قابل البعض مقالي المعنون بـ"حلول ناعمة لسد النهضة"، الذي نُشر على موقع "عربي بوست" الأسبوع الماضي، بتعليقات مفادها أن الحل العسكري هو الحل الوحيد الذي يجب على مصر والسودان أن يتّبعاه، وأن الحلول الناعمة قد ولّى وقتها إلى غير رجعة. تمادى البعض في تشكيكي في قدرة الجيش المصري على ضرب جسم السد بالطيران، خاصة أن مصر تمتلك الآن طائرات رافال الفرنسية، المؤهلة بامتياز لحمل صواريخ قادرة على ضرب السد في مقتل، وأن التعاون المصري السوداني قد بدأ بالفعل من خلال مناورات عسكرية شاملة في السودان تحت اسم "حماة النيل"؛ ما يعني أن مصر الآن قادرة على استخدام الأراضي السودانية لتنطلق منها طائرات الرافال لتضرب السد بسهولة وتعود من حيث انطلقت بسهولة أكبر. ورغم أني أوضحت باختصار –في مقالتي المشار إليها– المشكلات التي تكتنف اتباع هذا الحل العسكري، فإن الصورة ما زالت منقوصة لدى الكثير من المصريين؛ ما دفعني لكتابة هذه المقالة، التي أوضح فيها بتفصيل أكبر بعض الشيء عدم جدوى ضرب السد الآن، وأن الذي يناسبنا الآن هي الحلول الناعمة -أياً كانت- لا غيرها.
تأكيد على ثقتي في الجيش المصري
أؤكد قبل كل شيء على كامل ثقتي في قدرة القوات المسلحة المصرية واستعداداتها الجبارة على كل المستويات البرية والبحرية والجوية والاستخباراتية. أما رأيي في عدم جدوى ضرب سد النهضة الآن فلا ينبع من شكي أو تشكيكي في قدرات القوات المسلحة المصرية، التي أعلم أنها قادرة -بإذن الله- على فعل المستحيل، بل مردّه عواقب هذا العمل سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً ومجتمعياً على مصر والمصريين. أما الشك الذي يساورني بالفعل فهو تنامي لهجة التصعيد والضغط على الدولة المصرية لتأخذ بقرار ضرب السد بالفعل، لتورّط القوات المسلحة المصرية ومعها مصر -حكومة وشعباً- وتضعها في موضع المعتدي لا من يدافع عن حقه.
ما الذي يمكن أن يحدث لو أقدمت مصر على ضرب السد؟
والآن، لنواجه الأمر بالحقائق، فقد قامت إسرائيل بتركيب منظومة سبايدر SPYDER-MR، إحدى المنظومات القوية المضادة للصواريخ بجانب السد، في عام 2019، وهذه منظومة قادرة على صدّ الهجمات الصاروخية التي قد توجَّه لجسم السد. فماذا نحن فاعلون لو تصدت هذه البطاريات للصواريخ المصرية، وفشلت الصواريخ في إلحاق ضرر كبير بجسم السد؟ ألن تهتز ثقة الشعب المصري في قواته المسلحة؟ ألن ترفع إثيوبيا قضايا ضد مصر في المحاكم الدولية؟ ألن تدين الدول التي تعادينا -وأولها الدول التي قد تبدو صديقة مثل الولايات المتحدة- هذا العمل، وربما تتخذ قراراً بمعاقبة مصر اقتصادياً أو سياسياً؟ هل سيكون لمصر حينها صوت في إفريقيا والاتحاد الإفريقي، الذي ربما نخسر عضويته للأبد؟ هذه بعض من النتائج المتوقعة حال فشل الضربة الجوية للسد.
وماذا لو نجحت الضربة؟ هل سيصفق العالم لنا ونحن مَن وقّعنا على وثيقة المبادئ في 2015، ثم جئنا لنضرب السد الذي وافقنا على إنشائه بعد 5 سنوات؟ هل ستترك إثيوبيا حقها وتستكين دون رد، خاصة أن مسألة السد في إثيوبيا قد باتت مسألة كرامة، نتيجة الدعاية والأخبار التي تتواجد بشأنه ليلاً ونهاراً على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الإثيوبية، هل يمكن أن تقدم إثيوبيا على عمل انتقامي داخل الأراضي المصرية أو خارجها؟ وأخيراً، أين ستذهب مليارات الأمتار من المياه المخزنة وراء جسم السد الآن؟ لو نجحت الضربة الجوية في تدمير السد فستنطلق هذه المليارات من المياه بقوة نحو السودان وستدمر كل ما يعترضها. يقول البعض: إن المياه المخزنة وراء السد الآن هي نفسها التي تحمي السد، وهذا حقيقي إلى حد كبير.
ما الحل إذن؟
كل هذه العواقب المتوقعة من ضرب السد سواء نجحت الضربة أو فشلت عواقب كارثية، خاصة إذا اتخذت بعض الشركات والبنوك العاملة في سد النهضة قراراً بإلغاء استثماراتها في مصر؟ ولهذه الأسباب مجتمعة أعتقد أن الضربة الجوية للسد ليست هي الحل، وأن الحل الأنسب الآن هو الحلول الناعمة التي اقترحتها في مقالتي المشار إليها سابقاً، والتي تتلخص في الضغط على إثيوبيا لإطالة مدة تخزين المياه إلى أطول فترة ممكنة، مع التحرك داخلياً لترشيد المياه، والتعاون مع جمهورية الكونغو في ربط نهر الكونغو بنهر النيل، واختراق الداخل الإثيوبي اقتصادياً لمنعها من إلحاق أي أضرار بحصة مصر مستقبلاً، بل والتعاون مع إثيوبيا في كل المجالات.
الحكمة.. الحكمة
تقول الحكمة "ما تكسبه بالحرب يمكنك كسب أضعافه بالحكمة". فهل نتوقف عن الضغط على جيشنا بضرورة ضرب السد، وهل نبدأ في حشد شعبي من خلال وسائل التواصل والهاشتاغات في حملة منظمة (مثل حملة #Gaza_Under_Attack) لتغيير الرأي العام العالمي من سد النهضة، ما يُمهد لضغط دولي على إثيوبيا لإطالة مدة ملء السد، وإظهار مصر بأنها تحترم الاتفاقيات التي وقّعت عليها؟ أتمنى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.