حتى قبل تشكيكه في وجود الجزائر كأمة قبل الاستعمار الفرنسي، جاءت تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إزاء ماضي فرنسا الاستعماري مخيبة للتوقعات.
وعند مقارنة ما فعلته فرنسا التي تقدم نفسها بلد الحريات والتنوير في هذا الملف وبين تجربة جنوب إفريقيا، يبدو الأمر محرجاً للغاية لباريس.
إذ كانت تحركات الرئيس الفرنسي في هذا الملف مرتبكة، وترمي إلى عدم إغضاب اليمين في بلاده أكثر من كونها تبحث عن مصالحة حقيقية.
وشكل الرئيس ماكرون لجنة "الذكريات والحقيقة" برئاسة المؤرخ بنجامين ستورا حول دور فرنسا في الجزائر، من أجل "النظر بوضوح إلى جراح الماضي"، وقدم المؤرخ الفرنسي تقريره المبدئي إلى ماكرون في 20 يناير/كانون الثاني 2021.
وبدت أن مبادرة ماكرون لم تحقق غرضها، إذ وجهت اتهامات لستورا من قبل الجزائريين برفضه "اعتذار" فرنسا عن 132 سنة من الاستعمار للجزائر، وهو ما نفاه المؤرخ الشهير.
ولكن في نفس يوم تسلم تقرير ستورا، عادت مساعي التسوية في ملف الذاكرة التاريخية بين الجزائر وفرنسا إلى نقطة الصفر، بعد أن صدر بيان للرئاسة الفرنسية، في 20 يناير/كانون الثاني 2021، استبعد اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر ورفضها مبدأ الاعتذار.
محاولة مرتبكة لرفع السرية عن أرشيف ماضي فرنسا الاستعماري
في محاولة لاحتواء غضب الجزائر، وأيضاً علماء التاريخ الفرنسيين الذين يشكون من وقف نشر كتبهم بسبب ممارسات الجيش الفرنسي، قرر ماكرون في مارس/أذار 2021، تسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف الفرنسي السري الذي يزيد عمره على خمسين عاماً، ومن ضمنه وثائق الحرب الجزائرية عملاً بما أوصى به ستورا، الذي اقترح إرسال إشارات تهدئة إلى الجزائر التي تطالب باريس منذ سنوات بفتح محفوظات الاستعمار الفرنسي وتسوية قضية المفقودين في حرب الاستقلال، وعددهم نحو ألفي شخص، فضلاً عن التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.
ولكن القرار أثار خيبة أمل عند المتخصصين لأنه لا يعني رفع السرية عن كل الأرشيف الفرنسي دفعة واحدة، ولكن بدلاً من رفع السرية عن ورقة ورقة، ستصبح العملية أكثر اتساعاً فقط، ولكنها ستظل انتقائية ويحتمل أن تقلل العراقيل ولكن لن تزيلها.
وقال بعض المؤرِّخين إن القواعد الجديدة بالكاد تتناول شكاواهم، حسبما نقلت عنهم صحيفة New York Times الأمريكية.
وقال فابريس ريسيبوتي، مؤرِّخ الحرب الجزائرية، إن سياسة رفع السرية أدَّت إلى بعض المواقف السخيفة. واستشهد بزيارةٍ للأرشيف الوطني الفرنسي عام 2019، حين قرأ وثيقةً سرية من عام 1957، كُشِفَ عنها قبل عقدٍ من الزمن بموجب قانون 2008، توضِّح بالتفصيل استخدام التعذيب من قِبَلِ القوات الفرنسية خلال الحرب الجزائرية.
وفي الواقع، لم يكن التقرير سرياً، إذ كُشِفَ عنه لأول مرة في كتابٍ عام 1962، ثم استُشهِدَ به في العديد من الدراسات التاريخية في التسعينيات، حسب تقرير صحيفة New York Times.
لكن برونو ريكارد، رئيس الأرشيف الوطني، قال إن التقرير أصبح سرياً الآن مرةً أخرى، وفقاً لتعليمات الحكومة.
"لا ندم"
أما عندما يتعلق الأمر بالاعتذار عن ماضي فرنسا الاستعماري، فلا يبدو أن باريس حققت أي تقدم.
فلقد رفضت فرنسا تقديم "اعتذار عن فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر بأكملها".
بل يعيد اليمين الفرنسي تمجيد دور فرنسا في الحرب الجزائرية، فلقد قرر حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" المحافظ قبل عقدين ملاحقة الأصوات الانتخابية لليمين المتطرف عن طريق تبني هذا الخطاب.
وتجلت أولى علامات هذا التحول السياسي عام 2005، مع تبني قانون، دفعت به الأغلبية اليمينية، يطالب بتوفير مساحة كافية في المناهج الدراسية "للدور الإيجابي للوجود الفرنسي في الخارج"، لكن تم حذف هذه العبارة لاحقاً. وبعدها بعامين، نجح المرشح الرئاسي وقتها، نيكولا ساركوزي، في حملته الانتخابية التي حملت شعار "لا ندم"، مؤكداً أنه لا ينبغي لفرنسا أن تخجل من ماضيها الاستعماري، وأنها مَدينة معنوياً "للأقدام السوداء" (المستوطنين الأوروبيين في الجزائر) عن معاناتهم.
واليوم، لا يزال شعار "لا ندم" قانوناً أساسياً في السياسة الفرنسية: ويحرص الإليزيه على التأكيد عليه حتى بعد تلقيه تقرير ستورا، ما يدل على أخذه خطر ابتعاد الناخبين اليمينيين عنه على محمل الجد.
وقدم مُعدّ التقرير، المؤرخ الشهير بنيامين ستورا، نصائح شملت اتخاذ الكثير من الإجراءات الرمزية، مثل إعادة سيف أحد أبطال مقاومة القرن التاسع عشر إلى الجزائر، ورفع الوعي بالاحتلال الفرنسي للجزائر.
إذ قدّر ستورا أن حوالي 7 ملايين شخص يعيشون حالياً في فرنسا مرتبطين بماضي البلاد المتعلق بالجزائر، ويبدو أن قلة قليلة منهم، أو ممن هم في الجزائر، راضون عن تقريره النهائي.
وفي الجزائر لم تُقَابل توصيات التقرير بحماس كبير، إذ دعا متحدث باسم الحكومة الجزائرية، دون الإشارة إلى التقرير صراحةً، فرنسا مؤخراً إلى الاعتراف "بجرائمها الاستعمارية".
لقاء بين ماكرون وبين أحفاد محامٍ جزائري قتلته فرنسا
في شهر مارس/آذار وتحت ثريات قصر الإليزيه، قابل أربعة بالغون من أبناء عمومة واحدة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وما حدث فعلياً أنهم أرادوا معرفة ما حدث في الواقع لجدهم، علي بومنجل، وهو محام قومي توفي في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي بعد أن ألقت القوات الفرنسية القبض عليه في عام 1957.
تقول الرواية الرسمية آنذاك إنه انتحر. ولكن في واقع الأمر، اعترف ماكرون بأن بومنجل تعرض للتعذيب والقتل على يد الجيش الفرنسي. أُلقي جسده من إحدى النوافذ لتزييف سبب وفاته.
يقول المؤرخ بنجامين ستورا، الذي حضر اللقاء، إن الرئيس وأحفاد المحامي -وجمعيهم من نفس الجيل- دخلوا في "حوار استثنائي"، حسبما تنقل عنه مجلة The Economist البريطانية.
ويوضح أن انزعاج أبناء العمومة ركز على سؤال يقول "كيف يمكننا العيش في بلد اغتال جدنا؟" صحيحٌ أن جنرالاً فرنسياً اعترف قبل 20 عاماً بأنه أمر باغتيال بومنجل، لكن لم تعترف الحكومة الفرنسية قط بارتكاب الجريمة.
في عام 1962، انتهت حرب الجزائر لنيل الاستقلال بعد استمرارها 8 أعوام. لكن مثل هذه التساؤلات تؤرق جيلاً أصغر، يشعر أن فرنسا عليها الاعتراف تماماً بالفظائع التي ارتكبتها.
وفي عام 2018، اعترف الرئيس الفرنسي بأنه في عام 1957 عذبت الدولة الفرنسية وأعدمت موريس أودين، الذي كان شاباً فرنسياً شيوعياً وقومياً. ولم يفعل أي من رؤساء فرنسا السابقين نفس الأمر. وأعلن ماكرون في العام الماضي أن "فرنسا ما زالت لم تحل صدمات" ماضيها الاستعماري.
سوف يدير ستورا هذه اللجنة بداية من هذا الشهر، ولا يزال العمل جارياً على التفاصيل. وتجدر الإشارة إلى أن عديداً من الشهود والأبطال ماتوا.
ويقول ستورا إنه سوف يضم شهادات من الأحفاد والأعمال التاريخية والنصب التذكارية. أمر ماكرون بفتح أرشيفات مصنفة ارتباطاً مع هذا العصر.
هل مثل هذه اللجان بديل عن العدالة الحقيقية؟
على مدى نصف القرن الماضي، أُنشئت أكثر من 50 لجنة حقائق حول العالم. وصارت أداة للبلاد التي تخرج من عهود وأزمنة صادمة من التاريخ من أجل أن تواجه الماضي وتكسر عجلات العنف، وتمضي قدماً في طريقها.
وفقاً لبريسيلا هاينر، وهي حقوقية ومؤلفة دراسة عالمية عن هذه اللجان، يكمن الهدف الأساسي منها في "التحقيق في أي نمط من انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، والإبلاغ عنها". وتنهي اللجنة في العموم أعمالها بتقديم تقرير وتوصيات.
ومع ذلك، تعد أي لجنة حقائق صورة من صورة الاعتراف. إذ تعترف رسمياً بفظائع الماضي. ويمكن أن تسعى كذلك للتصالح مع الخصوم السابقين. تؤدي نتائج بعض هذه اللجان إلى إجراء محاكمات. فيما تكون أخرى بديلاً عن العدالة العقابية، حسب تقرير مجلة The Economist.
الحرب خلقت مشكلة انتماء في فرنسا
تأتي هذه اللجنة متأخرة للغاية لكي تتمكن من إصدار العفو أو تحقيق العدالة الجنائية، حسب المجلة البريطانية.
ولكن بعد 60 عاماً، ما زال الشغف من أجل الحصول على إجابات قوياً على نحو مدهش. تقول الصحفية الفرنسية ذات الأصول الجزائرية، نورا حمادي: "إنها ضرورية بكل تأكيد، ولا بديل عنها". وتشير إلى "استمرار لصدمة" بين أبناء وأحفاد الضحايا، وحالة "غضب ضد فرنسا لعدم الاعتراف والاحترام".
وحُكمت الجزائر بوصفها جزءاً من فرنسا بداية من عام 1830 حتى استقلالها. واليوم، يرتبط حوالي 7 ملايين شخص من السكان الفرنسيين بماضي فرنسا الاستعماري، سواء كانوا مهاجرين أو من المستوطنين الأوروبيين البيض بالجزائر (الأقدام السوداء) أو الجنود (بمن فيهم جنود الحركة الجزائريين الذين قاتلوا من أجل فرنسا) أو عائلات هذه الفئات.
تعرب فايزة جوين، وهي كاتبة فرنسية ذات أصول جزائرية، عن أسفها من "انتقال الصمت". وتقول: "إذا لم نتحدث عن هذا، فلن يكون لدينا فرصة لحل مشكلة الانتماء إلى فرنسا".
خطوات محدودة
كان الموضوع محرماً لوقت طويل. إذ إن الحكومة الفرنسية كانت تعتبر الصراع حرباً قبل عام 1999. لكن القادة السياسيين اتخذوا خطوات أكثر. قدم الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي خريطة إلى الجزائر لـ11 مليون لغم زرعها الجيش الفرنسي. واعترف الرئيس السابق فرانسوا أولاند بـ"القمع الدموي" المشهود في مذبحة القوميين الجزائريين في باريس في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961.
ولكن لا يزال هناك عديد من التساؤلات. يقول ستورا: "طالما كانت فرنسا في حالة إنكار ولعهد طويل. لذلك يعد الأمر معقداً. لكننا في حاجة إلى العثور على طريق لإقامة الحوار بين جميع الأطراف. الجميع محاصرون في معاناتهم الخاصة".
نموذج جنوب إفريقيا
وفي سياق آخر لأعمال مثل هذه اللجان ولكن في دولة أخرى، تقول آنا مويو كوبيتا، من مركز دراسة العنف والمصالحة ( Centre for the Study of Violence and Reconciliation): "تجربتنا في جنوب إفريقيا أن الحقيقة لا تؤدي دائماً إلى المصالحة. شعر الناس أنهم أُجبروا على العفو".
ويجادل محمود ممداني، الأكاديمي الأوغندي، بأن لجان الحقائق والمصالحة ساعدت على "إخراج الفصل العنصري من سياقه". لم يكُن الفصل العنصري متعلقاً بفِرق الموت فحسب، بل كان نظاماً اقتصادياً وقانونياً أُنشئ على أسس استعمارية. ويرى ممداني أن التأطير الضيق للجان الحقائق والمصالحة سهلت على البيض الجنوب إفريقيين البيض الذين استفادوا من الفصل العنصري، لكنهم كانوا خارج الدولة الأمنية، أن ينجحوا في إنكار تورطهم في هذا النظام.
المفاجأة أنها أدت إلى رضا جزئي للسود
يضاف إلى ذلك أن لجنة الحقائق والمصالحة جعلت الأمر مستحيلاً على الجنوب أفارقة البيض أن يقول أحدهم: "لم أكن أعرف". فقد استمعت هذه اللجنة، على سبيل المثال، إلى اعترافات أربعة رجال شرطة بيض ضربوا الناشط الجنوب إفريقي ستيف بيكو، زعيم حركة الوعي الأسود، وقيدوه وتركوه دون معالجة إصاباته.
توفي بيكو في منتصف الطريق أثناء نقله إلى مستشفى السجن، عارياً ومقيداً بالأصفاد وغائباً عن الوعي. قالت دولة الفصل العنصري إنه مات بسبب الإضراب عن الطعام. كذلك أعطت اللجنة بعض الضحايا، إن لم يكن جميعهم، ختاماً إجبارياً.
ففي استبيان يعود لعام 2019، وُجد أن 66% من الجنوب أفارقة وافقوا على أن اللجنة "قدمت أساساً جيداً لجنوب إفريقيا كي تحقق المصالحة".