام الجاري بعد أن زادت حدة تفشي الوباء في بلاده وشاهد كثيراً من القريبين منه يسقطون ضحايا له. وتعتبر بيرو، التي يبلغ تعدادها 32 مليون نسمة، من أكثر دول أمريكا اللاتينية تأثراً بالوباء حيث توفي أكثر من 68 ألف بيروفي بسبب كورونا.
وبالتالي عبَّر إيستلا عن سعادته الغامرة عندما تلقى الجرعة الأولى من لقاح فايزر في الأسبوع الأول من مايو/أيار الجاري، واصفاً تلك اللحظة في سياتل بأنها جعلته يشعر "بالتحرر أخيراً. لم أعد مضطراً للمشاركة في لعبة الروليت الروسية مرة أخرى"، في تشبيه لوطأة تفشي كورونا في بلاده والتي لا يمكن لأحد أن يتكهن متى قد يأتي دوره في العدوى.
ازدهار السفر والسياحة
حالة رجل الأعمال البيروفي ليست فردية بل تعكس توجهاً واضحاً تؤكده الأرقام، حيث شهد السفر من بيرو إلى الولايات المتحدة ارتفاعاً بنسبة زادت عن 10% خلال مارس/آذار الماضي مقارنة بمستويات ما قبل الوباء بسبب سياحة اللقاح.
وتعكس أرقام الجرعات التي تلقاها المواطنون في أمريكا الشمالية والجنوبية معاً تفاوتاً مذهلاً، حيث قالت مديرة منظمة الصحة في الأمريكتين كاريسا إيتيان للصحفيين يوم 19 مايو/أيار الجاري إن 400 مليون جرعة تم تقديمها بالفعل لمواطني الأمريكتين، أغلبها لمواطني الولايات المتحدة وحدها.
وأضافت إيتيان: "الواقع أن 3% فقط من سكان أمريكا اللاتينية قد تلقوا اللقاح وهو ما يعني أن أمامنا مشواراً طويلاً للغاية لتلقيح جميع المواطنين"، بينما تلقى أكثر من 50% من مواطني الولايات المتحدة جرعات اللقاح بالفعل، وهو ما يعكس هذا التفاوت الشاسع. وعلقت إيتيان على سياحة اللقاح بأنها لا تمثل حلاً للمشكلة بقدر ما هي "عرض واضح لمدى عدم المساواة في توفير اللقاحات للمواطنين في الأمريكتين".
وحتى 21 مايو/أيار كانت دول منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي قد تلقت ما مجموعه 12 مليون جرعة من لقاحات كورونا عبر مبادرة كوفاكس التي تشرف عليها منظمة الصحة العالمية وتهدف إلى توفير اللقاح للدول الأقل قدرة على الحصول على تلك اللقاحات.
سهولة الحصول على "اللقاح السياحي"
وفي ظل هذه الصورة غير العادلة، ازدهرت سياحة اللقاحات في الولايات المتحدة، حيث أصبح مواطنو الدول الأخرى يسعون للسفر بغرض الحصول على اللقاح، حيث لا يطلب منهم أية أوراق تثبت أنهم مواطنون أمريكيون أو أن لديهم إقامة في الولايات المتحدة، حيث نصت إرشادات مراكز السيطرة على الأمراض في الولايات المتحدة على عدم ضرورة إثبات المواطنة كشرط للحصول على اللقاحات.
وأقدمت مدينة نيويورك على خطوة إضافية لمزيد من التشجيع على سياحة اللقاح، فأقامت مراكز متنقلة للتطعيم تنتشر في المعالم السياحية الأشهر حول المدينة، بحسب ما أعلنه عمدة المدينة بيل دي بلاسيو في 11 مايو/أيار الجاري.
ووصف رجل أعمال بيروفي آخر يدعى فلافيو سان مارتين الموقف بقوله للشبكة الأمريكية إنه "لو أن اللقاح لن يأتي إليك، حان وقت ذهابك أنت إلى حيث يوجد اللقاح". وكان مارتين وأسرته قد سافروا إلى الولايات المتحدة منتصف أبريل/نيسان الماضي وحصلوا على جرعتين من لقاح موديرنا.
وقال رجل الأعمال البالغ من العمر 46 عاماً إنه لو انتظر دوره كي يحصل على اللقاح في بلاده بيرو فربما لا يأتي هذا الدور قبل نهاية العام الجاري، مضيفاً أنه شاهد "دائرة الموت بسبب الوباء تضيق عليه وعلى أسرته" فلم يستطِع الانتظار.
وعبَّرت باميلا كارد المكسيكية البالغة من العمر 37 عاماً عن الموقف نفسه بقولها إنها وولدتها قررا "عدم الانتظار أكثر حتى يأتي دورهما في اللقاح"، مضيفة أنها حصلت على لقاح جونسون وجونسون في إحدى الصيدليات بميامي من خلال تحديد موعد عبر الإنترنت، هي و9 من صديقاتها خلال عطلة نهاية أسبوع طويلة قضوها في المدينة الأمريكية خصيصاً للحصول على اللقاح.
ما تكلفة "سياحة اللقاح" في أمريكا؟
ولا توجد تكلفة إضافية كثمن لجرعات اللقاح نفسها في الولايات المتحدة، أي أن التكلفة تتمثل في ثمن تذكرة الطيران ذهاباً وعودةً وتكلفة الإقامة والإعاشة، لكن الإقبال على سياحة اللقاحات قد أدى بالتبعية إلى ارتفاع كبير في أسعار تذاكر الطيران.
وقال ريكاردو أكوستا، رئيس هيئات السياحة والسفر في بيرو، إن الرحلات الجوية من العاصمة البيروفية ليما إلى الولايات المتحدة محجوزة بالكامل حتى نهاية يونيو/حزيران المقبل، مضيفاً أنه من المتوقع أن يزداد الطلب أكثر بسبب سياحة اللقاح.
وأضاف أكوستا أن عدد المسافرين من بيرو إلى الولايات المتحدة قد ارتفع بنسبة أربعة أضعاف منذ فبراير/شباط، إذ كان 10 آلاف مسافر، ووصل إلى 40780 في أبريل/نيسان. وأدى ذلك بالطبع إلى زيادة كبيرة في ثمن تذكرة السفر، حيث كان متوسط سعر تذكرة الدرجة الاقتصادية من ليما إلى ميامي في هذا الوقت من السنة 500 إلى 700 دولار، لكنها ارتفعت إلى 1200 دولار كحد أدنى وقد تصل إلى 4500 دولار.
وبالطبع لا يستطيع أغلب سكان بيرو أو المكسيك أو باقي دول أمريكا اللاتينية تحمل تكلفة سياحة اللقاح إلى الولايات المتحدة، ناهيك عن مواطني أغلب الدول الإفريقية وكثير من دول العالم الأخرى التي لا تزال غير قادرة على توفير جرعات اللقاح الكافية لتطعيم نسبة كبيرة من مواطنيها تساعد على التخفيف من حدو تفشي الوباء.
اللافت في ازدهار سياحة اللقاح في الولايات المتحدة هو أن هناك إجماعاً بين خبراء الأوبئة على أن العالم لن يتمكن من هزيمة وباء كورونا إلا إذا تم توفير اللقاحات لجميع سكان العالم، وليس فقط لمواطني الدول الغنية، لكن الواضح هنا هو أن تلك الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل عام يبدو أنها خرجت عن السيطرة.