حشد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أكثر من 70 سفيراً ودبلوماسياً لدى تل أبيب، وخاطب العالم من خلالهم، زاعماً أن "إسرائيل لم تسعَ إلى هذا النزاع"، وأن عدم استهداف المدنيين في غزة هدف وغاية له.
الخطوة التي أقدم عليها نتنياهو اليوم الأربعاء 19 مايو/أيار لها دلالات لا يمكن تجاهلها، فهي تأتي في اليوم التاسع من العدوان الذي تشنه قوات الاحتلال على قطاع غزة، وسط تزايُد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لوقف العدوان، حتى وإن كانت تلك الضغوط يجري معظمها بعيداً عن أعين الإعلام.
ماذا قال نتنياهو؟
بدأ نتنياهو كلامه الموجه إلى نحو 70 سفيراً ودبلوماسياً أجنبياً لدى تل أبيب، حشدهم من خلال وزير خارجيته غابي أشكينازي، الذي وقف بجوار رئيس الوزراء وهو يقدم روايته الخاصة عما يحدث إلى الإسرائيليين وإلى العالم.
وزعم نتنياهو بأن إسرائيل "لم تسعَ إلى هذا النزاع"، وأن جذور الجولة الحالية من التصعيد تعود إلى إلغاء الانتخابات العامة الفلسطينية، متهماً "حماس" باستغلال "يوم القدس" والتطورات في حي الشيخ جراح في مدينة القدس لتأجيج أعمال العنف والشغب من أجل تحقيق أهداف جيوسياسية.
واتهم "حماس" أيضاً بأنها أنشأت مدينة تحت الأرض في قطاع غزة، وأنها تُطلق النار من مناطق مأهولة، محاولاً من خلال عرض بعض مقاطع الفيديو التي لا تظهر شيئاً ولا تفاصيل تتماشى على الأقل ما يردده من كلمات أن يقنع جمهوره المفترض، بأن حماس هي التي تقتل المدنيين في القطاع.
وبعد أن استفاض في محاولة إظهار مدى حرص جيش الاحتلال على حياة المدنيين ومنازلهم في غزة، قال نتنياهو إن هناك طريقين لاستعادة الهدوء، وهما "إما الانتصار أو ردعهم".
ودعا نتنياهو الدول الأخرى إلى إبداء التضامن مع إسرائيل، محذراً من أنه إذا اعتقدت "حماس" أنها تحقق انتصاراً فإنه يمثل "هزيمة لنا كلنا وللغرب بأسره"، وأعرب عن امتنانه للدبلوماسيين الأجانب الحاضرين، لما قدمته دولهم من الدعم إلى إسرائيل في هذه "اللحظة العصيبة"، بحسب تقرير لموقع روسيا اليوم.
وأكد نتنياهو عدم وجود جدول زمني لإنهاء العملية الإسرائيلية في غزة، مشدداً على أن بلاده "تهتم أولاً بتحقيق الأهداف المطروحة وليس بموعد انتهاء الحملة".
إسرائيليون يكشفون أكاذيب نتنياهو
يوصف نتنياهو من جانب غالبية السياسيين الإسرائيليين بأنه "كاذب ومخادع"، ويقول ويفعل أي شيء على الإطلاق لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة، ولو على حساب مصلحة إسرائيل نفسها.
ونبدأ من كذبة "إسرائيل لم تسعَ إلى هذا النزاع"، التي ردَّدها نتنياهو اليوم، فنجد أن نتنياهو قد تأخر كثيراً هذه المرة في سعيه إلى ترسيخ هذا الزعم، فمنذ اليوم الأول للتصعيد على قطاع غزة كانت الحقيقة واضحة للجميع داخل إسرائيل وخارجها، وصولاً إلى الولايات المتحدة.
وهذه النقطة بالتحديد تناولها تقرير لموقع The Intercept الأمريكي، بعنوان "ولكن ماذا عن صواريخ حماس؟"، جاءت مقدمته نصاً: "لا بد أن نكون واضحين: ما بدأ هذا الرعب الحالي كان تصعيد إسرائيل حملة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية".
أما عن اتهام نتنياهو لحماس بأنها استغلت الموقف لتحقيق أهداف "جيوسياسية"، فالواضح هنا أن رئيس الوزراء المتهم بالفساد وتلقي الرشوة وخيانة الأمانة يتبع سياسة "الإسقاط"، أي اتهام الآخرين بما يفعله هو حرفياً.
نتنياهو حاول، من خلال الإيجاز الذي عقده مع أشكنازي في تل أبيب لسفراء ودبلوماسيين أجانب، أن يصور ما يحدث على أنه "حرب بين الديمقراطية والإرهاب"، واضعاً نفسه في وضع المدافع عن الديمقراطية عالمياً، وهي حالة أخرى صارخة من حالات "الإسقاط".
لماذا هذا العرض الهزيل من نتنياهو الآن؟
حقيقة الأمر هي أن جميع الأكاذيب التي ردَّدها نتنياهو أمام الحشد من السفراء الأجانب لا تستحق الرد عليها من الأساس، إذ جاءت كلماته غير متناسقة، وأداؤه غلب عليه الارتباك، وتعبيرات وجهه تعكس توتراً حاول جاهداً أن يخفيه دون جدوى، قبل أن يطلب أشكنازي من الصحفيين مغادرة القاعة، ويبدأ الحديث بين نتنياهو والسفراء الذين حشدهم خلف الأبواب المغلقة.
والسؤال الحقيقي هنا هو: لماذا أقدم نتنياهو على الاجتماع بكل هؤلاء السفراء والدبلوماسيين الأجانب اليوم تحديداً؟ والواقع أن الإجابة واضحة تماماً، ومؤشراتها حديث الساعة الآن داخل وخارج إسرائيل.
أول هذه المؤشرات هو زيادة الضغوط التي تمارسها الحكومات الغربية والشرقية -خلف الأبواب المغلقة معظم الوقت لكنها بدأت تخرج للعلن بوضوح- لوقف إسرائيل عدوانها على غزة فوراً ودون تأخير، رغم أن الصياغة هي "وقف الحرب بين إسرائيل وحماس".
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً عنوانه "الصراع بين إسرائيل وغزة: فرنسا ومصر تزيدان الضغوط على الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار"، رصد تزايُد الضغوط الدولية على إدارة بايدن كي تطالب فوراً بوقف إطلاق النار، وهو ما كان رئيس مجلس الأمن الدولي قد قال إنه على وشك الحدوث بالفعل.
واليوم الأربعاء، أيضاً بعد ساعات قليلة من إنهاء نتنياهو عرضه الهزيل أمام الكاميرات، نشرت وكالة إنترفاكس الروسية خبراً عاجلاً، مفاده أن موسكو أبلغت تل أبيب رسمياً أن "أي سقوط جديد لضحايا أو مبانٍ في قطاع غزة لم يعد مقبولاً".
أما داخل إسرائيل نفسها فبدأت الأصوات تتعالى، مطالبةً نتنياهو بوقف الهجوم على غزة، ونقلت صحيفة هآرتس عن محللها العسكري عاموس هارئيل قوله إن "كبار قادة الجيش يريدون إنهاء العدوان على قطاع غزة، لكن نتنياهو يعارض ذلك، بحثاً عن نصر واضح".
ماذا يعني "النصر الواضح" الذي يريده نتنياهو؟ القضاء تماماً على القدرات العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وخصوصاً حماس، حتى وإن كان ذلك يعني هدم جميع مباني غزة بالكامل على رؤوس سكانها، البالغ عددهم أكثر من مليوني فلسطيني، فهل يستطيع؟
الإجابة بالطبع كلا، ونتنياهو يدرك ذلك جيداً، وفي هذا السياق جاء حشده للسفراء والدبلوماسيين الأجانب والعرض المسرحي الهزيل الذي قدمه أمام وسائل الإعلام على عجل، على الأرجح تمهيداً لقرار وقف العدوان على غزة، الذي كانت وسائل إعلام إسرائيلية، منها صحيفة هآرتس، قد قالت إن نتنياهو أبلغ مستشاريه أنه سيكون الخميس 20 مايو/أيار.
فقد تحقّق النصر السياسي بالفعل للفلسطينيين، بعد أن عادت قضيتهم للواجهة، وأصبح حل الدولتين محور الحديث في أي نقاش يدور حالياً، من البيت الأبيض إلى أوروبا، إلى الصين وروسيا، إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وتوارى المطبّعون الجدد عن المشهد تماماً.
الخلاصة هنا أن نتنياهو، الذي يكذب بنفس الوتيرة التي يتنفس بها، ردّد أكاذيبه التي ردّدها اليوم تحديداً، بعد أن أدرك أنه لن يستطيع مواصلة عدوانه على غزة، بعد أن خسرت إسرائيل الحرب وانتهى الأمر، وبالتالي أراد أن يمهد لناخبيه قرار وقف العدوان، استعداداً للانتخابات الخامسة إذا ما فشل في إعادة محاولة تشكيل الحكومة، بعد أن تنتهي مهلة يائير لابيد خلال أسبوعين.