مَن يتجول بين وسائل السوشيال ميديا في الوقت الحاضر، يلفته وبشدة قضية سكان الشيخ جراح، ومحاولة الاحتلال الصهيوني تهجيرهم القسري من منازلهم. ولأسباب سياسية كانت أو إنسانية اجتاحني، كما اجتاح الكثيرين غضب عارم، الشعور بالقهر من التخاذل الدولي والعربي، شعور بالعجز عن نصرة المظلوم، وكثير من المشاعر التي تضاربت في قلبي، وأفكار أكثر في عقلي عن الأسباب الكثيرة التي تجعل الإنسان يتعلق بأرضه وبيته.
سكان الحي كانوا وما زالوا مستعدين لبذل حياتهم التي صنعوها ومن قبلهم آباؤهم وأجدادهم، مقابل أن تبقى جذورهم ضاربة في هذه الأرض، في الحقيقة عجبت من صمودهم. وطاف في خيالي زيارة كنت قد رافقت والدتي فيها إلى إحدى صديقاتها منذ عقد وأكثر من الزمن، إلى حي قديم من أحياء مدينتي الوديعة العريقة، حماة.
شعرت يومها أني عبرت بوابة من بوابات التاريخ، وانتقلت عبر عصوره، تأملت أثر السنين في أرضية الحي، قرأت ذكريات مخطوطة بحب وخبث على جدرانه.
هالني السقف الخشبي البعيد وكيف تداخلت أشعة الشمس من خلاله وانعكست على أبواب المنازل بألق جميل… ترى كم شهد هذا الحي من أحداث وكم عاصر من أجيال.
ووصلنا إلى البيت كان أول ما أذهلني طريقة قرع الباب، فلا جرس هنا ولا كاميرا، بل مجرد أداة حديدية أنيقة تتوسط الباب منقوش عليها رأس أسد، ومثبتة بقاعدة حديدية تساعد في إصدار الصوت لينتبه أهل الدار، قالت أمي إن اسمها (سقّاطة)، يبدو لأنها تسقط فتدوِّي.
أحببت هذه السقاطة وتمنيت لو أن كل الأبواب مزودة بهذه الميزة، لأنها تعطيك الفرصة لتؤلف نغمتك الخاصة وتطرق بها الباب.
وهكذا وصلنا إلى باحة المنزل أو كما يسمونها (أرض الدار)، حيث تجلس العائلة وضيوفهم في فصل الصيف حول بركة ماء صغيرة بأرضية رخامية، جدرانها من الفسيفساء الأزرق والأبيض، وتتوسطها نافورة تلقي الماء برقة في البركة التي تطفو على سطحها أزهار الياسمين، فيفوح عبيرها في أرجاء المكان.
كل شيء من حولي بدا بسيطاً جداً ومريحاً جداً، لا تخلو زاوية من الزوايا من نباتات خضراء بأزهار ملونة وأخرى بيضاء ناصعة، الجاردينيا والفل والريحان وقلب عبدالوهاب، جلسنا تحت تعريشة العنب المتدلي الذي لم يأن أوان نضوجه، على كراسي منخفضة بلا مساند، وشربنا عصير التوت الشامي المنعش.
كانت صديقة أمي تحكي عن ارتباطها الشديد بمنزلها، وعن صعوبة التفكير بمغادرته رغم إلحاح أبنائها وبناتها الذين يسكنون كما قالت بيوت أشبه بعلب الكبريت!
شعرت من تعابير وجهها وكلماتها السريعة الصادقة بأن هذا البيت يسكنها تماماً كما تسكنه.
البيوت القديمة لها سحر خاص، تهيِّئ لك كل السبل لتحبها، تشعرك بالأمان والحميمية، جدرانها الحجرية دافئة ومبهجة تثري خيال من يتأملها بتفاصيلها الكثيرة، تسمعك بصبر وتكتم أسرارك، تعيش تفاصيل حياتك فكأنَّ روحاً تآلفت مع روحك.
قد لا نشعر بهذا الإحساس أبداً نحن الذين تربينا في بيوت حديثة، وتنقلنا في أوطان مؤجرة كنا ندرك من البداية أننا ضيوف فيها، قد نغادرها غداً أو بعد عام.. فلم نرتبط معها بعلاقة حب عابرة.
عندما انتقلت من بيتي لأول مرة، طافت عيناي في أرجائه، أين سأخبئ دموعاً ذرفتها وغصات ابتلعتها، كيف سأمحو أصوات ضحكات أطفالي، كيف أكتم ضجيج أواني مطبخي، وتوسلات ابنتي لتسهر لما بعد منتصف الليل!
الحمد لله أن الجدران الإسمنتية صماء لا تخزن المشاعر ولا تبوح بالأسرار، لم يتطلب الأمر منا إلا أن نطلي جدران غرفة الجلوس، لنزيل خربشات قد يظن من يراها أنها شيفرة سرية لعملية حربية!
وهكذا في كل بيت سكنته كنت أحرص على ألا أبني معه علاقة من أي نوع، وألا أرتبط بجدرانه ولا بشرفاته، هل سهل عليَّ هذا الأمر المغادرة؟
هل أعطاني مرونة في تقبُّل التنقلات الكثيرة في حياتنا المعاصرة المهاجرة؟
ربما.. لكن ما أدركه جيداً أنني أغبط من يسكن في بيت قديم، تضرب جذوره فيه بعمق، يعيده الحنين ويثبته بأصوله إذا هاج الزمان، وأشُد على أيدي المقدسيين، لله درّهم، كم صبروا وكم ثبتوا، لله صبرنا وصبرهم، جرحنا وجرحهم، وأستودع الله حياتهم ومستقبل أبنائهم.
وعند الله لا تضيع الودائع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.